3

:: شخصيّة أبي نواس وشخصيّة شِعره - 2 ::

   
 

التاريخ : 24/07/2010

الكاتب : أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي   عدد القراءات : 1353

 


  

شخصيّة أبي نواس وشخصيّة شِعره

2

 

 

 

-1-

... لعل من تلك العوامل التي شوّهت صورة أبي نواس أخلاقيًّا- إلى جانب الشعوبيّة الفارسيّة ضدّ الشاعر، والشعوبيّة العربيّة ضدّه كذلك، والعصبية القَبَليّة العدنانيّة، التي عرّض ببعض قبائلها في شِعره، عامل ثالث هو:

3- الدعاية السياسيّة المأمونيّة ضدّ الأمين.  فمع أن الأمين- في ما نُقل- كان قد مَنَعَ أبا نواس عن ذكر الخمر وهدّده بالسجن، إلاّ أن أخاه المأمون قد ظلّ يعيّره بصُحبة أبي نواس.  وتذكر الروايات في ذلك أنه "لمّا خلع المأمونُ أخاه محمّد بن زُبيده [الأمين]، ووجّه بطاهر بن الحسين لمحاربته، كان يعملُ كُتبًا بعيوبِ أخيه، تُقْرأ على المنابر بخراسان؛ فكان ممّا عابه به أنْ قال: إنه استخلص رجلاً شاعرًا ماجِنًا كافرًا، يقال له الحسن بن هانئ، واستخلصه ليَشرَبَ معه الخمر، ويرتكبَ المآثم، ويَهْتِكَ المحارم، وهو الذي يقول:

ألا فاسقِني خَمْراً، وقُل لي هي الخمرُ     

ولا تسقني سِرًّا إذا أمْكَنَ الجَهـرُ!

وُبحْ باسم مَنْ تهوى،ودَعْني عن الكُنَى

فلا خَيرَ في اللَذاتِ من دونها سِتْرُ!

 

ويذكر أهلَ العراق، فيقول: أهل فسوقٍ وخمور، ومَاخُورٍ وفجور؛ ويقوم رَجلٌ بين يديه فيُنْشِد أشعار أبي نواس في المجون؛ فاتصل ذلك بابن زبيدة؛ فنهى الحسنَ عن الخمر، وحَبَسه ابنُ أبي الفضل بن الربيع؛ ثم كلّمه فيه الفضل(1)، فأخرجه بعد أن أخذ عليه ألاّ يشربَ خمراً، ولا يقول فيها شعراً، فقال:

ما مِنْ يدٍ في الناس  واحدةٍ        كَـيَدٍ  أبو العباسِ مَولاَها

نامَ الثقاتُ على مضاجعهـم       وسَرَى إلى نفسي فأحياها

قد كنتُ خِفْتُكَ، ثم آمــنني       من أنْ أخـافكَ خَوْفُكَ اللهَ

فَعفوتَ عنّي عَفوَ مُقــتدرٍ        وَجَبَتْ لهُ  نِقَـمٌ فألغـاها

 

ومن قوله في ترْك الشراب:

أيها الرائحان باللَّومِ، لُوما        لا أذوقُ المُدَامَ إلاّ شَمِيمـا

نَالَني بالمَلام فيها إمــامٌ        لا أرى لي خلافَهُ  مُستقيما

فاصرِفاها إلى سِوَايَ؛ فإني        لست إلاّ على الحديث نديما"(2)

 

وكان قبل ذلك قد حُبِس من قِبَل الفضل بن الربيع والرشيد لقوله:

ومُلِحّةٍ بالعذلِ تحسبُ  أنّني               للعذلِ أتركُ صُحبَةَ الشُّطّـارِ

أحرى وأحزم من تنظّر آجلٍ        ظنّي به رجمٌ من الأخبــارِ

ما جاءنا أحـدٌ يخـبّر أنّـهُ       في جنّةٍ مُذ ماتَ أو في نارِ!(3)

 

فإذن، الدعاية السياسيّة، التي كانت تُلقَى على المنابر، وتُنشر بين الناس، وتَشتغل بها آلة الإعلام المأمونيّة، التي قَضَتْ على الأمين، قَضَتْ على صديقه أبي نواس بصورة شوهاء، توشك أن تكون صورة شيطان رجيم، وَجَدَت في أسلوبه الشِّعريّ ما يخدم أغراضها.

