3

:: محاولة لفهم الثورات العربية الحالية ::

   
 

التاريخ : 23/02/2011

الكاتب : مازن كم الماز   عدد القراءات : 1919

 


 

الأفكار التالية هي مناوشات ضرورية مع فهمنا للثورة المصرية التي يجب اعتبارها مع الثورة التونسية، والثورات اليمنية والليبية وأرجو في القريب العاجل أن نضيف ثورات أخرى، على أنها أبرز حدث في أوائل الألفية الثالثة وربما ذلك الحدث الذي سيحدد إلى حد كبير صورة عالمنا الذي نعيش فيه في العقود التالية.. أعتقد أن القضية هنا هي في تجاوز القوالب النمطية (الإيديولوجية) السابقة التي اعتدنا على أن نحشر الواقع فيها ونحن نريد فهم هاتين الثورتين أو الموجة الثورية الحالية، إنها فرصة هامة، وربما تكون من الفرص الأخيرة في حياة جيلنا، لتجاوز الطابع السلطوي لحياتنا، لوعينا، وللفكر والتنظيم اليساريين، وأيضا للفهم النخبوي السائد عما تسميه النخبة بالديمقراطية.. هذا يبدو ممكنا اليوم لعدة أسباب أهمها أن الثورات الراهنة هي نفسها غير نمطية، خارج الصورة النمطية المعروفة للثورة في كل تصورات القوى اليسارية المختلفة، أقول اليسارية لأن اليمين بما فيه الليبرالي والإسلامي لا يعترف بالثورة كما أعتقد وأزعم، وإذا فعل ذلك مؤقتا تحت ضغط الأمر الواقع، الثوري، فإنه يبقى متمسكا بشدة برفض جذري وقاطع لفكرة الثورة نفسها، الليبرالية تبحث عن معادلة مستقرة لحياة سياسية تتمحور حول نخبة سياسية اجتماعية تحتكر "بشكل شرعي" امتياز ملكية وسائل الإنتاج وممارسة "حكم رشيد" لا يقوم الاجتماع الإنساني إلا به بحيث تدير العلاقات داخلها "بطريقة تنافسية"، والإسلاميون ما زالوا حتى اللحظة يصرون على إرث السلطة الإسلامية القروسطية المستبدة بما يعني أن الحاكم سيبقى حتى إشعار آخر حاكما مطلقا يحكم باسم السماء ولا يملك عبيد تلك السماء إلا أن يكونوا مجرد أتباع لهذا الحاكم.. صحيح أن الثورات قامت في ظل إفقار غير مسبوق للجماهير لكن القوة التي شكلت رأس حربة الثورة لم تأت من الجماهير الفقيرة رغم أن انضمام الأخيرة السريع للثورة ومشاركتها هذه لعبت دورا حاسما في انتصار الثورة دون شك لكن تحطيم حاجز الخوف ونشر فكرة الحرية بدأ من صفوف الشباب، شباب الطبقة الوسطى وربما حتى الفئات الأعلى من تلك الطبقة.. لذلك أفترض أن هذه الموجة الثورية أقرب، إن لم تكن تكاد تتماثل، مع موجة ثورات 1968 في أوربا الغربية (فرنسا – إيطاليا) والشرقية (تشيكوسلوفاكيا الموحدة يومها) وصولا حتى أمريكا والمكسيك، تلك الثورات التي وصفت بثورات الشباب والطلبة أساسا رغم أن العمال قد شاركوا فيها أيضا بحماسة، لم يعرف جيل ما بعد الستينيات عن هذه الثورات، على الأقل بقدر ما عرف عن زعماء الدول والأحزاب الستالينية يومها، لقد طويت صفحة تلك الثورات حتى من قبل اليسار يومها، ناهيك عن اليمين، عدا عن أنها لم تحلل بما يكفي من قبل قوى اليسار العريضة وأنا أزعم أن هذا يعود، كما في المد الثوري الحالي، إلى طابعها غير النمطي، والتحرري جزئيا... يقول الشيوعي التحرري البريطاني موريس برينتون أحد أعضاء مجموعة التضامن البريطانية الشيوعية التحررية (كانت ناشطة من ستينيات القرن العشرين حتى الثمانينيات والتي تعاونت بشكل كبير مع المجموعة الشيوعية التحررية الفرنسية اشتراكية أو بربرية في محاولة وضع تحليل