3

:: هنري زغيب في القصر البلدي - زوق مكايل: "مهندسٌ" بارع في وضع النقاط على الحروف ::

   
 

التاريخ : 26/04/2010

الكاتب : جماليا - بيروت   عدد القراءات : 3505

 


 

 

في القصر البلدي – زوق مكايل، غصّت قاعة المحاضرات بحشد من الأدباء والشعراء والإعلاميين والمثقفين جاؤوا يتابعون الندوة التي دعا إليه المركز الثقافي البلدي (التابع لبلدية زوق مكايل) وأرادها لقاءً أدبياً للاحتفاء بصدور كتاب "نقطة على الحرف" للشاعر هنري زغيب.

الكتاب من 240 صفحة (قطع وسط)، صدر في سلسلة "الأدب المسموع". يضمّ 100 حلقة من التعليق الإذاعي "نقطة على الحرف" الذي يذيعه الشاعر بصوته صباحَ كل أربعاء وأحد من إذاعة "صوت لبنان". والكتاب من عشرة فصول في عشرة مواضيع: "من لبنان والعالم"، "شؤون ثقافية"، "فن وإبداع"، "من قضايا المرأة"، "شؤون سياسية"، "بعض الروحانيات"، "في التواصُل"، "في المدنيات"، "في السيكولوجيا"، "في العادات والتقاليد الاجتماعية".

قرّاء "جماليا" يعرفون هذه النصوص التي ينشرها لهم موقع "جماليا" فور إذاعتها في بيروت.

لذا ننقل إليهم وقائع هذه الندوة اللبنانية، كي يتابعوا ماذا قيل في هذه النصوص التي كان لهم أن يقرأُوها قبل صدورها في هذا الكتاب.

***

 

 

أنطوان سلامة: "هنري زغيب... المتنوع في مرايا الكلمة"

أدار اللقاء مدير المركز أنطوان سلامة، واستهلّ بالكلمة التالية:

"نقطةٌ على الحرف"!

ليس في العبارة ما يستوجبُ طرحَ الصوت الى لقاء احتفالي. فالحرفُ العربي يتَّسع لأكثرَ من نُقطة، لكنّ الحدث هو في قلمٍ وضعَها، طبعها قبلةً أو صفعة.

ومن وَضع اليوم الـ"نقطة على الحرف": شاعر، ناثر، صحافي، تحارُ عند مقاربة وجهه في مرايا الكلمة. فهو العتيق بسكب الحبر في الصحف والمجلات، منذ مجلة "الحوادث"، قلماً ثائراً، فياضاً، دافقاً في تقاطعات الوجدان والوعي، حتى اليوم في "النهار" مستنفراً على حدود الموقف اللاذع.

دخل الإعلام المرئي والمسموع قامةً ثقافية تضيء. في كل ما كتب وقال، تحرَّكَ على بيادر الحصاد برقاً ورعداً وتفجُّرَ طاقةٍ فيه لا تهدأ. ونحن في "المركز الثقافي البلدي" بين الذين لا يُريحهم الصديق هنري زغيب: لَجُوجٌ في دفع العمل الثقافي، مثابر في إتمامه، فتأمَّلوا وضعي بين رجلين لا يستريحان: نهاد نوفل من جهة، وهنري زغيب من الجهة الأخرى، وأنا بينهما مركبٌ من ورق بين مَوجتَين في مَـدٍّ لا يتراجع.

لأجل "نقطته على الحرف" نجتمع اليوم، في هذا اللقاء الذي، مهما موّهنا حقيقته، يبقى لقاءً من القلب إلى القلب، يبقى النثرُ فيه محطةً، ما دام من نقّط الحرفَ شاعرٌ، عاشق، صديق، مُحِبٌّ، مغامر، إصلاحي.

فيا أيُّها الصديق الغالي،

لأنك العاشق، عاشقُ الأرض الزوقية بما تحمله من ظلالك طفلاً يلهو شارداً في قوافي النول والشجر والعصافير على درج "العمَّة" الحنون، في حضورها كما في الغياب، ولأنك الصديق المعطاء في "المركز الثقافي البلدي" مع الكبير المؤسس نهاد نوفل، نفتح لك ولِمُحبّيك مدى النبض في لقاء أردتَه (وأردناه) صادقاً بامتياز، تُهدي الأحبَّة في آخره كتابَك الجديد في سلسلة "الأدب المسموع"، كتاباً يتّجه إلى الثورة الهادئة والهادفة، جمعتَ نصوصه في أبوابٍ تدور حول نقطة واحدة: الإصلاح، بدءاً من اليوميات، مروراً بالمدنيات، وصولاً إلى الإنسانيات. وكان واضحاً أنّك اقتربتَ من السياسة ولم تلج عالَمَها الرديء، فبقيتَ - في ما قلتَه من إذاعة "صوت لبنان"- شاعراً يحمل همَّ الإصلاح بمعناه الإنساني العريض.

