3

:: أنا وفيروز والزمن طويل (الأخيرة) ::

   
 

التاريخ : 22/10/2010

الكاتب : خطيب بدلة   عدد القراءات : 12232

 


أنا وفيروز والزمن طويل (الأخيرة)

 

بعد أن ناقشنا، في المقارىء الخمسة السابقة، خمسَ قصائد فيروزية عظيمة مكتوبة باللغة المحكية، يمكننا، في هذا المقرأ، أن نناقش قصيدة فصيحة كتبها ولحّنها الأخوان رحباني، وهي قصيدة (يا حبيبي كلما هب الهوى).. المنسوجة- كما أعلمني الصديق عبدالله صباغ- على منوال موشحة لسان الدين بن الخطيب (زمان الوصل).

 

لعلّ أول سؤال يمكن أن يطرحه المرء الواقف أمام هذه القصيدة، وغيرها من أشعار عاصي ومنصور الرحباني هو التالي: لماذا، حينما يجري الكلام عن القصيدة العربية، ويجري تصنيف الشعراء المعاصرين، لا يُذكر بينهم هذان الشاعران بوصفهما اثنين من (فحول) الشعر الحديث؟

هذا السؤال سأضعه أمام النقاد والدارسين والمصنفين، وأقترح عليهم، إذا لم تدوّخهم هذه القصيدة، أن يقرؤوا قصيدة (يا كروماً لنا)، و(مُرَّ بي)، و(رجعتَ في المساء)، ووقتئذ لن يصنفوهما مع الشعراء المحدثين البارزين وحسب، بل سيضعونهما في مقدمتهم.

وأنتقل، وإياكم، إلى المقطع الأول من القصيدة التي نحن بصددها، وهو التالي:

يا حبيبي كلما هبَّ الهوا
وشدا البلبلُ نجوى حبِّهِ
لَفَّني الوجدُ وأضناني الهوى
كفراشٍ ليسَ يدري ما بهِ
صُغْ لقلبي يا حبيبي حُلُما
من سنا الصبحِ وغدرِ الغَلَسِ
لُمَّني من وحشةِ العمرِ كما
لَمَّتِ النسمةُ عطرَ النرجس

أرجو منكم أن تلاحظوا أن هذه القصيدة تتوجه بالخطاب مباشرة إلى الحبيب، من دون تحديد من يكون، فالحبيب لم يكن نكرةً بالنسبة لحبيبته قط، بل إنه معرفة و(عَلَم) حتى ولو رمزنا لاسمه بحرف واحد. إنه ليس بحاجة إلى تعريف، والشاعران- لهذا السبب- لم يحاولا تعريفه.

ومناداة الحبيب هنا، بهذه الطريقة التي تؤديها الفيروزةُ على نحوٍ خلاب، هَدَفُها تنبيهه إلى الكلام المهم الذي تريد أن تخبره به، وهو كلام يتعلق بوصف حالتها الإنسانية الراهنة، فهي، كلما هب الهوا، (والهوا هنا بمعنى: الهواء)، وهو دائم الهبوب، وكلما شدا البلبل نجوى حبه، والبلابل تشكو نجوى حبها كثيراً، يحصل لها الأمر التالي: يلفُّها الوجدُ، ويضنيها الهوى، (والهوى هنا بمعنى العشق).. ولتوضيح الصورة أكثر نقول إن حالها يصبح كحال فراش حائر، ليس يدري ما به.. ولعل الدخول إلى أعماق نفس الفراش ووصف حيرته هو من الأشياء التي لم يسبق لها مثيل في الشعر العربي، وربما العالمي.

إن هذا المقطع الشعري العامر بالصور الشعرية الهائلة، ما هو إلا مقدمة لما تريد الحبيبة أن تطلبه من حبيبها، وهي تفعل ذلك بلغة الأمر (صُغْ)، وأمر الحبيب جد مختلفٌ عن أوامر الآخرين طبعاً.

تَعْرِفُ الحبيبةُ- دون أدنى شك- أن حبيبها صائغ ماهر، ولكن اختصاصه ليس بالذهب، بل بصياغة الأحلام التي تحتاجها القلوب بوصفها بلسماً شافياً.. (صُغْ لقلبي يا حبيبي حُلُما).. وتحدد له المادة التي تريدها مادة لحلمها، وهي شيئان ليسا متناقضَيْن وحسب، بل متحدان، وأحدهما مشتق من الآخر، هما (سنا الصبح.. وغدْر الغَلَس)..

 

ننتقل الآن إلى الشطر الثاني من القصيدة، ونقرأ فيه:

يا زمانَ الحبِّ هل رُجعى إلى
عهدِنا والروضُ زهرٌ يبسمُ
ننهبُ الفرصةَ والليلُ حلا
بالأغاني ودعانا الموسم
يومَ جئناهُ فأبدى سَقَما
وتهادى بحريرِ الملبسِ
أشرقَتْ عيناهُ سحراً مثلما
يشرقُ الصبحُ بيومٍ مشمسِ

 

كان للحب زمان سابق، هذا أمر مفهوم من السياق، وهي، أعني العاشقة، تخاطبه بصفته (زمان الحب)، وتسأله: يا ترى هل ثمة رجوع إلى العهد الأول حينما كان الزهر يبسم، وحين كانا، هي وحبيبُها، ينهبان فرصة اللقاء بين الزهور، والليل يحلو بأغاني الموسم.

لقد جاؤوا إلى الحبيب يومئذ، وكان يُبدي سقماً (مرضاً ونحولاً)، ولكنه سرعان ما تهادى بثيابه الحريرية، وأشرقت عيناه سحراً (من فرحة اللقاء).

إن إقفال القصيدة بالحديث عن إشراق وجه الحبيب على نحو ساحر، وتشبيهه بإشراق الصبح بيوم مشمس، يؤكد لنا، من دون أدنى ريب، انحياز الشاعرين الرحبانيين الدائم إلى الحياة. وهذا ما استفضنا في الحديث عنه من قبل.

 

ملاحظة لأحبائنا القرّاء

كان بودي أن أقرأ عدداً كبيراً من أغاني فيروز ضمن هذه الزاوية.. ولكنني اضطررت للتوقف لأنني بصدد تحويل هذه السلسلة إلى مسلسل إذاعي.. فعذراً

 

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

25-10-2010 02:4

سوزان

إعتراض....

بما أنّ الإذاعات لا يمكنها الوصول إلى كافة المستمعين في مختلف الدول،

وبما أنّ موقع جماليا يتخطى الحدود ويصل إلى الجميع....

نطالب باستمرار القراءات الرحبانية - الفيروزية، وإلاّ فتلك خسارة للقارئ.

بكل محبّة


 

   
 

.