تحرري ثوري للمجتمع الرأسمالي المعاصر ولنظام رأسمالية الدولة الستاليني) في تحليله لثورة مايو أيار 68 في فرنسا : "لم يكن الجوع هو الذي دفع الطلاب كي يثوروا. لم تكن هناك "أزمة اقتصادية" حتى بأقل معنى للكلمة. لا علاقة للثورة بأي "نقص في الاستهلاك" أو "زيادة في الإنتاج". ولم يحدث أي "انخفاض في معدل الربح". أكثر من ذلك لم تقم حركة الطلاب على أساس مطالب اقتصادية. على العكس، وجدت الحركة مكانتها الحقيقية، واستفزت رد فعلها الهائل، فقط عندما ذهبت أبعد من المطالب الاقتصادية البحتة التي قام الاتحاد الطلابي الرسمي باحتوائها داخلها لفترة طويلة (وسط مباركة كل الأحزاب السياسية والمجموعات "الثورية" اليسارية)" (1).. يؤكد برينتون أيضا على فكرة رئيسية، تنطبق على المد الثوري الراهن، هو أنه لم يكن هناك أيضا "تزايد تدريجي في تلك التناقضات" ولا "تطور تقدمي في وعي الجماهير الثوري"، كما جرى اليوم أيضا أمام أعيننا، كان الانفجار مفاجئا بالكامل، حتى لمن قاموا به، وبقيت درجة جذريته وعمقها معلقة وغير محسومة حتى الأيام الأخيرة للثورة... يحدد برينتون التناقض الرئيسي في الرأسمالية المعاصرة (التي تصبح بيروقراطية أكثر فأكثر، مرتبطة أكثر بالدولة، دولتية) ب"التناقض بين من يعطي الأوامر ومن يتلقى تلك الأوامر"، وليس "فوضى السوق" أو "التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الملكية"... أنا أعتقد أن التحول النيوليبرالي في الأنظمة العربية التي تعبر عن رأسمالية الدولة البيروقراطية، التابعة أساسا، قد فاقم بالفعل من تناقضاتها الداخلية، وخاصة تناقضها الأهم مع القوى الاجتماعية الأكثر تهميشا في المجتمع، لقد لعب الإفقار المتزايد للفئات الأكثر فقرا وتهميشا دورا أساسيا في اندلاع السخط ومن ثم انفجاره الثوري، لكن ليس في شكل انتفاضة جوع، بل في شكل احتجاجي على التهميش الاجتماعي والسياسي، لقد أنتج التزاوج النيوليبرالي بين السلطة ورأس المال ودرجات الإفقار غير المسبوقة التي أدى إليها، أنتج إحساسا أكثر مرارة وأوضح وأعمق بالتهميش السياسي والاجتماعي عند الشباب تحديدا، وخلق بالتالي هذه الرغبة العارمة في مقاومة العالم القديم وفي تغييره.. في تحليل للمجموعة اليسارية التحررية التي ظهرت بين أواسط الخمسينيات وأوائل سبعينيات القرن العشرين والتي لعبت دورا هاما، على الصعيد الفكري وحتى العملي، في ثورة أيار مايو 68 الفرنسية، وهو أممية مبدعي المواقف أو الأممية الموقفية Situationist International، جرى تحديد تناقضين أساسيين في المجتمع الرأسمالي المعاصر في ظل بقرطته المتزايدة : أولا أن رأس المال يقوم بعملية تحويل أقسام هائلة من المجتمع، من الفئات الاجتماعية المختلفة، إلى بروليتاريين، وثانيا تسليع كل شيء، تحويله إلى Fetish، إلى شيء، ذا قدرة سحرية، أو تنسب إليه قدرة سحرية، إلى جانب تطور المشهد Spectacle أو الاستعراض الذي يسيطر بصوره على وعي الناس ويكرس وضعيتهم كمتفرجين، منفذين سلبيين لرغبة وقرارات البيروقراطية المكلفة بإدارة المعمل والدولة البرجوازيتين من قبل رأس المال.. أنا أعتقد أن الروح الثورية عند الشباب، المصري والجيل الحالي عموما في الشوارع العربية، موجهة أساسا ضد فكرة القمع والوصاية والإقصاء، وضد المؤسسات التي تقوم على هذه الفكرة