3

:: يوم الثقافة الفلسطيني (13/3) يوم ذكرى ميلاد محمود درويش- محمود درويش كما عرفته ::

   
 

التاريخ : 02/04/2011

الكاتب : نبيل عودة   عدد القراءات : 1889

 



في أواخر سنة 1969، وكنت حينها أدرس في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو- الاتحاد السوفييتي السابق، وصل لعلمنا أن محمود درويش حصل أخيرا على جواز سفر مؤقت، لمدة سنة واحدة أو أقل قليلا.. لمغادرة إسرائيل إلى موسكو.. إلى معهدنا. (معهد الأحزاب الشيوعية كما كان يعرف).

هذا الخبر شدني بشكل خاص. كنت أعلم وانأ في الوطن، أن السلطات الإسرائيلية ترفض منحه جواز سفر إسرائيلي، لأنها لا تعتبره مواطنا، إنما مقيما، ربما نزل من السماء، في دولة إسرائيل، وهذه المشكلة عانى منها الكثير من الفلسطينيين الذين هربوا من التصفيات العرقية في العام 1948 التي كانت تنفذ ضد المواطنين العرب الباقين في وطنهم، ثم عادوا بعد هدوء الأحداث إلى وطنهم، لاجئين، مشردين في وطنهم بعد أن هدمت قراهم وصودرت أراضيهم ومنعوا من العودة إليها. وكان الجيش الإسرائيلي غالبا ما يجمعهم ويقذفهم من جديد وراء الحدود نحو الدول العربية. وقد خاض الحزب الشيوعي وقتها، مع محامي الحزب المرحوم حنا نقارة معركة شعبية بطولية وقانونية لمنع تهجير اللاجئين في وطنهم.. وكثيرا ما منع الشيوعيون الأوائل تهجير أهلنا بأجسادهم حين استلقوا إمام السيارات المحملة بالفلسطينيين الذين عادوا ولم يتساجلوا في سجلات دولة إسرائيل. واشتهرت هذه المعارك باسم معركة الهويات، إذ كان الهدف الحصول على هوية زرقاء لمنع التهجير.

قضية الحصول على جوازات سفر، حتى لمن لا توجد مشكلة حول مواطنته، أيضا لم تكن سهلة، وقد عانيت شخصيا من ذلك، بسبب تسجيلي اني سأسافر للاتحاد السوفييتي، ولم أحصل على جواز سفري إلا بعد أكثر من نصف سنة وتدخل محامي من طرفي رغم عدم وجود مشكلة "قانونية" حول مواطنتي!!

كنت في بداياتي الأدبية... كاتبا مبتدئا تشده رومانتيكية الأدب، وكان يومها محمود درويش نجمنا الأدبي الأعلى الذي لا تخلو مهرجاناتنا من قصائده.

كانت قصائد محمود درويش قد بدأت تتحول إلى محفوظات وطنية نرددها.. وما زلت أذكر قصيدته (سجل أنا عربي) التي ألهبت الجماهير، في معركة التحدي ضد الحكم العسكري المفروض على العرب في إسرائيل، حين قررت السلطات إنشاء قوائم سوداء ضد "السلبيين" من العرب، والقصد ضد القوى الشيوعية والوطنية التي تناضل بلا كلل وبطولة، ضد سياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري. وكانت تفرض على هذه القوى الاقامات الجبرية وتحديد التنقل واثبات الوجود في مراكز الشرطة، وهو ما عانى منه محمود درويش والعشرات من رفاقه لسنوات طويلة. وقد قيدت حرية تنقلي أيضا ولم أكن قد تجاوزت سن العشرين، والمضحك اني وصلت بتصريح عسكري لا أشك أن محمود درويش وصل بتصريح مثله لمطار اللد (بن غور يون اليوم) وسجل تحت الهدف من الوصول للمطار "السفر للاتحاد السوفييتي فقط" وكأنهم يحددون مكان وجودي خارج إسرائيل أيضا، رغم إني سافرت أولا لقبرص... وقد ُسجلت حتى الطريق التي يجب أن التزم بها للوصول إلى المطار مع ملاحظة تمنعني من الدخول للبلدات في الطريق، ما عدا لمحطات الوقود... في مثل هذه الظروف نشط محمود درويش وكتب قصائد المقاومة، في مفهوم التحدي للسلطات العنصرية الغاشمة، والدفاع عن الحقوق القومية للشعب الفلسطيني من داخل الوطن المغتصب. وكانت القصيدة أهم من خطاب سياسي، وخطاب مجند للنضال.. من هنا أنا على قناعة تامة أن شعرنا المهرجاني الوطني لعب دورا تثقيفيا وسياسيا هاما لا يمكن مقارنته بأي شعر منصات آخر. لذلك حين تقييم هذا الشعر، يجب أن نفهم أن حديثنا عن الشعر الوطني أو المهرجاني التقليدي، له قيمة خاصة في الشعر الفلسطيني الذي كتبه الشعراء العرب الفلسطينيون في إسرائيل. قيمته تتجاوز فنيا أيضا، كل الشعر الشبيه الآخر الذي كان يغرق فيه الشعر العربي.

