3

:: القيم الإنسانية في مسرح الأخوين رحباني ::

   
 

التاريخ : 18/04/2010

الكاتب : د. مفيد مسّوح   عدد القراءات : 7460

 


  

 

تلبية لطلب بعض الصديقات والأصدقاء من قرّاء الموقع ومن محبّي عالم الإبداع الرحباني، خاصة ممن فاتهم حضور محاضرة الدكتور مفيد مسُّوح في الجامعة اللبنانية الأمريكية بتاريخ 1 آذار 2010 أو قراءتها في الموقع قبل أن تبعدها العناوين الجديدة، تلبية لطلبهم وتقديراً نعيد عرض المحاضرة بكامل نصّها متمنين للقراء الأعزاء المتعة والفائدة.

 

أهلاً وسهلاً بكم في "جماليا"

 

الجمال.. لحظة الحياة تكشف عن نفسها

 

هيئة التحرير

 

 

* * * * *

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

القيم الإنسانية في مسرح الأخوين رحباني

د. مفيد مسّوح

 

 

في مُحادثةٍ مكتوبة، قبل فترة، سألتُ صديقاً لي عرفْتُهُ عبر الإنترنِت على موقع "جماليا" الثقافي (أطلقتُه في حزيران 2006 تزامناً مع ذكرى عاصي الرحباني في عشرينية غيابه) سألتُه: "أشاهدتَ مسرحية الأخوين رحباني "جبال الصوّان"؟ فأجابني: "بل سمعْتُها". وتباسطْنا في تلك الدردشة، عبر الفضاء الافتراضي، حول الفرق بين المشاهدة والسّماع، والعلاقة بين هذا ونوعية المادة المشاهَدة أو المسموعة، وعند تحديد الفرق بين السّماع والاستماع، خلصتُ إلى أن إحدى خصائص الفرادة في المسرح الرحباني: جدوى الاستماع لدى من فاته حضور بعض عروضه أو جميعها.

حين صدر كتابي "جماليات الإبداع الرحباني"، أطلق عليه منصور الرحباني وهنري زغيب صفةَ "السِّفْرِ الموسوعيّ" ووصفاني مع آخرين بـ"جامع الشذا" و"صائد الدُّرر". والحقّ أنني مدين للأخوين رحباني والسيدة فيروز وأسرة هذا المسرح العريق، لأنهم منحوني فرصة "جمع الشذا" والتحلّي بصفة "الباحث الرحباني"، التي أكبر بها وكانت من أجمل أحلامي وأنا في مقتبل العمر أيام المهرجانات الفنية في معرض دمشق الدولي.

أستهلّ بشكر الجامعة اللبنانية الأميركية و"مركز التراث اللبناني" فيها، مُحيِّياً برنامجه السنوي الذي يحضّر له ويديره الشاعر هنري زغيب الذي أهنّئه على ما يفعله للثقافة اللبنانية في جانبَيها الوطني والإنساني وعلى ما يبذله من جهود لإحياءِ تراثِ لبنان بآدابِه وفنونِه وكبار أعلامِه.

وأمهّد لكلامي بلحظة خشوعٍ إكراماً لروح الخالد منصور الرحباني الذي فاتني، بسبب ظروفي، أن أسير في جنازته قبل سنة وبضعة أسابيع.

مُداخلتي جولةٌ سريعة على عالم مسرحيات الأخوين رحباني، آملاً أن تكون لنا حافزاً على الاستمرار في حمل إبداعاتهما ونقلها إلى الأجيال بعدنا، لأن الفكر الرحباني لبنانيٌّ وإنسانيٌّ خلاّقٌ ومتجدّدُ النظرة ومستدام الفاعلية في الجوانب الروحية لحياتنا وفي مكوّنات وعينا الاجتماعي والأخلاقي، وهو يشكّل فكراً متميّزاً في بيئةٍ أدبيةٍ متميّزةٍ لشعبٍ هويّته مميَّزة.

معاصرو المسرح الرحباني يعرفون ما فيه من قيمٍ إنسانية منذ مطالعه، ومَن أتى بعدَهم حفّزته أقلامُ المخلصين الأمينة على العودة إليه فتحقّق بالعودة الخلودُ لصانعَيه.

وهنا انطباعاتي عن مسرحيات الأخوين رحباني بِحبٍّ كبير "مقشّراً" إياها، كما قال هنري زغيب عن كتابي.