4- عداؤه للمعتزلة، وللنظّام (إبراهيم بن سيّار، -231هـ= 845م) تحديدًا، وإنكاره عليه رأيه في الخطيئة والتوبة.(4)

5- الفهم الظاهريّ لشِعره، مع أن بنية ذلك الشِّعر العميقة قد تبدو نقدًا اجتماعيًّا أو تعرية لواقع الحال في عصره، ولاسيما بعد مشهده ما حدث لصديقه الأمين على يدَي أخيه المأمون.  أي أن "الكفاءة الأدبيّة" غير متوافرة لدى كثيرٍ ممّن قرؤوا شِعر أبي نواس.(5)

 

6- عدم فهم طبيعة الشِّعر أصلاً.  وهذا ما جعل بعض الأصوليّين من دارسي الأدب العربيّ عمومًا يُنكر الغَزَل ووصف الخمر في الشِّعر.  حتى إن هاتين الموضوعتين حين تردان في شِعر كعب بن زهير، مثلاً- في بردته أمام الرسول، وفي مسجده- يقول هؤلاء إنما ذلك لأن كعبًا جديد عهدٍ بإسلام، أو أن صدر القصيدة جاهليٌّ وباقيها إسلاميّ!  وكذلك يفعلون في بعض شِعر حسّان بن ثابت الإسلاميّ، ومنه قصيدته في فتح مكّة، ذات المقدمة الغَزَليّة الخمريّة(6):

فَدَع هَذا وَلَكِن  مَن لَطيـفٍ        يُؤَرِّقُني إِذا ذَهَبَ  العِشاءُ

لِشَـعثاءَ الَّتي  قَد تَيَّمَتــهُ       فَلَيسَ لِقَلبِهِ مِنها شِـفاءُ

كَأَنَّ سبيئةً مِن بَيـتِ  رَأسٍ       يَكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وَماءُ

عَلى أَنيابِها أَو طَعمَ غَـضٍّ        مِنَ التُفّاحِ هَصَّرَهُ  الجَناءُ

إِذا ما الأَشرِباتُ ذُكِرنَ يَوماً               فَهُنَّ  لِطَيِّبِ الراحِ الفِـداءُ

نُوَلّيها  المَلامَةَ  إِن أَلَمنـا        إِذا ما كانَ مَغثٌ أَو لِحـاءُ

وَنَشرَبُهــا فَتَترُكُنا مُلوكـًا       وَأُسداً ما يُنَهنِهُنا اللِقـاءُ

عَدِمنا خَيلَنـا إِن لَم تَرَوهـا       تُثيرُ النَقعَ  مَوعِدُها كَداءُ

 

وماذا عن شِعر الصحابي النابغة الجعديّ، الذي ظلّ يذكر الخمر حتى بعد إسلامه بأمد، مع أنه- كما ورد في أخباره- كان قد امتنع عن شربها منذ الجاهليّة؟  ذلك أن الإسلام كان أرحب بالشِّعر وموضوعاته وبالشعراء من هؤلاء الذين ظلّ ديدنهم تفتيش الصدور والعقائد والنوايا، وفهم الشِّعر بوصفه وثيقة، تُنجي قائلها أو تُدينه، كغيره من أنواع القول.

 

-2-

ولمّا شُوّهت صورة أبي نواس، صارت تتقاذفه الاتّهامات والأنساب.  صار الأعاجم يستخدمونه للطعن على العرب، (الأمين ومن إليه)، والعرب يستخدمونه للطعن على الأعاجم ويتبرّؤون من عروبته.  كما أن العدنانيّة يستخدمونه للطعن على القحطانيّة لادّعائه الولاء فيهم وهجائه بعض العدنانيّين.  ومعروف أنه كان قد عاش فترة في بادية بني أسد، وأخذ اللغة عن أعرابهم(7)، ولعل تلك التجربة أورثته موقفه من البادية ومن الأعراب، ومن ثَمّ موقف الأعراب منه، الشاهد عليه موقف ابن الأعرابي منه، لا نقدًا لغويًّا ولا فنّيًّا، وإنما لأسباب أخرى.  "رَوَى أبو هفان، قال: كان أبو عبد اللّه محمّد بن زياد الأعرابيّ يطعن على أبي نواس، ويَعِيبُ شِعْرَه، ويضعّفه، ويستلينه، فجمعه مع بَعْضِ رُوَاةِ شِعر أبي نواس مجلسٌ، والشيخُ لا يَعْرِفُه، فقال له صاحبُ أبي نواس: أتعرفُ- أعزَّكَ اللّه!- أحْسَنَ من هذا؟ وأنشده:

ضعيفة كرِّ الطَّرْفِ تحسب أنها      قريبة عهدٍ بالإفـاقةِ من سُقْمِ

... الأبيات، فقال: لا واللّه، فَلِمَنْ هو؟ قال: للذي يقول:

رَسْمُ الكَرَى بين الجفون مُحِيلُ      عَفَّى عليه بُكًا عليك طَوِيـلُ

يا ناظراً  ما أقْلَعَتْ لحظاتُــهُ      حتى تَشَحَّـطَ بينهنَّ  قَـتِيلُ

فطَرِبَ الشيخُ، وقال: وَيْحك! لمنْ هذا؟ فوالله ما سَمِعْتُ أجْوَد منه لقديمٍ ولا لمحدَث! فقال: لا أُخْبرك أو تكتبه؛ فكَتَبَه، وكَتَب الأوّل، فقال: للذي يقول:

رَكْبٌ تَسَـاقَوْا على الأكــوار بينهمُ     

كَأْسَ الكَرَى فانتَشَى المَسْقيُّ والساقي

كـأن أرْؤُسهمْ والنـوْمُ وَاضِعُـهـا

على المناكـبِ  لم تُخْلـََقْ بأعـناقِ

سـاروا  فلم يقطعوا عَقْداً لرَاحِلَـةٍ

حتى أناخُــوا إليكم قَبْـلَ إشـراقِ

مِنْ كل جـائلةِ الطَـرْفين ناجيــةٍ

مشتاقـةٍ حَمَلَتْ أوصـالَ مُشْـتَاقِ

فقال: لمن هذا؟ وكَتَبَه. فقال: للذي تَذُمُّه، وتَعِيب شِعره، أبي علي الحَكَمي! قال: اكْتُم عليّ، فوالله لا أعود لذلك أبداً."(8) 

 [وللحديث بقيّة]

 

ـــــــــــــــ

(1)  كذا.  ولعلّ الصحيح أن من حبسه هو الأمين، ومن شفع فيه الفضل بن الربيع.

(2)  الحصري القيرواني، أبو إسحاق إبراهيم بن علي (-453هـ= 1061م)، (1972)، زهر الآداب وثمر اللباب، عناية وشرح: زكي مبارك، حقّقه وزاد في شرحه: محمّد محيي الدين عبدالحميد (بيروت: دار الجيل)، 2: 464- 465.

(3)  الأبيات منسوبة إليه في بعض كتب الأدب، مثل: (الجرجاني، علي بن عبدالعزيز، (2006)، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تح. محمّد أبي الفضل إبراهيم وعلي محمّد البجاوي (صيدا- بيروت: المكتبة العصريّة)، 63)، ولم أجدها في ديوانه.

(4)  انظر: طه حسين، (1981)، حديث الأربعاء، (القاهرة: دار المعارف)، 2: 44.

(5)  عن الكفاءة الأدبيّة، يُنظر:

Culler, Jonathan, (1975), Structuralist Poetics :Structuralism, Linguistics and the Study of Literature, (London: Routledge & Kegan Paul), p.113.

(6)  (1929)، شرح ديوان حسّان بن ثابت الأنصاري، وضعه: عبدالرحمن البرقوقي (مصر: المطبعة الرحمانية)، 3- 4.

(7)  ينظر: ابن منظور، -711هـ= 1311م، (1924)، أخبار أبي نواس، (مصر: ؟): 12.

(8)  الحصري القيرواني، زهر الآداب، 1: 286- 287.

 

 

 

شخصيّة أبي نواس وشخصيّة شِعره

1

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.