3

:: أين الحقيقة بعد "تقصى الحقائق"؟! ::

   
 

التاريخ : 26/04/2011

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1762

 


 

 

نشرت "لجنة تقصى الحقائق بشأن أحداث 25 يناير" تقريرها في 19 أبريل. ويبدو من التقرير أن اللجنة – "لجنة أدبية" لا أكثر ولا أقل، لم تمنح لها أية صلاحيات فعلية. ويتضح ذلك من قول التقرير أن اللجنة أرسلت كتابا إلى وزارة الداخلية لموافاتها بدفتر أحوال مخازن الأسلحة للوقوف على كمية الذخيرة المستخدمة في الأحداث، "غير أن اللجنة لم تتلق ردا حتى تحرير هذا التقرير". أي أن وزارة الداخلية (لاحظ أنها وزارة ما بعد 25 يناير) لم تعبأ لا باللجنة ولا بخطابها ولم تر في صفتها شيئا يستحق عناء الرد!. أضف إلي ذلك أن اللجنة وهي مشكلة من مجموعة من كبار رجال القانون تشير في تقريرها إلي قتل مئات المتظاهرين وتحددهم بـ"846" ثم تضيف عبارة "على الأقل"!. فهل يفترض بلجنة تتقصى الحقائق تم تشكيلها بقرار من مجلس الوزراء أن تحدثنا عما هو "على الأقل" أو "على الأكثر"؟! وهل يليق بلجنة من القانونيين الذين قاموا بتقصى الحقائق أن يحددوا عدد القتلى تقريبا؟. وقد قدمت اللجنة تقريرها بمقدمة سياسية مليئة بالعبارات الإنشائية كقولها إن مصر شهدت منذ 25 يناير 2011 "أحداثاً جساماً وضعت البلاد على بداية طريق يتمنى المصريون أن يصل بهم إلى الاستقرار والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية". وقد حفل التقرير بالتوصيف السياسي للوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي أدى لأحداث 25 يناير، من فساد وفقر وسوء استغلال للنفوذ واستبداد ورشوة وقمع وتضليل إعلامي، أي أن التقرير كان حافلا بكل ما يعرفه المواطن المصري قبل اللجنة بزمن طويل. أما الحقائق التي توصلت إليها اللجنة فكان من الممكن التوصل إليها عبر ما نشرته الصحف ووكالات الأنباء دون جهد يذكر. وللتدليل على ذلك أشير فقط إلى أن ذلك النوع من "تقصى الحقائق" لم يسفر عن حقيقة واحدة بسيطة مثل: من هو المسؤول عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتل نحو ألف مواطن؟ "على الأقل"؟!. كلا لم يبلغ "تقصى الحقائق" تلك الحقيقة! وتكتفي اللجنة في هذا الصدد بالإشارة إلى أن "إطلاق الأعيرة النارية لا يكون إلا بموجب إذن صادر من لجنة برئاسة وزير الداخلية وكبار ضباط الوزارة". وهو اكتشاف بالغ الأهمية لم نكن لنعرف به لولا "تقصى الحقائق"! وتصمت اللجنة تماماً عن الحقيقة التي يعلم بها كل مواطن بسيط وهي أن عملية إبادة كتلك التي حدثت لم تكن لتتم من دون علم وبقرار من الرئيس مبارك شخصياً. واللجنة التي تسهب بكرم شديد في توصيف الأوضاع السياسية وتقديم توصياتها بالأخذ بالديمقراطية والعدالة، بخلت علينا بخلاً شديداً بالحقائق الجنائية وبالمتهمين الحقيقيين فيها أو على الأقل المشتبه فيهم! واللجنة التي تفضلت فأوصت بتمكين ضحايا ثورة 25 يناير وذويهم من "الحصول على تعويض عادل" لم تتفضل وتتذكر أن أولى حقوق الضحايا هي الاقتصاص من المسؤولين عن قتلهم، وتحديد أسماء الجناة، والتوصية بمحاكمتهم والتوصية بمعاقبتهم، قبل الحديث عن الملاليم التي ستدفع لأهل الضحايا. وتستمر اللجنة