3

:: سيرة مواجهة مع خصوم العقل - عطية مسوح ::

   
 

التاريخ : 16/08/2010

الكاتب : عطية مسوح   عدد القراءات : 1421

 


 

 

مرة أخرى نجد (نصر حامد أبو زيد) حاضراً بقوة. فوفاته أعادت إلى الأذهان كل ما أثير في المعركة الشرسة التي اصطُنعت ضده في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وذكّرت المتنورين وأنصار العقل والمؤمنين بحرية التفكير بحلقة من حلقات سلسلة الصراع بين التنوُّر والظلامية، وبين الحرية التي هي شرط التقدم المعرفي والنشاط العقلي، وتقييد العقل الذي كان على مر الزمن وفي كل المجتمعات أساساً للتخلف.

كانت (قضية أبو زيد) آخر حلقة من حلقات سلسلة الصراع المذكورة في القرن العشرين، الذي افتتح بقضيتي طه حسين وعلي عبد الرازق، وظهرت فيه قضايا أخرى من أبرزها قضيتا صادق جلال العظم ونجيب محفوظ وحيدر حيدر.

إنها قضية واحدة، قضية حرية التفكير، وحق المفكر والباحث في أن يستخدم عقله فيما يبحث، وأن يناقش المسائل المطروحة واقعياً في ضوء مقتضيات الواقع والتقدم، دون أن تقيده قيود غريبة عن العلم وطبيعته وقوانينه.

المبدعون والمفكّرون والباحثون ينظرون إلى الماضي بعين الحاضر، وهدفهم دفع أمتهم إلى الأمام. أما التقليديون والمتزمتون فإنهم يرون الحاضر بعين الماضي، ويقرؤون الواقع والراهن بلغة عصور أخرى ولعل هذا هو أحد أهم مظاهر الصراع في القضايا التي ذكرناها.

تمحورت تلك القضايا حول كتب ونتاجات فكرية محددة، (في الشعر الجاهلي، الإسلام وأصول الحكم، نقد الفكر الديني، نقد الخطاب الديني..) أو حول كتب إبداعية (رواية أولاد حارتنا، ورواية وليمة لأعشاب البحر)، والذي يجمع بين تلك الكتب هو الروح النقدية ومخالفة المألوف السائد والسعي إلى الاختراق والكشف انطلاقاً من هاجس واحد هو انتشال مجتمعاتنا العربية من هوة التخلف ودفعها في طريق النهوض والتقدم.

ومؤلفو تلك الكتب هم مفكرون ومبدعون شغلتهم قضايا الأمة وثقافتها، وجمع بينهم على اختلاف الألوان السياسية والمناهج البحثية، الإيمانُ بحرية العقل وقدرته على الخوض في الأمور المعقدة والسير نحو اكتشاف الحقائق والاحتكام إليه في كل المسائل، والاعتراف بالتعدد وموضوعية الاختلاف في الرأي، وضرورة الصراع بطرق حضارية تقوم على مواجهة الفكرة بالفكرة والرأي بالرأي، واستبعاد العنف من كل ساحات الصراع داخل المجتمع، الذي يجب أن تتحقق فيه فكرة الوحدة من خلال التنوع، أو التنوع في إطار الوحدة.
أراد المتزمتون والتقليديون والمتشددون أن يلجموا العقل واللسان والقلم، حين أثاروا تلك القضايا، لكن أسماء المفكرين والمبدعين المستهدفين ظلت لامعة، وأفكارهم وجدت طريقها إلى التأثير في عقول الأجيال، وبرغم ما نجده من تراجع هنا وهناك، فإن أفكار الحرية العقلية وحرية التعبير عن الرأي، وحق الاختلاف والإقرار بالتعدد أصبحت أسساً لا يمكن لدعاة التقدم إنكارها أو التنكر لها، وهي تشق طريقها في الحياة الثقافية والاجتماعية برغم الصعوبات.
في كل القضايا الفكرية المذكورة، كان أنصار العقلانية والحرية يقفون إلى جانب المستهدفين، مدركين أن معركتهم واحدة، وأن الانتصار فيها هو انتصار لهم جميعاً ولقضية التحرر الوطني والوحدة القومية والنهوض والتقدم. وكما وقف المتنوِّرون المصريون والعرب إلى جانب طه حسين، وقف أبناؤهم وأحفادهم إلى جانب نصر حامد أبو زيد.
إنهم أنصار حرية التفكير، أنصار العقل ودعاة العقلانية، قضيتهم واحدة، وخلافاتهم في التفاصيل والرؤى لا يجوز أن تتقدم على وحدة أعمالهم ومواقفهم تجاه القضية الكبرى.

وما أجدرنا أن نتذكر دائماً شعار الشهيد جورج حاوي (يا أنصار العقل اتحدوا!).

غادر نصر حامد أبو زيد هذا العالم، تاركاً إرثاً فكرياً هاماً، وتجربة شخصية ثرية، وسيرة مواجهة نبيلة مع خصوم حرية العقل والتفكير. وسيكون ذلك كله نسغاً يغذّي شجرة الحرية ويمدّ الأجيال بما يعزز نزوعها العقلاني ونشاطها النهضوي.

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.