وعلى تطبيقها في الممارسة، أي مؤسسات المراقبة ومؤسسات القمع بكل أشكالها، بما في ذلك الاجتماعية والطبقية، ضد فكرة وممارسة التراتبية الهرمية التي تقوم على قمع الأقلية التي في قمة الهرم الاجتماعي والسياسي للأغلبية التي في القاعدة والسيطرة عليها وتهميشها واستغلالها وحرمانها من نتاج عملها... أزعم أن هذا واضح في مركزية فكرة الحرية عند الشباب، بشكل ضبابي بالتأكيد لكن أيضا بفهم تحرري ينتقد ويرفض وإن بصورة مشوشة كلا من فكرة الإقصاء والتهميش ومؤسسات القمع والكبت أيضا.. يجب هنا أن نشير بوضوح إلى أن مؤسسات القمع والكبت هذه قد انحنت أمام العاصفة لكنها ما تزال هناك بكل تفاصيلها، حتى بتفاصيلها القديمة والسابقة الفجة والمكروهة ذاتها، من الدولة إلى الشرطة والجيش وأجهزة القمع الأخرى إلى مؤسسة المعمل، الجامعة، المدرسة، ومؤسسة الجنس الرسمي (العائلة) وغير الرسمي (سوق العاهرات الخ)، والمسجد أو الكنيسة، الخ، ما تزال البيروقراطية هي صاحبة الكلمة الفصل في كل جوانب الحياة الاجتماعية، ما تزال تحصر بأيديها كل السلطة، وما تزال هي من يتخذ كل القرارات فيما يتعلق بحياة وشروط حياة أعضاء تلك المؤسسات الذين يفترض منهم أن ينصاعوا لسلطة من في الأعلى وأن ينفذوا أوامر أولئك الذين في الأعلى دون تردد أو نقاش، ولأن استمرار الشكل السابق أصبح مستحيلا تحاول تلك المؤسسات اليوم أن تفرض "بديلا" وهميا عن نظامي مبارك وبن علي، يضمن استمرار نفس المؤسسات السلطوية الفوقية الخاضعة بالكامل لبيروقراطية سيتغير رأسها بالتأكيد بدرجة تختلف حسب ضرورات إعادة إنتاجها وذلك بعد تعديلها بما يضفي عليها شرعية أكبر في عيون ووعي من يفترض أن يخضعوا لها دون تردد أي أولئك الذين في قاعدتها والذين سيفرض عليهم أن يستمروا بالتصرف كأتباع، كأشياء، وكمتلقين ومنفذين للأوامر، وفي المحصلة الأخيرة كفئات وطبقات اجتماعية مستغلة (بفتح الغين) تعمل لإنتاج ثروة من هم في الأعلى، كبروليتاريين... لذلك تصر القوى الاجتماعية والسياسية المهيمنة ومنظروها على أن تحصر ما يسمى بالفترة الانتقالية في دائرة "الخبراء الدستوريين" وفي مطالب "تشكيل حكومة جديدة، حكومة تكنوقراط، أو تعديل حكومتي شفيق والغنوشي"، الخ دون أي حراك فعلي في الشارع.. يجب هنا أن نلاحظ أنه للثورات عمر، إنها أيضا تعيش، وتموت عندما تفقد زخمها، تولد وتنمو ثم تصير كهلة، وهي أيضا تمرض، لكن هذا كله يحدث بسرعة هائلة تماما كما بنفس السرعة التي تندلع بها، يمكن مثلا فيم يتعلق بثورة مايو أيار 68 التي قام بها الشباب والطلاب والعمال الفرنسيون، أن نعتبر احتلال مبنى الإدارة في جامعة ناتيير الباريسية في 22 مارس آذار شرارتها الأولى، وذروتها في شهر مايو أيار العاصف، في 31 مايو أيار عندما كانت حكومة ديغول على شفا الانهيار عندما كان هناك 10 ملايين عامل فرنسي مشارك في الإضراب العام وعندما وقعت في اليوم السابق مظاهرة ضمت نصف مليون متظاهر في باريس، أعلن ديغول في ذلك اليوم العصيب بالنسبة لنظامه حل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات باكرة في 23 يونيو حزيران التالي وأمر العمال بالعودة إلى العمل بعد أن تأكد من ولاء الجيش ومن وجود قطعات كافية حول باريس لقمع الحركة. بعد أيام فقط كانت معنويات العمال تنهار بسرعة وفي 5 