3

:: أنا وفيروز والزمن طويل (4) - يــارا ::

   
 

التاريخ : 10/09/2010

الكاتب : خطيب بدلة   عدد القراءات : 3386

 


أنا وفيروز والزمن طويل (4)

يارا

 

 

لا تنتمي أغنية (يارا) التي كتبها شيخُ شباب الشعر العربي الحديث الأستاذ سعيد عقل، ولَحَّنَها الأخوان رحباني إلى أغاني الأطفال، رغم أن عنصر البراءة متوفر فيها، ورغم أن لـ(يارا) جديلتين شقراوين كأية طفلة جميلة.. وهي ليست أغنية عاطفية تتكلم عن الأشواق، والعواطف الجياشة، والهجر، وكيد العواذل، والوصال، والغرام اللاهب.. وليست أغنية وطنية.

 

 

 

إنها باختصار قصة شعرية إنسانية طريفة جداً.. تُروى بأقل ما يمكن من الكلمات، والبلاغة فيها تأتي من الإيجاز.

بيد أن هذا المبدأ لا يمكن أن يُلَخِّصَ العملية البلاغية برمتها عند سعيد عقل، بل إن ثمة عناصر أخرى يستخدمُها ليرفع بلاغة قصيدته إلى مستويات عالية.
انظروا، مثلاً، إلى (أل) التعريف التي أدخلها إلى الجملة الاسمية المؤلفة من مبتدأ وخبر (جدايلها شقر) فقال: "يارا الـْ جَدايِلْها شِقِرْ". إن هذا، في الحقيقة، شيء جديد ومبتكر في الشعر العربي.. ثم يُدخلُ (أل) التعريف إلى الجملة التي تبدأ بحرف الجر فيصف الجدايل بقوله: "الـْ فيهُن بْيِتْمَرْجَحْ عُمُر".

إن المبدأ الأساسي في صناعة المراجيح، كما هو معلوم، هو التالي: يؤتى بحبلين متينين متوازيين، يعلقان في مكان مرتفع، ويتركان متدليين إلى الأسفل، وتوضع بينهما قطعة قماش عرضانية يجلس عليها إنسان ما، ويتأرجح، أو دعنا نقل يتمرجح.

من هذا المنظر الرشيق اشتقَّ سعيد عقل هذه الصورة البديعة، فالجديلتان تنزلان من رأس يارا إلى الأسفل على هيئة الحبلين الخاصّين بالمرجوحة.. وإن ما (يتمرجح) فيهما هو الشيء الأغلى في حياة الإنسان كلها، أعني العمر.

وليكن معلوماً أن هذه الصورة، أو اللقطة، أُخذت، أو التُقِطَتْ في الليل، بدليل وجود النجمات.. فما إن اكتمل المشهد، وَوُضِعَ عُمْرُ الشاعر في (مرجوحة) جدايل يارا، حتى تألّق الكون، وبدأت كل نجمة على حدة تبوح بأسرارها!.

والجميل في الأمر أن الأسرار بقيت أسراراً، والشاعر لم ينقلها إلينا، لأن جمالية الصورة هنا تتلخص في غموضها.

تستمر مراقبة الشاعر ليارا طيلة السهرة. ومرة أخرى يُدخَل (أل) التعريف، ولكن إلى الجملة الفعلية هذه المرة. فيقول: "يارا الـْ غِفِي عا زِنْدْها خَيَّا الزّغير". وهو هنا يستخدم (أل) بمعنى التي.

ماذا فعلت هذه الـ"يارا"؟ يقول: (وضَلِّتْ تْغَنّي والدّني حَدَّا تْطّير، والرّياح تْدَّوْزِن وْتارا...).

هذه الجملة، إذا كنت تريد الحق، تحتاج إلى ترتيب جديد، لتصبح كما يلي: يارا، ذات الجديلتين الشقراوين اللتين يتمرجح العمر فيهما، نام أخوها الصغير على زندها، وشرعت هي تغني، وكانت الدنيا في جوارها تطير. ممّ تطير؟ ربما من الحب، وربما من الفرح، وربما من الألفة. وكانت الرياح، في تلك اللحظة، تدوزن الأوتار.
أرجوكم أن تنتبهوا إلى أنّ من عادة الرياح حينما تعبر في بعض الأماكن أن تصدر صفيراً، أو أصواتاً غير منتظمة.. فلعلها هنا، وإكراماً لجديلتَيْ يارا سوف تصدر أنغاماً مدوزنة!.

ويعود سعيد عقل ليتابع لنا وصف الحالة التي ترك عليها يارا، ويرى أن من الأفضل، وقد عرفنا اسمها وبعض أوصافها، أن نحكي عنها بصفتها المبتكرة وهي (الحلوة الحلواية).. فيقول: "الحلْوِة الحِلْواية تَعْبُوا زْنُودْها- وْنِتْفِة اصْفَرّوا خْدودْها- وِبْإيْدْها نِعْسِت الإسْوارة".

إن زنديها قد تعبا بسبب أخيها الصغير الذي غفا عليهما، واصفرّ خدّاها قليلاً ربما بسبب طول الجلوس وحَمْل الأخ على الزند، ثم إن الإسوارة التي في يدها قد نعست.

أنتم تعلمون أن الصفة في العربية تأتي بعد الموصوف، وفي الإنكليزية تأتي قبل الموصوف. ههنا ينوّع الشاعر في تقنياته فيُقَدِّم الصفة على الموصوف. وبدلاً من أن يقول (اصفرَّ خدّاها نتفةً)، أي قليلاً، يقول: "نِتْفِة اصْفَرّوا خْدودْها".. واصفرار الخدود يتناغم لونياً مع النّعس ومع لون الأساور.

وأما قفلة القصيدة فهي شيء بديع فعلاً، إذ تقول: "وْلِمِّنْ إِجِتْ يارا- تْحِطّ خَيّا بالسّرير- تْصَلّي يا ربّي صَيّرُو خيّي كْبير".

وكانت ترفع إلى السماء يدين كالحرير "وللسّما دَيْها هَاكِ الدّين الحرير".. عندئذ انكمشت الشمس على نفسها، ومشت "انْلَمِّت الشّمس وْعَبِّتِ زْوَارا".

*

 

أنا وفيروز والزمن طويل (1) - بتشوف

أنا وفيروز والزمن طويل (2) – أنا وْسِهْرانِة

أنا وفيروز والزمن طويل (3) – جلنــار

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.