كانت المهرجانات الشعرية تتحول إلى مهرجانات سياسية نضالية حتى بدون خطابات وشعارات حماسية... كان الشعر زادا ثوريا ثقافيا للجماهير، وحين أستعرض واقعنا الثقافي اليوم أصاب بالصدمة... كم تغيرنا، كم تراجعنا، ليس سياسيا فقط، بل ثقافيا أيضا... اليوم ندوة شعرية صار عدد الشعراء فيها أكثر من عدد الحضور.. ولكن ذاكرة شعبنا لا تنسى، حين حضر محمود درويش إلى حيفا، قبل أشهر قليلة، امتلأت القاعة لتسمعه، وعدد الذين لم يحظوا بتذكرة دخول للقاعة كان أكبر من عدد الحضور.. حقا كانت أمسية نوستالجيا (حنين) أيضا... حنين إلى الماضي القريب، الماضي الطاهر.. كلمة وموقف وشعار وقصيدة.

لم تكن معرفة سابقة شخصية بيني وبين محمود درويش، رغم إننا كنا من نفس الموقع السياسي، وكان محررا للمجلة التي اعتبرت فخر ثقافتنا المحلية. مجلة "الجديد" التي تعتبر أيضا من أفضل المجلات الثقافية العربية على الإطلاق. ولا ابلغ بالقول ان الجديد كانت جامعة ثقافية لعشرات المثقفين.. وما زلت أعتبر نفسي خريج هذه الجامعة الثقافية، التي لعبت دورا ثقافيا سياسيا هاما، في كسر دائرة التجهيل بتراثنا العربي، وكسر عزلنا عن الثقافة العربية.. وتنشئة جيل جديد من المثقفين بعد النكبة.
كنت أعرفه من المنصات ويعرفني من القصص التي أرسلها للنشر في الجديد... وقد شعرت بتوتر من لحظة اللقاء مع محمود درويش وانتظرتها قلقا من طول الدقائق...
وصل محمود درويش إلى موسكو، ونقلوه كالعادة إلى "الداتشا" – قصر للنقاهة في الجبال.. حيث كانت تجرى الفحوصات الطبية لكل الوافدين للمدرسة الحزبية في موسكو.. قبل نقلهم إلى الداخلية وبدء برامج التعليم في المعهد.

ذهبنا، نحن الطلاب – الرفاق العرب من إسرائيل لزيارة محمود درويش ورفاقه في "الداتشا".. وكانت تلك أول مرة نلتقي وجها لوجه، ونتعارف، ونتبادل التصافح بالأيدي.
راقبت كل حركات محمود درويش لسبب لا أفهمه، ربما لأفهم العلاقة بين هذا الإنسان الهادئ الوديع، الذي اسمه محمود، وله مظهر الإنسان الحالم... وبين شعره المتفجر بنار الغضب والثورة والجرأة. ربما توقعت ان أرى إنسانا حديديا رهيبا لكلماته فعل الرصاص... ولكني وجدت إنسانا حلو المعشر، حديثه عذب جذاب، يحب الحياة، يضحك بطلاقة، رقيق لأقصى ما تحمله الرقة والدماثة من معنى. له مظهر حالم كما قلت، وربما حتى بعض الحياء.

هذا هو انطباعي الأول عنه.

وسألت نفسي وقتها: ترى هل وراء هذا الإنسان الرقيق الهادئ، الذي يرعب دولة إسرائيل.. يختبئ أسد متوثب، مرعب؟!

هل حقا هذا هو محمود الذي سجن وعانى من الاضطهاد، والحبس المنزلي وتقييد حرية التنقل لدرجة عدم السماح له بزيارة أهله على بعد نصف ساعة سفر من حيفا؟!