فهل أدبٌ ما سمعناه منك إذاعياً، وأنت المشير في مقدّمة كتابك إلى السؤال الموجع: "هل ما يُذيعه أثيرُ الإذاعة ليُسمع، كلّه عابر؟ ما الذي يبقى منه، بعد إذاعته، صالحاً ليُقرأ".

***

 

الدكتور جوزف جبرا: "هنري زغيب لبنانِيٌّ قويٌّ في كل ما يكتب"

 

 

 

ثم كانت كلمة رئيس الجامعة اللبنانية الأميركية الدكتور جوزف جبرا، وهنا نصُّها:

"منذ تعرفتُ إليه في أول عهدي برئاسة الجامعة، عرفتُه دينامياً على حركة دائمة، لا يهدأ على إنجاز ويرتاح، بل وثاباً على نَهَمٍ في العطاء. لا يُنجِزُ نشاطاً حتى يبدأ بتحضير آخَر. كأنما قدرُه أن يكون صوتاً متواصلاً في الوسط الثقافي اللبناني، وكأنما قدره أن يكون ويظلّ تحت الضوء ويجذب الى هذا الضوء جمهور المثقّفين والمعنيين.

وكم كنتُ أخاف من أنشطته المتتالية على نتاجه الكتابي الشخصي، لو لم يكن، يا ما شاء الله، يظهر لي غزيراً في نتاجه الأدبي توازياً مع نتاجه النشاطي.

فمنذ عرفته، وأنا أُتابع كتاباته أسبوعياً في جريدة "النهار" صباح كل سبت، ومرّتين أُسبوعياً صباح الأربعاء والأحد من إذاعة "صوت لبنان"، وأُتابع صدورَ كتبه الشعرية والنثرية تباعاً، وفيها روحُه الطيّبة، وقلبه العاشق، واندفاعه في الحب الصادق كما قرأْتُهُ عاشقاً مُخْلِصاً مندفعاً لِحُبّه الكبير في كتابه الأخير "ربيع الصيف الهندي".

وحين قدّم لي كتابه الجديد "نقطة على الحرف"، لم يكن جديداً عليّ، لأنه كان يرسل إليّ نصوصه تباعاً حين يكتبُها، فأقرأُها على الشاشة، وأنا في لبنان، أو أيّ مكان فيه العالم أكون مسافراً إليه في مهمة جامعية، فأعجب له كيف لا يفتقر الى موضوع، ولا تنقصه معالجة، ولا تُعْوِزه فكرة، رغم غزارة مقالاته الإذاعية التي تبلغ اليوم نحو 900 حلقة.

ولفتَني في هذا الكتاب الصادر اليوم، أنه لم يضُمّ الحلقات المئة، كما صدرت كرونولوجياً في الإذاعة، بل مبوّبةً في عشرة فصول يوحّدها الموضوع أو المناخ أو الفكرة الواحدة.

ولفتني في أسلوب الصديق هنري أنه شاعرٌ في نثره كما هو شاعر في شعره. وشِعريّته المنحوتة في قصائده عَصَمَتْهُ في كتابه الجديد من الوقوع في السردية النثرية والإطالة التفصيلية، فجاءت نصوصه في "نقطة على الحرف" مقتضبة واضحة، موجزةً موحية، بليغةً على جمالية في الأُسلوب. فهو يصل مباشرةً الى الفكرة الرئيسية، يعالجها في اقتضاب، بكلمات سلسة تبلغ سمع المستمع وعقله وذوقه، حتى إذا قرأها اليوم مجموعةً في كتاب، تلقّاها بذهنه كما كان يتلقاها بسمْعه.

وهو هذا ما يلفت أيضاً لدى هنري زغيب، أنه يكتب للسماع كما يكتب للقراءة، بمعنى أنه يصقل أسلوبه ويتقن نصه، لا فرق لديه أكان يكتبه للإذاعة أو للجريدة أو للكتاب، وهذا ما جعل نصه صالحاً للتلقّي في أيّ شكل كان.