 

 

·       الإنسانية صفة ابن البشر الطبيعية:

كنتُ طفلاً عندما سمعتُ لأول مرّة عبارة "في البدء كان الكلمة". وخلت المقصود منها أن حياة الأنواع بدأت بـ"الكلمة". وتناقضت التفسيرات حتى جاءني من يشرحها لي: "الكلمة" هو الله، والله هو الإنسان في جوهره، والإنسان هو ابن النوع البشري الذي أصبح إنساناً عندما أضاف إلى بشريّته الكلمة، فامتلك بها صفةً ملّكتْه الطبيعةَ فغدا بإنسانيته سيدَّها وراعيَها. ولك أن ترى الإنسان في صورة المسيح".

وبعدما قرأتُ عبارة القاصّ السوريّ سعيد حورانيّة عن حنا مينه بأنّه "خيرُ مَن عرف ماهيّة الضعف البشري والقوة الإنسانية"، صرت أقرأ شخصيات حنا مينه بهذه الرؤية، وكذا بالضبط فعلت في قراءتي مسرحيات الأخوين رحباني، فصرتُ أرى الإنسان في تراثهما وأرى الإنسانيةَ بوجهيها: القوة والضعف، صفةَ بني البشر الطبيعية.

يُلصِق البعض بنزعاتِ الشرّ لدى أفرادٍ أو جماعات تهمة المسلكية غير الآدمية وبأنها غريزة السيطرة والتملّك والعدوانية، كأنهم يشيرون إلى طبيعية هذه الصفات. وفي هذا تَجَنٍّ على الطبيعة وعلى الإنسان. الطبيعة في مفهومها الرحباني نقيةٌ صادقةٌ عادلةٌ إيجابيةٌ في تفاعلها مع مكوّناتها. والبشر، في تربّعهم على عرشها، يثقّفون أنفسَهم إيجاباً لإبراز نقائها وصدقها وعدالتها. والإنسان الأكثر إيجابيّة في التصاقه بالطبيعة هو من يتجاوز ضعفه البشري حيال حالات قد تبعده عن النقاء، إن هو أساء التقدير أو التصرُّف، أو تضعه في خانات التعامل السلبي مع الطبيعة ومع الآخرين. وبتجاوزه يتحلّى بالقوة الإنسانية، وهي ميزةٌ مطلوبة وشرطٌ ضروريٌّ.

قد تحرّض عناصرُ مُحَدَّدة، في ظروفٍ معينة، نزعاتٍ عدوانيةً أو أنانية أو شريرة في بعض الناس، وقد يصل بهم الأمر إلى الابتعاد عن الصفات الإنسانية فتحدُثُ فجوةٌ بينهم وبين الآخرين حولهم تتحوّل إلى حالة تحتاج تدخُّلَ من له من الحكمة والتأثير ما يعينه في عزل اللاإنسانيين المتمسّكين بمسلكيتهم. وقد يفلحون ببلوغ الصواب مستندين إلى الطبيعة وخصائصها في العدل والسلام والمساواة والمحبة.

الأخوان رحباني أضاءا في مسرحهما على النقاء في خصائص الطبيعة وفي علاقة الناس بها.

في مسرحية "جسر القمر" تحتجّ الطبيعة، بلسان الصبية المسحورة، على أنانية المتنازعين على الأرض والماء والجاه والسيطرة:

القمر بيضوّي عَ الناس            والناس بيتقاتلو؟

ع مزارع الأرض الناس!!

ع حجار بيتقاتلو؟

       .....

قالولي البلابل صبحيِّه       هَالحقول وْساع

والدّني بتساع

نيّال اللي بيرجع عشيِّه

 

وتُخاطب الصبيّة الشابَّين صالح وشبلي المتصارعَين على الملكية ومعهما أهاليهما الواقعين تحت تأثير حالة الصراع غير الطبيعية. تقنعهم الصبيّة المسحورة بأن الكنز الأكبر يكمن في السلام والمحبة "السلام كنز الكنوز" وتشير إليهم بأن يتناولوا المعاول التي منعتهم من رؤيتها تلويحاتُهم بالسيوف وبالعصي والفراريع.