هل هو محمود نفسه، الرافع لراية شعبه، المعبر عن مآسيه، من النكبة حتى مجزرة كفر قاسم الرهيبة (50 ضحية) ومقتل الشباب العرب الخمسة والتنكيل بجثثهم بصورة وحشية، وغيرها من مآسينا المتواصلة، مثل مصادرة أراضينا ومنعنا من العودة إلى قرانا المهجرة، وتقييد حرية العمل ؟!

أعرف إن بعض ما أكتبه اليوم يبدو كتابة عن عالم آخر.. مساحة الحرية اليوم واسعة جدا.. القيود تحطمت.. رغم استمرار سياسات التمييز العنصري، إلا إننا أنجزنا بنضالنا مكاسب تبدو اليوم شيئا عاديا لا يحتاج إلى تفكير ونضال. ولكن الويل لشعب ما زال مشردا في وطنه وخارج وطنه، من الاطمئنان لمنجزاته، واعتبارها أمرا لا عودة عنه، لأن القوى الفاشية ما زالت تتحين الفرصة للانقضاض على ما انجزناه وما حققناه من قامة مرفوعة.. ما زالت الحية الرقطاء حرة طليقة... وما زال وجودنا مشروطا باستمرار يقظتنا، ويقلقني ظن البعض ان التاريخ لم يبدأ إلا بهم، متجاهلين ما أنجزه الشيوعيون والوطنيون الأوائل، وما دفعوه من ثمن شخصي مأساوي بكل الحسابات. كانت القيادة تعني السجون والملاحقة والنفي، والمسؤولية عن مصير شعب. واليوم صارت تزعما غبيا وشعارات خاوية من المضمون، وتحزبات شخصية داخل التنظيم الواحد، ومكاسب انتهازية شخصا نية لا ترى ابعد من انفها. ومظاهر كاذبة، وتبوء الصدارة بشكل يبعث على السخرية والقرف.. حين تعرف ان متبوء الصدارة كان جبانا، منعزلا، عميلا لأحزاب صهيونية.. وحين صار النضال مكاسب ومراكز، ومنافع شخصية، تغير الوضع، ولكن شعبنا الطيب يعرف الزؤان من القمح.

هذه الأفكار تراودني اليوم وانا أستعيد ما سجلته عن لقائي الأول بمحمود درويش.
وسالت نفسي أيضا: هل حقا هو محمود نفسه الذي أطلق عليه شعبنا لقب " شاعر النكبة "؟!

قلت كنت في بداياتي، وكان محمود قد بدأ اسمه يسبقه أينما ذهب. كان العالم العربي منبهرا بشعره وشعر زملائه لدرجة تجاوزت المنطق.. مما جعله يطلق صرخته الشهيرة وقتها، عبر مجلة الجديد: " أنقذونا من هذا الحب القاسي". كأنها كانت نبوءة لخطر العشق العربي بلا منطق لكل ما ينتجه أدبنا المحلي.

شعرت بالرهبة والارتباك وانا بالقرب منه، اسما مبتدئا لا يعرف لغة التودد، ولا أعرف أن أبني علاقات على أساس المنفعة الذاتية، أو التعلق بسماجة بالآخرين.

بعد الفحوصات وانتهاء الترتيبات المختلفة، التحق محمود بمعهدنا.

لا أدري كيف ذاب الثلج بيننا، وكيف استقرت العلاقة الفريدة التي جمعتني به في المعهد.ولكنها لم تستغرق غير أسابيع قليلة على ما اذكر.. حتى استطعت التخلص من ارتباكي والحديث الحر معه..

سحرتني شخصيته بوداعته التي تبلغ حد الطفولة. ومع ازدياد معرفتي به، كنت أكتشف أمامي معدنا صلبا نقيا، أنسانا حقيقيا لا تتنازعه الميول الطارئة، ولا يبني علاقاته إلا على أساس الاحترام.