كما يلفت لدى هنري زغيب هذا التنوّعُ في الكتابة، من الوطنيات الى المرأة الى الثقافة الى السياحة الى العلوم الى السيكولوجيا الى الاجتماعيات الى المدنيات الى التراثيات، فلا يعود شاعراً وحسب، بل يكون كاتباً واسع مفتوح الأُفق، مشرق الثقافة، واسع الاطِّلاع، بارع الإطْلاع، يُغني متلقّيه سامعاً وقارئاً بمعلومات جديدة، فلا يخرج المتلقي من نص هنري زغيب إلاّ وهو يحمل جديداً يضيفه على ثقافته ومعلوماته، الى جانب ما يكون نص هنري زغيب أحياناً ناطقاً بما يتمنى المتلقي أن يكون قاله أو كتبه، لو كان له أن يقول أو يكتب، ويوصل فكرته الى الآخرين.

وهو لبناني قوي في كل ما يكتب. لبنان في قلبه وضميره. يغضب على المقصرين ويعلي صوته من أجل لبنان أفضل. ويباهي بلبنان الفكر والثقافة والإبداع. ويسرع الى إبراز فكرة قرأها عن لبنان، أو مقال في العالم صدر عن لبنان، فينقل ذلك الى قرائه وسامعيه كي يرسّخ فيهم عظمة لبنان وفرادته وتمايزه الفريد. فكأن لبنان يسكن في قلب هنري زغيب، لا أن هنري زغيب يسكن في قلب لبنان. وهذا ما ظهر ويظهر من سلسلة المحاضرات التي ينظّمها شهرياً ويدعو إليها في الجامعة، عن جبران وعن الريحاني وعن الأخطل الصغير وعن ميخائيل نعيمة وعن مصطفى فروخ وسواهم كثيرين، ويحرص فيها جميعها أن يُظهر وجه لبنان الثقافي والحضاري والتراثي، فكأنه رسول لوطنه لا مجرد مسؤول في الجامعة.

ولهذا نقول إن هذا الشاعر هو ضميرٌ يكتب من الناس والى الناس وعنهم، فهو بالتالي كاتبُهم بقدْرما هو شاعرُهم. وهذا ما يجعله مُميزاً في جيله من الشعراء والكتّاب ويجعله صوت جيله وكل جيل بعده حتى اليوم.

وختاماً، وهنري زغيب زميل في الجامعة، مؤسس ومدير مركز التراث اللبناني، يسعدني أن تكون لي اليوم كلمتي عنه، لأقول صداقتي له، ومحبتي لشخصه، وتحيتي إليه زميلاً في الجامعة، وشاعراً في لبنان، وصديقاً في القلب يرتاح له كل قلب مخلص وفِيّ، لأن هنري زغيب له اسم آخر هو: الإخلاص والوفاء.

وهنيئاً لنا بصداقته ووفائه".

***

 

مي منسى: "صوتٌ صارخٌ هذا الصوت"

 

 

وتحدثت الكاتبة مي منسى عن الكاتب والكتاب، بالكلمة التالية:

"تساءلتُ ملياً، قبل أن أصوغ هذه الكلمات، عن أيِّ هنري زغيب أتكّلم: أعن الشاعر؟ أم عن الصحافي؟ أعن عاشق المرأة؟ أم عن عاشق الوطن؟

إلى أن تراءَيَا لي في إنسان واحد قدّس أرض الوطن وأرزه، تقديسه المرأة بهذه اللغة التعظيمية التي باتت أسلوبه في التعبير، وفي تصوير مشاعره بألوانه الباهرة.

هنري زغيب لا يتطلّع إلى قشرة الوجود، ولا يتساهل مع المتساهلين.

يدين، بقساوةِ قلمِهِ، الخطايا المميتة في حقّ لبنان، هذه الأيقونة التي علّقها تميمة على صدره، منذوراً لكل ذرةٍ من ترابها.

