3

:: مسافات ملتبسة لإيلي مارون خليل:صراع الإنسان مع ذاته ومع الآخرين.حلم يسعى كلّ واحد منّا إلى تحقيقه. ::

   
 

التاريخ : 09/04/2011

الكاتب : أديب القسّيس   عدد القراءات : 1748

 


تحملنا المسافات بعيدًا، وتتركنا في مواجهة علامات استفهام مبهمة، وأسئلة حيرى، لا نجد جوابًا عنها، لصراع نعيشه مع ذاتنا، مع واقع، نرفضه أحيانًا، وأحلام نتمنّى أن تنقلَنا إلى حقيقة تعيد إلى ذاتنا هدوءًا وفرحًا. فجميل أن تكون للحقيقة أحلام..! لكنَّ الخوفَ أن تتحوّل الحقيقةُ إلى أحلام.

فماريّا في رواية "مسافات ملتبسة" لإيلي مارون خليل، تعيش صراعًا مع ذاتها ومع الآخر، مع واقع فرضته تقاليد النّاس وعاداتهم، فسجنت نفسها في شرنقة حاكت خيوطها بيديها، ووصلت إلى مرحلة، لم يعد بالإمكان أن تتفلّت منها.

الزّمن لا يعود إلى الوراء، فالذكريات وحدها تبقى ماثلةً أمامنا، نكرّرها على مسامعنا، نفرح بعودتها، لكنّ الواقع يصدمنا. فماريّا تذكرت قول والدها قبل زواجها: "تستطيعين، بعد، ان تعودي معي. أخشى ألاّ تكوني سعيدة، فتندمي... وكم كذبتُ على أبي لئلا يعرف أنّي... ندمتُ!" (ص 83)

فهل اتكأت على دمعتها، (ص 17) لتندب حظًا، أم لتبكي عمرًا أضاعته بين أمانة مزيّفة لعائلة، لزوجٍ لأولادٍ أم لخيانةٍ فكريّةٍ روحيّة؟

عاشت صراع الجسد والروح، صراع الحضور والغياب. حضور جسدي في "بيت الطاعة العمياء" (ص 96)، فهل من الممكن أن يكون الزواج مقبرة الحبَّ !؟( ص72)، أم رضيت بواقع خوفًا من ألسنة الناس؟.

والغياب وعدٌ لا يتحقّق، يشتعل كلّما عادت الذكريات لتحرّك مشاعرنا، فالإمعان في الغياب، يوهّج الحضور، وقد أيقنت ماريّا في " مسافات ملتبسة " أنّ "الأحاسيسَ لا تشيخُ. قد تهجعُ زمنًا. لكنّها قابلةٌ للانفجارِ عند هبوبِ اسم الحبيب" (ص 17).

فرضت على نفسها عدم النسيان. نسيان الماضي. والماضي جزء من حاضرنا، من وجودنا، من أيّام لا نزال نعيش كلَّ لحظة من لحظاتها، فرحًا، حزنًا، ألمًا، لذلك لا تريد أن تنسى، ولا تستطيع " ليس، فقط، لأنّ النسيانَ يكاد يكونُ الاسمَ المجازيَّ للموت، بل لأنَّه تخبُّطٌ في الفراغ، في الوهم. في العدم". (ص 18)، وقد تأكدت من خلال ذلك أنَّها ما زالت على قيد الحبّ.

ويعود بها الحنين إلى ماضٍ، لا يغيب عن البال ولا تمحوه الأيّام، فهو سعادة مكتوبة بألم، بوجع، بشوق طفوليّ بريء، يحسب أنّ العالم ملك له، وأنّ حدود الدنيا هي حدود ما تراه العين، وما تلمسه اليد، وهكذا اعتبرت ماريّا أنّ: "الحنينَ شوقُ الذاكرةِ إلى التلاعُبِ بالماضي. حنينُك يلوِّنُ ما انقضى من حياتِك. يلوِّنُه كيف يريد. كيف تريد". (ص 18)

يحتاج الانسان إلى آخر، ليرى من خلاله ذاته، ليغرق في عينيه، ليضيع في أحلامه، وإذا لم يجده يخترع آخر، ليكون بديلاً، نخاف غيابه، ويقلقنا حضوره، فهو "ظلٌّ لك. لفكرتِكَ. لعاطفتِك. لوجهك. الآخر ظلٌّ لنقيضك. ظلٌّ مختلِف. أنت في حاجة إليه لأنّه مختلِف". (ص 30)

وقد نهدر عمرًا في الانتظار. إنتظار الآتي الذي قد لا يأتي أحيانًا، أو يأتي على غفلةٍ منا، كطفل يحبس الماء بين أصابعه المطبقة خوفًا من أنْ يضيعَ الحلمُ إذا حصل عليه، فماريّا كانت، دائمًا، بالنسبة إلى الحبيب رمزي، "المرأة المشتهاة، المرأة – الحلم. لا يريد الحصول عليها لتبقى فلا تندثر". (ص 20)

أحبّت ماريّا الظلَّ. عاش في قلبها ونبضها، في كلِّ قطرة دم تسير في شرايينها. أعاد إليها الأمل، وكانت ترى الحياة السّعيدة من خلال عينيه. فأشعلت عمرها نزفًا. وجرّحت نفسها بأسئلة:" أكنتُ أَقعُ في الخطيئة، حين أفكّر فيه".