قلت اني لا أذكر تماما كيف تطورت علاقتنا. ولكن الواضح ان وجودنا في نفس بيت الطلبة، وفي نفس المعهد، وفي نفس طبقة بيت الطلبة، وفي فرقة واحدة لا يتعدى أفرادها الثمانية... جعل المسافة بيننا تتقلص، واللقاء اليومي بدا يولد تفاهما في الذوق والميول وحب الحياة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.. إلى جانب معرفتي الجيدة نسبيا باللغة الروسية وبالعاصمة موسكو ومطاعمها الجيدة وحدائقها الجميلة وشوارعها وسائر تفاصيلها... وقد اكتشفت ان هذا الإنسان الحالم لا يحفظ الشوارع بسهولة، ولا يحب التقيد بنظام بيت الطلبة الذي يحدد ساعات بقائنا خارج المنزل حتى الحادية عشرة مثلا، حيث كان الحارس للمبنى يغلق الأبواب ومن يتأخر يواجه مشكلة الدخول، ثم تنبيها وانتقادا.. ألخ. في أول سهراتنا بالخارج أخبرت محمودا بهذا التحديد.. فرفضه ضاحكا معبر عن أمنيته التي طالت بقضاء سهراته خارج غرفته لساعات الفجر. ففهمت انه يعني أن هذه فرصة العمر، فبعد سنة سيعود إلى حيفا والى الحبس المنزلي بعد غروب الشمس وحتى شروقها، حسب قانون الطوارئ الانتدابي الذي واصلت إسرائيل فرضه على المواطنين العرب. ولتذهب كل التقييدات إلى الجحيم!!
حاولنا ان نحصل على إذن بالبقاء خارج المنزل لوقت أطول، فلم ننجح، فوجدنا طريقة لا يمكن أن تفشل، بإهداء الحارس للمبني، قنينة فودكا كلما شئنا أن لا نعود في الوقت المحدد... كنا نعلمه مسبقا.. وكان دائما على استعداد للتغاضي عن موعد عودتنا. وهكذا نجحنا في التحرر من قيود النظام.

كان جليا أن متعته الكبرى أن لا يعود للمنزل قبل الفجر.كأنه يقهر شرطة إسرائيل بسهراته حتى الفجر هنا في موسكو.

في موسكو التقى محمود درويش بالناقد والمفكر اللبناني حسين مروة، الذي كان يعد رسالة الدكتورات في نفس المعهد. والذي اعتبر في وقته (1969) محمود درويش كأبرز شاعر عربي معاصر. في مداخلة قدمها في إطار المعهد إمام أساتذة وطلاب المعهد.
التقى محمود درويش في موسكو بعدد من أدباء العربية، بقي في ذهني منهم الكاتب السوري سعيد حورانية، الذي كان يحرر أسبوعية " إنباء موسكو " باللغة العربية، حيث كنت أنشر قصصا ونشر محمود احد قصائده الجديدة التي كتبها في موسكو، وأظن انها كانت انتقادا لأنظمة عربية تعاملت معنا كعملاء للصهيونية. كذلك التقى مع الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، و مع الناشر اللبناني، من دار العودة، محمد سعيد محمدية، والأديب اللبناني د. سهيل إدريس صاحب الآداب اللبنانية، والكاتب اللبناني محمد دكروب، محرر مجلة "الطريق" اللبنانية وغيرهم تفوتني أسمائهم... وقد حضر بعضهم إلى موسكو بعد انتشار خبر وصول درويش إليها، خاصة إدريس ومحمدية بهدف الحصول منه على حقوق نشر أعماله، إذ كان الناشران على خلاف قضائي حول حقوق نشر أعمال درويش في لبنان، رغم عدم حصول أي منهما رسميا على هذا الحق.

قضيت أكثر من نصف سنة مع محمود درويش، في لقاء يومي وأحاديث يومية، للأسف لم أسجل أيا منها، وبعضها كان يتعلق بأدبنا المحلي، مشاكله ومشاكل تطويره، والتجديد في الشعر، وقد بدأت ألمس من وقتها انطلاقة محمود درويش نحو ما بات يعرف في شعره اليوم بالفضاء الإنساني العالمي... خارجا من مرحلة الشعر الوطني التقليدي. وقبلها شعره الغنائي الغزلي بمعظمه...

لا أقول هذا للتقليل من مرحلة الشعر الوطني، أو أن محمودا لم يعد يكتب شعرا وطنيا، ولكن حتى في شعره الوطني بدأت ملامح الفكر الإنساني الشمولي تأخذ مساحة هامة في كتاباته.

صحيح إني أتحدث عن ذكريات بات عمرها اليوم أربعة عقود، وقد نشرت بعض تفاصيلها قبل عقدين من الزمن، وهي التي اعتمدتها في هذه المراجعة..
في موسكو كتبت عدة قصص جديدة، كان محمود أول قارئ لقصصي، وعدلت بعضها حسب ملاحظاته، وأذكر انه تحدث بايجابية مع حسين مروة حول كتابتي القصصية، لدرجة جعلت حسين مروة يطلب مني مجموعة لينشرها في لبنان، كذلك لجريدة الأخبار ومجلة الطريق التي يصدرهما الحزب الشيوعي اللبناني.