صحافي؟ شاعر؟ هنري زغيب قلبٌ وضميرٌ، التقيا في رجلٍ توّاق إلى المطلق. ومن كان تائقاً إلى المطلق- يقول الشاعر لويس أراغون- لا بدّ أن يكفّ عن طلب السعادة. فهل السعادة في حياة الشاعر هدف؟ أم قطرة حبر تغدو على ورقته أنهاراً تجرف في سيلها مكاييل من العطاء، وحدها قادرة أن تؤمّن لكاتبها الرضى والارتياح؟

هكذا، مرات ومرات، لَمحتُ السعادة في ملامح صديقي الشاعر هنري زغيب إثر صدور ديوان جديدٍ له. فالشعر قدَرُهُ، كما التزامه الموزون الدقيق في تعليقه الإذاعي من "صوت لبنان"، ومن تلك النقطة الكتوم على الحرف، طال لبنان وعالم الاغتراب، وكما من زاويته الأسبوعية "أزرار" في جريدة "النهار"، بات ذاك المسافر إلى أقطار العالم يجني من روائع البشر، واختراعاتهم، وشغفهم في البناء، أمثلة يلقّن بها الأدمغة النائمة عندنا، أو يجول في أنحاء الوطن باحثاً عن الغيارى على جَماله، المترهّبين لديمومته، معتزاً بهم على قلّتهم.

هذا هو معنى المطلق، في مفهوم رجلٍ صان قلمه من فساد الدنيا ليترقّى، حاملاً بيدٍ مشعلَ الوطن الذي يقدّسه، وبالأُخرى إكليل ياسمين للمرأة التي يُجِلّها، أُمّاً، أم حبيبة، أم فاعلةً بمعولها لسعادة بلدها.

ولْنتذكّر صرخته الإذاعية، ذات صباح: "أين أنجيلا مِركِل لبنان"، المستشارة الجديرة بتولّيها أعلى المناصب وأدقّها مسؤولية. فأين هي؟

صوت صارخ هو صوتُهُ، سواءٌ أطلقه عبر الأثير، أم كتبه من مَحاصيل الدنيا ومفاجآتها.

متجذِّر في الأرض، مشرّش في كلّ حبة تراب من تراب الوطن.

هذا هو هنري زغيب الذي نذَرَ قلمه وقلبه للكلمة، الكلمة التي تغدو مشروع إصلاحٍ وبناء، مشرئبَّةً من صدرٍ محمومٍ، وفكرٍ مناضل، لا تترك هفوة في حقّ هذا البلد، إلاّ ووشَى عليها، وقارنها بما يقوم به العالَم من لهفة وغِيرة لبناء الأفضل في بلدانهم.

الكلمة هي الوزنة التي أعطيت له، فزرعها سهولاً من دروس إنسانية، تربوية، إصلاحية، توعّي الشعب اللبناني على مسؤولياته حيال الثقافة والفنّ والطبيعة، وتذكّره بأن لبنان خُلِق جميلاً ليبقى في غاية الجمال.

الشاعر والْمُصلح شاءهما القدر في إنسان واحد: الشاعر المتأمل بالحبيبة، العاشق حتّى بلوغ مشاعره الحدّ الأقصى من الشفافية، وشاعر الوطن الثائر على التقاعس والكسل والإهمال.

الشّعر، كيفما كانت شمسه، هو الخميرة في العجين، يرفخ فيعلو من قلب الإنسان عشقاً يغيّر مصير بلد.

هنري زغيب ليس صانع أحلام ولا بائع أوهام.

كتب الشّعر للحبيبة، كما رودان نحت المرأة من صلب الصخر.

وحين يطوي صفحة الشّعر، فَلِكَي يقول مآسي بلدٍ وإنسان".

 

***

 

جوزف أبي ضاهر: "تولد نقطته على الحرف كما تولد الشمس"

 

 

 

وهنا كلمة الشاعر جوزف أبي ضاهر في صديق عمره هنري زغيب:

"كما تصل الشمس، وصلَت. بدأ فجر جديد، يوم جديد، عمر جديد تكلّل بالعشق.

وصلت «نقطة على الحرف»، سُمع كلام في القلب، في العينين، قبل بدء مشوار على الورق الأبيض، ليصير زهر الصحو... وانبته الشاعر إلى ولادة، في داخله، ترسم اللهفة مثل وشم.

الشمس في منتصف النهار، في منتصف العمر.

وأكمل، لكن، كرمى للزّمن الجديد، كتب، وألغى، وسجّل، وسبق صوته إلى رغبة تنتظر كل ما قال... إلى وقت يتكرّس لعينين تقرآن كل شيء.

وصل الوقت. دخل النّص إلى الكتاب، إلى صباحات وذكريات، وكلام، وتعليقات.

النص؟ بقي ذاته، مكتملاً بذاته، لأن الأسلوب آتٍ من خصوصيّة تميّز الشاعر، عن كل مّن كتب، عن مواضيع ظنّ من سمعها أنها بسيطة... وهي؟ تحمل خلف هذه البساطة ونبرة الصوت رأيًا، والرأي هو مفتاح المدى حيث تتكدّس ثقافات وفنون، وقضايا سياسيّة وروحيّة، وتواصل مدنيّات وذكريات... وكلها، واحدة، من وجوه الحياة.