حزيران يونيو بدؤوا بالعودة إلى العمل، ساعد الحزب الشيوعي الفرنسي ومنظمته النقابية في كسر الإضرابات، بالخداع في بعض الأحيان، في حالة مترو باريس مثلا كان ممثلي الحزب ونقابته ينتقلون من محطة لأخرى ويخبرون العمال في تلك المحطة أن بقية المحطات قد عادت للعمل، ثم ينتقلون إلى محطة أخرى فبعدها وهكذا، في السادس من حزيران يونيو استعادت الشرطة جامعة السوربون التي كانت تحت سيطرة الطلاب وفي الانتخابات التشريعية فاز حزب ديغول وهكذا انتهت الثورة عمليا... لقد فتح سقوط بن علي ومبارك الباب أمام الثورة الحقيقية، فالقضية اليوم أكثر جذرية مما مضى، من تلك الأيام التي كان الصراع فيها يدور على فرض تغيير حقيقي في رأس النظام، الشيء الوحيد الذي يمثل "تغييرا" "جديا" في أنظمة فردية استبدادية، القضية اليوم هي مواجهة التراتبية الهرمية، مواجهة الإقصاء والتهميش والكبت بكل أشكالها، مواجهة مؤسسات القمع، الفكري والاجتماعي والسياسي والروحي والجسدي، وأنا أزعم أن أكبر خطرين يتهددان بدء هذه الثورة الحقيقية ويهددان مصيرها سلفا هما خطر استخدام فكرة الوطن كفكرة وقضية مركزية في حالة ما بعد التغيير الأولي وحتى للتغيير نفسه، وثانيهما القيام بتطويب الشهداء... في السابق قالت الأناركية الأمريكية روسية الأصل إيما غولدمان أن الوطنية هي خطر على الحرية، إن الوطن فكرة مجردة لا حياة فيها، مجردة عن البشر، عن سكان هذا الوطن، بل إنها فوقهم، متسامية على وجودهم الفعلي ومصالحهم الفعلية، والمتوقع وفقا لمركزية تلك الفكرة هي أن "يضحي" الناس بتلك المصالح في سبيل "الوطن"، بما في ذلك "التضحية بأنفسهم"، هكذا يبدو أن من استشهد في يناير وفبراير فعل ذلك في سبيل شيء فوق إنساني، فوق ذواتهم، شيء أهم وأعظم منهم، دون أن تكون تلك الأولوية بحاجة لأي نقاش، نقل فيلهلم رايتش أحد أبرز المحللين النفسيين لظاهرة هتلر والنازية أن النازية، مثل الدين، اعتبرت أنها فكرة أو حركة "أولية"، أي أنها غير قابلة للنقاش، والأفكار التي تزعم أنها أولية، مثل الوطن أيضا أو الوطنية، لا تسمح حتى بمناقشة منطقية لهيمنتها ولأولويتها، يقول رايتش (2) أنه فقط الأفكار التي تقوم على النقاش يمكن إخضاعها للنقاش مرة أخرى، يمكن مناقشتها أو نقدها، هكذا ظهرت النازية وهكذا أيضا تظهر الحركات القمعية التي يصبح النضال ضدها مهمة شاقة لمن تقمعهم... في "اللاعقلانية في السياسة Irrational In politics" يتكئ برينتون على نظرية رايتش في دور العائلة كمؤسسة قمع أولية في عملية Conditioning أو ما يمكن تسميتها الإشراط أو تنمية السلوك الانعكاسي (3) حيث يلعب الأبوان الصارمان جنسيا والمكبوتان جنسيا في نفس الوقت دورا تأسيسيا في تنمية شعور الخضوع للسلطة الخارجية، الطفل الذي يتعرض للتوبيخ من أبويه عندما يحاول تلبية رغباته يتعلم كيف يقمع رغباته تلك استجابة لذلك التوبيخ، هنا يرتبط القمع والكبت الجنسي بصورة الأب أو الأم، بمن يمارس هذا القمع والكبت، أو بالأحرى، ينقله إلى أولاده، هكذا تنشأ صورة السلطة في وعيه، التي ستبقى تحمل "صفة وشكلا أبوية" حتى مماته، هكذا يجري بواسطة القمع والكبت، الجنسيان أساسا، خلق طفل خجول، خائف، متردد، مطيع، أو بالمنطق السلطوي "جيد" و"أخلاقي"، "منضبط"، المأزق هنا ليس فقط في قمع الرغبة، بل في