لسبب لا أفهمه اليوم، لم أستغل الفرصة لنشر أعمالي في مجموعة قصصية في لبنان. ربما خوف المبتدئ ومسؤوليته سيطرت علي. وقد حثني حقا محمود درويش بأن استجيب لطلب حسين مروة، وعشت ترددي، وأعتقد اني ارتكبت أكبر خطأ ثقافي بعدم استغلال الفرصة التي فتحت أمامي، لم أفهم هذا الأمر إلا بعد عودتي للوطن، وظواهر التجاهل المهين لنا نحن الأدباء الشباب. من حزبنا وحركتنا النقدية... وطال الوقت حتى نجحت بعد جهود غير سهلة، شخصية ومادية ‘ من إصدار أول مجمعة قصصية، وقد جاء إصدارها مهين من ناحية الطباعة والمنتجة والغلاف، وخسارة عشرين عاما كاملة.

في ذكرياتي عن لقائي بمحمود درويش تختلط أمور كثيرة.. هناك ما أعتبره من المسائل الذاتية جدا التي لا أحب الخوض فيها.

عندما سمعت، بعد عودتي بشهر أو أكثر محمود درويش يعلن عبر إذاعة القاهرة (1970) انتقاله لموقع آخر، حزنت وفرحت في نفس الوقت. حزنت لفقداننا هذا الركن الهام في شعرنا المحلي، وفرحت لانطلاقة النسر من أسره. بنفس الوقت لم أتفاجأ من خطوته. ربما يصعب علي تفسير ذلك، ولن أحاول تفسير خطوته التي لم تفاجئني. لأنها قد تحمل الكثير من باب التأويل، وهذا لا أحب التطرق إليه، لأني إذا لمست بعضه، فذلك بسبب قربي الشخصي من محمود في تلك الفترة. وهي تقع في باب ذاتي وموقف محمود بأني أهل للثقة، كتبت النص الأول عن لقائي مع محمود قبل عشرين سنة، وبعد عشرين سنة من ذلك التعارف الذي جعلني أفهم الأدب أكثر من مجرد أسم في جريدة.. أو نص لغوي جميل... وبلا شك ان وجود محمود درويش في نفس المعهد، وما أثاره وصوله إلى موسكو في وقته من اهتمام واسع، حفزني على المزيد من الإبداع، ومن جعل الإبداع والفكر والنشاط الثقافي عامة مبدأ ومنهجا لحياتي. وكان الطلاب العرب يتساءلون عن مكان درويش في موسكو، وكثيرا ما عرفوه في الشوارع ونادوه باسمه ليحيوه بحب وتقدير ما رأيت مثله في حياتي.

الانعكاس الأساسي علي انه جعلني أفهم الأدب كالتزام واع بقضايا الناس وتطلعاتهم، وان الوطني حقا هو إنساني بالمقام الأول أيضا.

اليوم حين أنظر لخارطة العالم الثقافية، وارى المكانة المرموقة لمحمود درويش، ودوره الطليعي في خريطة الشعر العربي، واسمه الذي صار عنوانا لقضية، وطنية وإنسانية في نفس الوقت، أفكر وأقول لنفسي: ألا تبدو كتابتي عنه نوعا من التزلف والتفاخر الأجوف؟!

ليس من طبيعتي شيء من ذلك. ولكنها حقيقة أفخر بها وأعتز بها.

اليوم حين نودع سنديانتا الشعرية.. وحلمنا ونموذجنا الأعلى... أشعر كم سنبقى مقصرين، بحق الإنسان والشاعر.. المتألم لآلام شعبه، والذي ترك في نفس كل واحد منا شيئا من ذاته.شيئا من طهارته. شيئا من إنسانيته وشيئا من تحديه...
سيبقى محمود درويش علامة فاصلة لشعرنا، لثقافتنا، لإنسانيتنا، ولقدرتنا على مواصلة الإبداع.. ومواصلة التحدي والنضال لتحقيق الحلم الكبير لمحمود ولشعب محمود، بإقامة دولة فلسطين الديمقراطية، بيتا دافئا للشعب الفلسطيني، ويكفي فخرا لشعب فلسطين شاعرهم القومي الإنساني، الذي صار اسمه مرادفا لما هو جميل وراق في الأدب العربي والعالمي كله.

 

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.