***

صحيح أن الهمّ اليومي هو «النقطة» التي تُكمل الحرف، تحدّد شخصيته، حضوره، قدرته على التعبير الصوتي، قبل أن يأخذه القلم إلى فرح المعرفة بكلمة، إذا وقعت في مكانها، كتبت لها الديمومة، وإذا لم تأتِ في المكان الصح... تمرّ الريح، والريح امرأة مجنونة تحمل مكنسة، ومسكونة بهاجس النظافة، فتكنسها. وأما المطرح الذي تتجمّع فيه مثيلات لها، فأوسع بكثير من المطرح المكتوب على اسم الحياة.

***

سَمِعت غير مرّة، أن النّص الإذاعي محكوم بالعمر القصير، ولو كانت طلّته حلوة، وتدهش. هو ليس بأكثر من حلم، ما أن تفتح عينيك حتى تنسى التفاصيل، والتفاصيل أبجدية جمال ومضمون.

غير صحيح.

النّص منذ البدء يولد لتكتب الحياة له، وإن ولد مشوهًا، لا تليق به، وإذا غاب فلا يؤسف عليه.

ولا مرّة، منذ 47 سنة، اشتغلتُ فيها كاتبًا ومذيعًا وصحافيًا، أحسست بفارق بين نصّ لإذاعة، أو نصّ لجريدة.

النّص جزء من تكوين معرفي وثقافي، تُضاف إليه: التجارب، الأسلوب، الصياغة، ليشكّل الجسم اللافت لمضمون يتآخى مع الشكل.

قد يكون لون الحبر، ونبرة الصوت، وعطر المعنى، إضافات، لكنها ليست أكثر من شال حرير، يزيد الجمال جمالاً... على قامة حلوة... ويخسر قيمته إذا استخدم غطاء لبشاعة.

***

النقطة التي اختارها الشاعر هنري زغيب، ولدَت كما تولد الشمس. توّج بها كل كتاباته، قبل أن تصير في صوته رفيقة الصباح، وقبل شمس الصباح التي أطلّت، وصارت في الكلمة، في القلب، وربما في العمر.

***

نصّ هذا الشاعر، ولا مرّة أطل ليتباهى بشكله. أطلّ حاملاً همومًا، والشعراء يعرفون بأكثر من هموم الجمال، وبأبعد من هموم الجمال، وأعمق. يشغلهم الإنسان، الحرية، والحق، ويشكّلون وطنًا، إذا سقط أقنوم واحده من هذه الأقانيم، سقط الوطن. وسقط من نلمحهم ونسمعهم، كل يوم.

يسقطون لأنهم أرادوا الوطن مجموعة مصالح، أبخس من التراب.

***

من شباك المساء، ألمح صوته، مرافقًا أصابعه فوق الورق، يعدّ ليوم جديد، لنصّ جديد. قد يكون قصيدة، زهرة بنفسج، تكمل «ايقاعات القلب»، ولا تلغي أي ايقاع آخر.

ما كُتب بزوغة «اللحظة المباركة»، يبقى علامة، ليس مهمًا كيف، ولماذا؟

العلامات في حياتنا هي نقاط على الحروف، تولد من قصائدنا.

***

ويا شمس، يا الشعلة المقدّسة، غلّفي حروف قصائدنا وكتاباتنا، وحياتنا، بالوهج، بالدفء، زيدينا... صرنا، بعدما انتصف النهار، نخاف من لفح البرد".

***

 

إدمون رزق: "هنري زغيب متجذّرٌ في التراث، مُتمكّنٌ من الأُصول"

 

 

 

وكان الختام مع النائب والوزير السابق الأديب المحامي إدمون رزق الذي ألقى الكلمة التالية:

"ظاهرةٌ هو: متعددُ الموهبة، متنوّعُ الإبداع، خليّةُ في مَلِكة، مجمعُ ملكات، وقّادُ الشاعرية، ثقيفٌ، مُتولّهٌ، شَغوفٌ، مُتيّم، وفي الرأي شفيف.

له صفات الحبيب، وخصال النحل، تَرَوُّحاً، تشهياً، وامتصاصَ رحيق. حسْبه أن يسكبه قوالبَ شهد ويعتصرَه وجدانياتٍ وتفعيلات.