وما إن يَحلّ السلام ويعود الأهالي إلى هدوئهم حتى تبرز الصفات الإنسانية:

ديرو الميّه... ديرو الميّ          خلّيه يشرب    كل الحـيّ

خـلاّ تشرب  كل الدنيِه           ويعلا الزرع   ويحلا الفيّ

ومع حلول الفرح الإنساني تنطلق من حناجر الناس أغانٍ تمتلئ تعابيرُها بمفردات الطبيعة:

بَيْتَكْ حَدّ الْعَين سْيـاجُـو          والزَّنْبَق عَ غْصُونُو

عَ الغيم اللي فوْق دراجو           غاططْ  رفّ سنونو

قدَّامو قنايِه

بالشمْس مْضوَّايِه

حكينا حدَّا حْكايِه     وْتِشربْ.. قلَّكْ خَيّ

في "الليل والقنديل" قارن الرحبانيان بين الأهالي والخارجين عنهم عبر متناقِضَة النور/الظلمة ووصلا بنا إلى عقدة تمكّنا من درء عواقبها بالتأثير على هولو عن طريق الحب فأعاداه إلى طبيعيته التي تقدّر النورَ وحاجةَ الناس له، فانهدم "حيط الدّمع والليل" الفاصل بين الإنسان والطبيعة من جهة، والخارجين عن الإنسانية والطبيعة من جهة أخرى، وانتصر النور:

ضَوِّي يا هالقنديل    عَ بْيوت كلّ الناس

عَ ليل كلّ الناس

عَ سْطوحْ حليـانِه دواليـها

عَ ضياعْ  ما بعرفْ أساميها

وقبل الحلو ما يضيع

وْتتجَـرَّحْ مــواويـــلْ

                     ضَـوِّي يا هالقنديـل

 

وجاء صادقاً ربطُ المواقف الإنسانية بالطبيعة الصادقة، عبر موقف شخصية مستبعدة ظلماً عن مجتمع الضيعة لسبب أو آخر. خاطبته صبيّة:

لافي عَ هالضيعَه مدري منين!

مربى الحراش السّود

في مسرحية "موسم العز"، شكّل "مرهج القلاعي" مركز حلّ عقدة التناقض بين الحب والتقاليد، منتصراً للحب على حساب مشاعره، وهو عاشق نجلا التي لم تبادله مشاعر الحبّ بمثلها لأنه: "مربى الحرشايات ومعاشر الدغلات"، مستغربة أن يكون مثل غيره من شباب الضيعة: "تاريك كنت تشوف البنيّات!!"، بينما أثبت في إعرابه عما يجول في نفسه شاعريّة سامية وهو يحلم بـ"بيت وجْنينِة وبُوّابِه"، مع من كان يحلم بها وهي تكبر أمام عينيه هائماً في الطبيعة بعيداً عن الناس:

كنت شوفِك   تكبري وتحلي      

تْهلِّي عَ الحْفافي

وْزِنارِك الدَّافي       يرْقص يْلوّحلي

وْ...هِجّْ فوْق صْخور

وخلف النّسُـورَه دُور

وِحشتي.. لا وِحشِة الغابات متلا...

وَلا الغروب عَ الحَورات

أما موقُفه الغيريُّ الإنسانيُّ فتمثّل في قدومه إلى عرس نجلا متستّراً خلف الأشجار متحسّراً على نفسه، فما إن رأى فشل العريس المنتَظَر منه أن يرفع "القَيْمة": "ما في معكن مين يقيما؟"، كي تخرج نجلا من دار أهلها بفرح وعرس احتفاليّ، وكان الفشل قد تكرّر أمام عيني مرهج والموقف الآن أكثر حرجاً:

هيدي آخر فرصَه   

بتقيموها منعمل عرس

ما بتقيموها

بتـروح

نجلا وبقلبا غصّه

قال المختار:

نجلا.. نحنا بدنا نبقى هون روحي وحدِك

ما إن رأى ذلك حتى انبرى منطلقاً من حبّه في موقف إنسانيٍّ رائع:

يا شباب.. وْقفو شوَي..

أنا بدِّي شيلْ مع أهل العريس..

...

ليش خلّي العرْس مَنُّو عرْس

تروحْ نجلا حِلوِة الحِلوات          بلا رقصْ.. بلا زِينات

ولا نْجبلها تشاكيل قطف الشمس!!

وْشو نـاطرَة إيـامنا كلاَّ؟؟        شو ناطرَة قناطِر الـ عمْـتعلا؟

وِدْراجنا وِكروم عَمـتحلا..        شو ناطرَة؟  مشْ عرْسها لنجلا؟

لا تدَّمعي نجلا       ما بتطلعي من هون

إلا وْعمْـيعلى              عِرسك عَ هالكون!!