في تعميق طابعها الأدبي السياسي بتوصيات مختلفة مثل وضع دستور جديد، وإعادة النظر في الإعفاءات الضريبية، والنظام التعليمي، ومكافحة التمييز الديني أو العرقي، وضرورة استقلال القضاء وحرية تشكيل الأحزاب. ولا يختلف أحد على تلك التوصيات المعروفة، إلا أنها جميعاً تندرج في باب العلوم السياسية وليس في باب "تقصي الحقائق"، ومكانها ليس تقرير اللجنة لكن منبراً حزبياً أو جريدة أو مؤتمراً. ويتضح بشدة ضعف التقرير الذي أصدرته اللجنة حينما يتعلق الأمر بالرئيس مبارك، الذي لم يشر التقرير لاسمه صراحة ولا مرة واحدة، بينما ورد اسمه فقط على لسان المستشار عمر مروان في مؤتمره الصحفي إن مبارك يتحمل مسئولية قتل المتظاهرين سواء بالمشاركة أو بالصمت. وما ورد على لسان المستشار هو تصريح يخصه هو، بينما سيبقى للناس التقرير كوثيقة وحيدة خلت من اسم المتهم الأول. وسنجد حتى أن تصريح عمر مروان يفتح الباب لمبارك على احتمال أنه لم يكن مشاركاً؟! لكنه لزم الصمت فقط؟!. وبينما يعترف التقرير بمشروعية المظاهرات فإنه يتجنب الاعتراف بالمسئولين عن قتل المتظاهرين، وحتى عندما يتحدث عن دستور 1971 والصلاحيات الضخمة التي يمنحها الدستور للرئيس فإنه لايذكر اسم مبارك ويكتفي بالقول بشكل عام" إن دستورنا المصري يدفع الرؤوساء دفعا نحو الاستبداد"، ويذكرني ذلك بعبارة "846 قتيلا على الأقل"، أي اتجاه اللجنة لأن يصبح حديثها "على العموم" دون تحديد قاطع، فلسنا في معرض حديث عن دستور يدفع "الرؤوساء" بل في معرض حديث عن دستور "دفع الرئيس مبارك" تحديداً. الأكثر من ذلك أنه حتى عندما يستحيل الحديث دون ذكر اسم مبارك، أي عند إشارة التقرير إلى أن الإعداد لتوريث الحكم كان من أسباب سخط الشعب، فإن التقرير يتفادي ذلك ويكتفي بعبارات عامة! فهل كان التوريث يخص أحداً غير مبارك ونجله؟!. والآن لكي ننصف لجنة تقصى الحقائق، لابد من القول إنها تشجعت وقررت أن "وكيل جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق قرر أن استعمال الأسلحة النارية لا يكون إلا بناء على أمر صادر من وزير الداخلية وأن عليه إخطار القيادة السياسية، وأنه إذا استمرت الشرطة في استعمال الأسلحة النارية لأكثر من يوم فلابد أن تكون القيادة السياسية على علم بذلك". وقد احتاجت اللجنة لتتسلح بهذه الشجاعة إلي تصريح محدد من "وكيل جهاز مباحث"!. واعتبرت اللجنة أن الأمر قاصر على "القيادة السياسية"! مرة أخرى بدون تحديد، وفات اللجنة أن مبارك كان القائد الأعلى للشرطة، وهي حقيقة أخرى لم تتوصل إليها لجنة تقصى الحقائق. لقد ترك التقرير انطباعا واحداً: أن اللجنة كانت تعمل مسترشدة بتعليمات تقضي بعدم إلقاء اللوم على الرئيس مبارك، وفتح الباب أمامه لكي ينجو بجريمته. ولكني لا أظن أن الشعب المصري قد يقبل بأن تمر جريمة قتل ألف مواطن دون عقاب، ودون محاكمة علنية، ودون قصاص عادل. هذا ما تنشده أرواح الشهداء. وإذا لم تستطع 25 يناير أن تقتص لشهدائها بمحاكمات علنية وعقاب رادع، فإنها قد لا تتمكن من مواجهة الكثير من مهامها الأكبر والأصعب.

أحمد الخميسي – كاتب مصري

Ahmad_alkhamisi@yahoo.com

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.