المحكية لديه تُباري الفُصحى تألُّقاً، فإذا أنتَ بين المُغنّاة والأغنية، بين النشيد والإنشاد، إلى الدراسة والمقال، تستلقي وتتوسَّد، مأخوذاً بعبَق العشق يفوح من أردانه، وبوابل الغيث يهطل من ميزابه!

مذ عرفتُهُ، توسّمتُه مُميَّزاً. لفتَني لديه نشاطٌ هتّان، وارتفاقٌ على غير جبهة. كثيفُ الحضور، دؤوبٌ فعول. حرَكة وبرَكة. ذوّاقٌ نقاد. خبيرُ تواصل. يواكب الحدثَ ويقوّم الأداء، في السياسة كما في الأدب، وآفاق الجمالية.

أنّى التمَسْتَه فلأنتَ واجِدُه: على المنابر والمسارح، في الندوات والمجالس، المجامع والجامعات، الكتب والصحائف، بنكهة المعتّق، ولمسة الفنان الرهيف.

مقدامٌ لا يَني. كأنه يُشفق من إهدارِ هنيهةٍ في انتظار. سخيٌّ لا يكلّ من سَعْيٍ، وجليسٌ متْرَف، لا "يُملّ منه الثواء". مُمتلئٌ بذاته. متأهّبٌ أبداً لِمبادرةٍ حتّى لقد يَعْتَبُ لتردُّد في تكليف، ولا يتعَب من تلبية!

وَدودٌ، وفِيٌّ، مؤتَمَنٌ، صريحٌ لا يُرائي، واضحٌ لا يُداور، منفتحٌ فيستمع، يتداولُ المعرفة، يقيناً أنّ الآخر هو المكمّل. التواضعُ لا ينتقصُ عنفواناً، وبالخدمة تكْبُر.

هنري زغيب لبنانِيٌّ سعيد بِهُويته. قرويّ، مَدينيّ، فلذةُ جبلٍ، عاشقُ بحر، مُلهَمٌ، أضافَ الحِرفة إلى السجيّة، وإلى النعمة المولودة إتقاناً. متجذّرٌ في التراث، مُتمكّنٌ من الأُصول، مُحدّثُ صَوغٍ، مُفرِطٌ في طِلابِ المعاصرة حتى الاستباق.

ولكم هو طريفٌ، ظريفٌ ومذهل، أن يغوصَ في الحداثة، حتى صميم "الإلكترون"!

***

الآن، وأنا أحكي هذا الكلام، أسأل نفسي: هل هي لحظةُ تَجَلٍّ، أو وَصْلَة زَهْوٍ لا تبرحُ تراودنا؟

أم انه واقعُ هذه التربة، المسوّرةِ بالصخور، المُحلاّة بالجذوع والفروع، المطيّبة بالبخور؟

في مرامي الثلج، ومشالح السنديان والشربين، تحت ظلّ الأرزِ والصنوبر، ومطارح الأريج عندنا، نشأ الشعر كما ولا في أيّ مكانٍ من الدنيا. هنا تبرّجَت الضادُ، وما زلنا بها نَحتاً لتبقى، حتى أبَدِ اللغات، طوعَ أقلامنا، مدينةً لمناسكنا، متلألئةً بين أناملنا، نحنُ الكاشفين جمالاتٍ لها كانت في المحال، ولم تخطُر، قبلنا، في بال!

العزيز هنري: أيّها المتألّقُ في منابت الوحي، المرصِّعُ المكتبةَ العربية بزمرّد كسروان، الناشطُ في مملكة البهاء، المعتلي صهوات الأثير... هنيئاً لِحروفٍ توَّجْتَها بالنقاط. ولْيَسلمْ يراعٌ لكَ منذورٌ لأميرات الكلام، ولْيَخفُقْ إلى جيلٍ وجيلٍ قلبٌ لكَ وقفٌ على الحبّ، ما افترَّ ثغرُ من تَهوى، وهبّت أنسامُ ربيعٍ لا ينقضي!"

***

 

هنري زغيب: الشكر من القلب

 

 

 

وفي الختام شكَر الشاعر هنري زغيب الخطباء والمركز الثقافي البلدي ورئيس البلدية المحامي نهاد نوفل والجمهور، ثمّ وقَّع على نسخ كتابه "نقطة على الحرف" وقدّمها هدية الى الحضور.

 

هنري زغيب موقِّعاً على نسخ كتابه الجديد "نقطة على الحرف"

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.