لكنّها برّرت تصرّفها واعتبرت أنْ  " ليس الحبُّ شرًّا. ليس، في الحبّ، فساد. الحب ارتقاءٌ وتسامٍ" (ص 32). متى كان التفكير في الظلّ خطيئة؟ متى كان الحبّ خطيئة؟ فلو كان كذلك، لوجدنا ازدحامًا على طريق جهنم.

وعندما احتدم في داخلها صراع الحضور والغياب، والظلّ والأنا، وجدت أنّ الكتابة وحدَها ترفع إلى المستوى الانسانيّ الأبعد والأشمل، هي تحرّر الذات الروحانيّة من الجسد الماديّ، والانطلاق إلى العالم الأرحب " إلى غابات النفس، إلى آفاق الحياة... وهي الرّسالةُ الأكثرُ سموًّا... تساعد على الفهم، فهم الذات والآخر، فهم العالَم..." (ص 91)

ومن خلال الكتابة نقول ما لا يقال، نكتب وراء الكلمات ما نريد أن نقوله في العلن، وبقيت ماريّا تعيش صراعًا داخليًّا، تؤجّجه التساؤلات الموجعة، لأنّ "الرغبةَ، عندها، ليست من أجل ذاتها، إنّها من أجل الحياة." (ص 109)

ما دفع ماريّا إلى الرحيل بعيدًا، واعتماد الاحلام البرّاقة التي ابتسمت لها، ظاهريًّا،  ومن ناحية ثانية كشّرت عن أنيابها لتلتهم ما بنته من آمال وتمنيات.

 وفي القسم الثاني من الكتاب، يتحدّث ايلي مارون خليل عن الزوج الذي أخذه العمل وبناء المستقبل، معتبرًا أنّ المال، عصب الحياة، وتأسيس عائلة سعيدة، لكنّ ما اعتقده كان في غير محلّه، وترك فراغًا بينه وبين زوجة لا تطلب غير الحبِّ والحنان وألاّ تكون زهرة يابسة، تنتظر نقطة ماء علّها تعيد إليها الحياة.

سخّر كلّ شيء من أجل الوصول إلى هدفه، واليوم، وبعد تقاعده، وجد نفسه يراقب الناس يكدّون، يصطدمون بعضُهم ببعض. ولا يتراجعون: "الجشع في القلوب، ألبذاءة في النّوايا... كم كنتُ منهم وبينهم! لا تزالُ أنيابي في أذرع بعضهم، ومخالبي في وجوه آخرين "... (ص 118)

وفي القسم الأخير من الكتاب، يطرح رمزي العاشق تساؤلات كثيرة، وهي في الكثير من الأحيان تساؤلات كلِّ واحدٍ منّا: "أيحيا الإنسان، مطلقُ إنسانٍ، الحياة التي يستحق؟ أيعيش الإنسان مطلقُ أنسانٍ، في الزمانِ والمكانِ الملائمَين؟" (ص 187)

وتتعدّد التساؤلات حول الأحلام الضروريّة، والشكوك المناسِبة، ويخلص إلى نتيجة أنَّ الانسان واحدٌ متعدِّد. (ص 188)

مسألة الانتظار... انتظار الآخر متى يأتي؟ (ص 190)، نطرح هذا السؤال، في كثير من الأحيان على أنفسنا، فنقف عند المحطّة منتظرين وصول القطار، علّه يحمل بين ركّابه مَن ننتظر. فيصل، ويرحل، ويبقى دخانُه المتصاعد أملنا الوحيد للمرّة المقبلة.

" مسافات ملتبسة "

اسلوب جميل، في إطار من الرمزيّة المحبّبة، وحركة دائمة ومستمرّة في جمل قصيرة، تترك في نفس القارىء، " حشريّة " لمعرفة ما هو مخفيّ وراء الكلمات والصور المبدعة.

إيلي مارون خليل

صوّر، في كتابه هذا، صراع الإنسان مع ذاته ومع الآخرين مع حلم يسعى كلُّ واحد منّا إلى تحقيقه، وواقع مفروض علينا، نعمل جاهدين ليكونَ شبيهًا لنا، لكنّ قساوة الحياة وصعوباتها، تجرفنا في طريقها، وتفرض علينا، ما لا نريد، فنسير المسافات ونحن لا نعلم إلى أين ستقودنا.

إيلي مارون خليل

في كتابك هذا، جعلت كلَّ واحد منّا يقف أمام مرآة ذاته يحاسبها، يكشف، ولو لمرّة واحدة، عن الحقيقة التي يحاول اخفاءها في شخصيته، فلو سعينا إلى الإرتقاء بمشاعرنا نحو الأسمى، لاستطعنا، من خلال ذلك، تجنّب الكثير من المشكلات التي نعاني منها، في مجتمع يعتبر الكذب فضيلة والخداع " شطارة ". عند ذاك يمكننا الانطلاق نحو مجتمع نبنيه كما نريد، لا كما يريده الآخرون لنا.


 

 

 
   
 

التعليقات : 2

.

22-09-2012 03:2

V.S

وهذه، بعد، في نهارٍ واحد! دخلت إليها عبر (غوغل). كنت أبحث عن مقالات عن هذا الكتاب لبحث خاصّ. أشكر جماليا لتوفيرها ثلاثة أبحاث عنه.


.

10-04-2011 02:4

vera s

tres beau! commentaire intelligent


 

   
 

.