قمع فكرة الحرية والتمرد نفسها، في أن هذا الكبت والقمع ينتج الخوف والقلق من الحرية نفسها، على الرغم من كل المعاناة والألم الذي يشعر بهما الإنسان المقموع نتيجة واقع القمع والكبت الذي يتعرض له ونتيجة استسلامه المستمر لاستبداد وقمع السلطات المختلفة، أو للمؤسسات السلطوية المختلفة في حياته... هذه السلطة الأبوية التي قامت على القمع والكبت، أو على نقله وتكريسه بالأحرى لأنه ينشأ خارجها ولأنها هي ضحيته بقدر ما هي وسيلته ليستمر ويعيد إنتاج نفسه، تزعم وتكرس نفسها، كأية سلطة ومؤسسة وفكرة سلطوية لاحقة، كفكرة أولية، غير قابلة للنقاش، فوق فكر وعقل وجسد ورغبات الإنسان المقموع التي يجب أن تخضع جميعا لها، ليس الوطن شيء حقيقي، إنه رمز من رموز تلك السلطة، هناك وطن فعلي بالتأكيد لكنه يتألف من بشر حقيقيين مقموعين يفترض أن تكون حريته هي حريتهم، وليس وطنا فارغا أو ليس وطنا يتألف من السلطة السياسية القائمة أو رموزها، إنه الإنسان نفسه، ومن حوله، كل من يعيش على هذه الأرض، الوطن الحقيقي مقموع مثل أبنائه المقموعين، مقموع من الوطن السلطوي، وطن السلطة، السلطة التي تقمعه أولا والتي لا يمكن أن توجد أصلا دون أن تقمعه... تطويب الشهداء يعني تحويلهم من بشر إلى كائنات فوق بشرية، إنه ممارسة دينية تستحضر في وقت لاحق كهنوتها وطقوسها وفي مرحلة لاحقة لكن قريبة، تحولهم إلى رموز لمقدسها فوق الإنساني، والأهم أنها ممارسة تقوم على تهميش الناس الذين نجوا، على تكريس شعورهم بالدونية، وربما حتى الذنب، أمام ذكرى من ماتوا في سبيل حريتهم وحرية هؤلاء الناس الذين نجوا من رصاص وهراوات حراس نظامي مبارك وبن علي، هذا يعني تحويلهم إلى رموز لقمع الناجين وليس رمزا لحريتهم (يكفي لنرصد هذا التحول أن نقرأ شعار : الشهداء أكرم منا جميعا، المكافئ لقول مشهور عن حافظ الأسد الشهداء أكرم... وأنبل...، الحقيقة أننا جميعا متساوون كما يفترض في درجة الكرامة والنبل الخ وأن الشهداء ماتوا لتأكيد هذه المساواة أساسا)... إنني أزعم أن تحريرنا كبشر لا بد أن يكون عبر تحطيم كل أشكال ومؤسسات القمع والكبت والتهميش والاستغلال والاستلاب، نقطة الصفر في هذه العملية التي ستستمر وترتقي دون توقف إلى ما نهاية بالطبع طالما وجد البشر، والتي أعتقد أنها النقطة المركزية في الشيوعية التحررية أو الأناركية، هي أن يمتلك الإنسان وسائل إنتاجه وأن يقرر مصيره بنفسه مباشرة، لا توجد هنا أنصاف حلول أو أنصاف حرية أو أرباع أو أية أجزاء أخرى، كل شيء أقل من هذا لا يعني إلا شيئا واحدا، ألا وهو العبودية، والعبودية هي من تلك الأشياء في الحياة التي لا يمكن تقسيمها إلى جيد وسيء، أسوأ وأفضل.... الليبراليون هنا يحصرون التحرر في القوانين والدساتير المكتوبة، إنهم يحررون الإنسان على الورق فقط، لأنه كما قال ميخائيل باكونين ذات يوم : "إن أولئك العبيد.. بالمعنى الاجتماعي هم أيضا عبيد بالمعنى السياسي.. إنهم لا يملكون التعليم، ولا وقت الفراغ ولا الاستقلالية الضرورية بكل تأكيد لممارسة حرة وذات معنى لحقوق مواطنتهم " (4)، إنهم ينتجون قمعا مضاعفا، بتسليع كل شيء، ويساوون البروليتاري ببرغي الآلة ويحولون عمله ووجوده بأسره إلى سلعة، مال، إلى سلعة السلع، لكي يكملوا عملية اغترابه ويدفعوها إلى درجة غير مسبوقة.. إن