3

:: كاميرا ابن الرومي ::

   
 

التاريخ : 18/05/2011

الكاتب : توفيق أبو شومر   عدد القراءات : 1964

 


 

 

إنه ليس شاعرا كما الشعراء، بل هو شاعرٌ فنانٌ، رسامٌ مصورٌ، أنصفه قليلون وظلمه كثيرون، أضحك قارئيه وسامعيه، وأحزن دارسيه، لأنه كان كما قالوا مريضا بمرض العزلة، يكره الخروج للناس، كان مُتَطيِّرا متشائما، ثَقَبَ بابَ بيتِه الخارجي ليرى الطريق قبل أن يخرج إليها، لأنه كان يتشاءم من الأقوال والأشكال، وكان حتى الأطفال يهزؤون به، عندما يحسون بأنه ينوي للخروج من البيت، فكانوا يمنعونه، فيصرخون:

غراب البين

هو شاعرٌ أرسى مذهبا نقديا في الشعر العربي، ابتدعه الناقدُ والأديبُ والمفكر الكبير عباس محمود العقاد، حين أرسى نظرية (النقد النفسية) التي تُحاكم الشعر وتنقده وفق نفسية قائله!

هو شاعر فنانٌ تشكيليٌ، ومصور سينمائي، اعتاد أن يجعلَ للحروف العربية ألوان الطيف، وأن يمزج الألوان بالكلمات، فتغدو لوحاتٍ فريدةً بديعة الصورة والشكل، تكون في شكل قصائد جميلة الوقع، سرعان ما تنعكس على العقل في صورة بديعة التكوين، فتتركُ بصماتها على قارئيها وسامعيها!

 إنه الشاعرُ الكبير ابن الرومي (علي بن العباس بن جريج) الذي عاش في العصر العباسي، في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي.

قال عنه العقاد:

 لم تكن لوحاته الشعرية، وقصائده الوصفية سوى محاولة للهروب من مرض التشاؤم والتطيُّر، أي من (فوبيا الخوف)!

إنه ابن الرومي الفنان الذي انكفأ على نفسه، واستخرج منها ألماسَها المدفونَ ودررَها وجواهرَها، فغدا بيكاسو الشعراء، فقد كان وصفُه فيلما سينمائيا، فهو عندما يصف خبازا يصنع الخبز في تنوره، يصفُهُ بعين مصورٍ فنانٍ، فيجعل كُرةَ العجين البيضاءَ رُقاقةً مستديرةً كالقمر في لمح البصر، ثم يؤكد صورتَه السريعةَ تلك بصورةٍ أخرى تشبيهية، حين يشيرُ إلى أن السرعة التي تمتْ فيه عملية الخبز، تماثل بالضبط سرعة رميَ حجرٍ في الماء يقول:

ما أنسَ لا أنسَ خبازا مررتُ به....يدحو الرقاقةَ وشكَ اللَّمحٍ بالبصرٍ

ما بين رؤيتها في كفه كرةً... وبين رؤيتها قوراء كالقمرِ

إلا بمقدار ما تنداحُ دائرة.... في صفحة الماء يُرمى فيه بالحجرِ

هو نفسُه الفنانُ ابن الرومي الذي وصف حلوى (الزلابية) التي كانت مشهورةً في ذلك الوقت، وكانت تُصنع في المقالي الكبيرة من عجينٍ أبيضَ (فضي) قبل أن توضع في المقلى، ثم تتحول بعد القلي إلى شبابيكَ من الذهب الخالص يقول:

يُلقِي العجينَ لُجينا من أنامِلِهِ        فيستحيلُ شبابيكا من الذَّهبِ

إنه هو الشاعر نفسه، الذي جعلني ذات يوم أشتاق أن أرى نبتة الكتَّان، التي تستخرج منها خيوط النسيج وبذور الزيت، النبتة الطبية الخضراء، التي لها ورودٌ زرقاءُ وبيضاء، ولا يتجاوز طول نبتة الكتان المتر الواحد، والتي تُستخدم في علاج كثير من الأمراض،  ولم أكن قد شاهدْتُها في حياتي، فلما رأيتها، أدركتُ أن عدسة ابن الرومي الشاعرة كانت صادقة دقيقة الوصف.

 ها هو ابن الرومي يصف (جِلسا) أي حقلا كاملا من نبتة الكتان، تعرش فوق الحقل غيومٌ رقيقةٌ ماطرة (الرباب) تجعلُ نبات الكتان يغفوَ (تُوسِّنُهُ) على وقع مطرها، أما الرياحُ، فإذا مرَّت فوقه، فإنه يصبحُ غديرا من الماء، وليس حقلا من الكتان يقول:

وجِلسٍ من الكٍتَّان أخضرَ ناعمٍ       تُوَّسِّنُهُ داني الربابِ مطيرُ

إذا درجتْ فيه الريــاحُ  تتــابعتْ      ذوائــبــُـهُ  حتى تقـولَ غديرُ

إنه هو راسم الكاريكاتير في الشعر العربي ابن الرومي، الهجَّاء المقذع، الذي استعمل شعره درعا، يتَّقي به شرَّ مَن حوله، ويصبُّ غضبه على مبغضيه، فهو يصف رجلا قصير الأطراف، في فيلمٍ متحرك ناطق بالصوت والصورة، فهو قصير، حتى أن رقبته تختفي بين كتفيه، وهو يُشبه في صورته بلا رقبة مَن يترقَّب أن يُصفع، أو من صُفعَ مرةً، وينتظر الصفعة الثانية:

قَصُرتْ أخادِعُهُ وغابَ قَذالُه         فكأنـه مُتربِّصٌ  أن يُصفعا

وكأنـّـما صُفِعـَـتْ قَــفـَــاهُ  مـَـرَّةً         وأحسَّ ثـــانيةً لهـــا  فتجمـّــعـــا

وهو أيضا الذي حكم على البخيل المُسمَّى (عيسى) بالإعدام طوال حياته، وغيّرَ اسمه من عيسى إلى( أبي منخرٍ واحدٍ) حين هجاه ببخله فقال عنه:

 يُقتِّرُ عيسى على نفسِهِ.... وليسَ بباقٍ، ولا خالدِ

 فلو يسطيعُ لتقتيرِهِ...تنفَّسَ من مُنْخُرٍ واحدِ  !!

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.