عملية القضاء على مؤسسات القمع والكبت ليست إيديولوجية، لقد أثبتت الظروف مثلا أن شباب الإخوان أنفسهم قادرون على تحرير أنفسهم والمشاركة في تحرير المصريين لأنفسهم، السيء في الموضوع أنه مع عودتهم إلى مؤسساتهم التنظيمية وممارستهم التنظيمية الروتينية التي تتطلب منهم السمع والطاعة لأهل الحل والعقد في قيادة الجماعة، كما سيفعل سواهم من المصريين، سيعودون من جديد تحت سطوة مؤسسات القمع والكبت السائدة، تبقى فقط ذكريات نشوة أو Euphoria الأيام 18 التي حاربوا فيها من أجل حريتهم، التي أزعم أنها إذا لم تكن نشوة جنسية فإنها نشوة محرمة بما لا يقل عن النشوة الجنسية نفسها (إن نشوة الحرية نشوة إشباع من نمط رائع، مثل النشوة الجنسية، لكنها مثلها أيضا الأكثر تحريضا للقلق والخوف من التلبية أو الاستجابة الحرة للرغبة، الخوف من هذه الحرية المفاجئة) تبقى هذه النشوة سلاحهم وسلاحنا الأمضى في الأيام القادمة للنضال ضد مؤسسات القمع والتراتبية الهرمية السلطوية القائمة، أن تستثيرهم تلك النشوة، ذلك الإشباع المفاجئ لذواتهم، تلك النسمة المنعشة من الحرية ليبحثوا عنها من جديد وليتحدوا كل من يحول بينهم وبين مثل هذا الإشباع المستمر لجوهر كينونتهم... العدو الأول لمثل هذا الإشباع المستمر، لإحساس دائم بهذه النشوة – الحرية هو أن تتمكن النخب السائدة من فرض "تغييرها" أي فرض شكل ما، معدل، من المؤسسات الفوقية السلطوية القائمة، التي قد تتطلب من الجوعى والفقراء والمهمشين والمكبوتين أن يذهبوا كل عدة سنوات ليختاروا من بين تلك النخب من سيكون سيدهم، "مرة واحدة في ذلك اليوم، تأتي البرجوازية، التي تستغلهم وتضطهدهم بشكل يومي، تأتي أمامهم وتتحدث عن المساواة، الأخوة، وتسميهم بشرا مستقلين، وأنها تريد أن تكون خادمتهم وممثلهم المتواضع. وما أن يمر ذلك اليوم حتى تتبخر الأخوة والمساواة كالدخان، وتصبح البرجوازية مرة أخرى هي البرجوازية القديمة، وتعود البروليتاريا، أو المواطنون المستقلون، إلى عبوديتها" (4)، أو كما شرح الأناركي إيلسي ريكلوس جوهر الديمقراطية البرجوازية : "أن تنتخب سيدا أو أكثر، لفترة قصيرة أو طويلة، يعني أن تتخلى عن حريتك"، "أن تصوت أو أن تنتخب، يعني أنك تتخلى عن قوتك" (5)، لا شك أن قوى كقيادات الوفد والإخوان أو الحزب الديمقراطي التقدمي واتحاد الشغل التونسي تنظر بسعادة لمثل هذا التطور، لكن هذا لا يعني أي شيء بالنسبة للناس العاديين، بمن فيهم الشباب الذين فجروا ثورتي مصر وتونس، لأن هذا يعني، كما في حالة ثورة أيار مايو 68، نهاية الثورة الفعلية، نهاية النضال وربما حتى الحلم بالحرية، حتى المعركة من أجل اتحاد نقابي مستقل عن النظام القائم لن يعني في حالة استمراره كمؤسسة فوقية تخضع لبيروقراطية محترفة إلا أن زعماءه الجدد ستنفتح أمامهم إمكانية الاندماج ببنية النظام القائم ضمن معادلة جديدة من توازن القوى داخل البيروقراطية الحاكمة... أنا أزعم أنه لا بد من تفكيك كل الأفكار والمفاهيم "الأولية" لتصبح بشرية، واقعية، قابلة للنقاش، للنقد وحتى للدحض والنفي، أن تكون خاضعة للبشر الواقعيين بدلا من أن يكونوا هم خاضعين لها، أن يتحكموا هم بها وأن يحددوا هم معناها ومضمونها من خلال جدال عام وحر بدلا من أن تتحكم هي بهم وتفرض عليهم من قبل المؤسسات القائمة،

 أولا أن نفهم من كلمة الإنسان ذلك الإنسان ذا الوجود الواقعي، البروليتاري طالما أن الرأسمالية المعاصرة بما في ذلك التابعة تحول البشر عموما خارج حدود الرأسمالية والبيروقراطية إلى بروليتاري، الإنسان المهمش، المقموع، ليس الإنسان المجرد الليبرالي، ولا البروليتاري المجرد من وجوده الواقعي المؤدلج أي صورة الإنسان في الإيديولوجيا السائدة والذي عاش في الواقع كتابع، إن لم يكن كعبد، لبيروقراطية الحزب الستالينية بل وفي معسكرات اعتقالها ومعسكراتها للعمل الإجباري، والذي استخدم فقط كفكرة "أولية" لتبرير سلطة هذه البيروقراطية... أزعم أنه لا بد من البدء بتفكيك المؤسسات القمعية، مؤسسات الكبت القائمة، ستكون هذه هي بداية الحرية الحقيقية هذه المرة... في عام 1975 تسأل برينتون "هناك.. تفاوت صارخ بين الاتجاهات الراديكالية لهذه الفترة (التي يشارك فيها الكثيرون اليوم) وبين القبول المستمر لمعظم من يسمون ثوريين (ستالينيون، تروتسكيون، ماويون، الخ) بالمؤسسات والممارسات السلطوية" (6)، ربما لهذا السبب على الأغلب تلى ذلك المد الثوري العارم في ستينيات القرن العشرين فترة صمت، أو فترة ركود طويلة اختفت خلالها آثارها وحتى أفكارها التحررية، وهذا ما أزعم أنه أحد الدروس الهامة لثورات 1968 التي يجب تعلمها لكي نسهم في تحويل هذا المد الثوري الراهن إلى حقيقة واقعة، إلى تغيير جدي، تغيير جذري.....

 

 

(1)        Maurice Brinton، Paris : 1968، from www.marxists.org/archive/brinton/1968/06/may68.htm#21

(2)        Mass Psychology of Facsim، Wilhlem Reich، New York 1946، page 29

(3)        Maurice Brinton، Irrational in Politics،

www.marxists.org/archive/brinton/1970/irrational-politics.htm#h6

(4)        Bakunin' s writings، www.marxists.org/reference/archive/bakunin/works/writings/ch08.htm

(5)        Why anarchists don't vote ? by Elisee Reclus

1.  //dwardmac.pitzer.edu/anarchist_archives/bright/recluse/recluscol.htm

(6)        Maurice Brinton، Irrational in Politice

2.  www.marxists.org/archive/brinton/1970/irrational-politics.htm#12

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.