 

وعرض طبيعية الصفة الإنسانية لا يقتصر على موقف الإنسان من الإنسان أو المجتمع، بل يتعداه إلى علاقته بمكونات الطبيعة الأخرى كالأشجار والزهور والقصب والكرم فنشاهد التأرجح بين حبِّ الناسِ الطيورَ من ناحية، وحبّهم الصيدَ رياضةً وتسليةً من ناحية أخرى. الصياد في الحكاية الرحبانية رياضيٌّ يعشق الطبيعة وعصافيرَ يتبادل معها الكرّ والفرّ والملاحقة والمناورة، وفي نهاية المطاف يُطمئِنُ الصيادُ العصفورةَ التي جرّحه الشوك وهو يركض خلفها من وادٍ إلى واد (كما في "بياع الخواتم"):

خليكي بِراحِة بالِك   ألله يخليـكـي

لو فيّي طالِك

ما بْطالِك..   ما بِسْخَى فيكي

 

وفي مسرحية "يعيش يعيش" تتحاور هيفا مع جدِّها الذي كان يستمتع بالمبالغة في تصوير مغامراته خلال الصيد بينما يعود من رحلته بدون عصفور واحد. الصيد في المفهوم الرحباني رياضة تسلية. وبواريد الصيد، التي اقتناها عاصي ومنصور وستضمّها متحف الأخوين رحباني في يومٍ قادم، لم تقتل طيور البريّة لأن الإنسان الرحباني صديق الطبيعة ومكوناتها الجميلة.

مواقف مشابهة في مسرحيات أخرى تشير إلى هذا الإنسان الذي ما إن يظهر من خلال التصاقه بالطبيعة حتى تبرز صفاته الإنسانية.

فهذه حلا في "دواليب الهوا"، إزاء موقفها من الإقطاعي فهد العابور الذي فعل المستحيل كي يحظى بودّ قلبها، ضحّت بمصلحتها الشخصية أمام مصلحة أهل الضيعة وقاومت فهد وتحايلت على وسائله وخططه انتصاراً للبسطاء في موقف إنسانيّ رائع انتهى الى مصلحة العدالة وتطويع فهد الذي عاد في إطار الإقناع بطبيعية السلوك الإنساني مقارنة من الجشع والأنانية والتسلط. وانتصرت القوة الإنسانية على الضعف البشري.

في "هالة والملك" يدرك الملك الحقيقة عندما يتنكّر بزيّ الشحاد، أي عندما يعود طبيعياً، كاشفاً الفرق بين ما رآه وما كانت حاشية قصره تنقله إليه من معلومات مزيّفة وحكايات كاذبة.

 

 

·       الإنسان والأرض والوطن

هذه المفردات تشكل وحدة البيئة الفكرية الرحبانية. الوطن بمفهومه الرحباني ليس أرضاً تحددها خطوط وفوقها سماءٌ وعلى سطحها مياه، بل أرض يسكنها الإنسان ويعيش عليها سعيداً مطمئناً منتجاً مبدعاً مساهماً في تطوير حياته وحياة الآخرين مبادلاً إياهم السلم والمحبة والعطاء ومشاركاً في المسؤولية عن تنقيتها من الشوائب وحمايتها وتجميلها وتلميع صورها، وهو أرض حرّة لا يحتلُّها غرباء، يعيش عليها أبناؤها سعداء فاعلين متحابّين متفاهمين. والأرض ليست تراباً وصخوراً وماءً يروي الزرع، بل كل هذا في علاقته بحياتنا فوقها عملاً وأملاً وتجميلاً واحتفالاً وفي حريتها وحريتنا.

في "ناطورة المفاتيح" فقدت مملكة "سيرا" خاصية الوطن وتحولت إلى دروب ملأها الشوك والأعشاب البرّية وجدران عشعشت خلفها الوحشة وسكن فراغاتها الصمت وحلّ بالملك في قصره الشعورُ بالوحدة والملل وبفقد الأمل عندما ترك المملكة أهلُها مغادرين متأسّفين ناشدين في الغربة الحريةَ والطمأنينة اللتين سلبهم إياها الملك المستبد الجشع والأناني. ولم تعد الحياة إلى الوطن إلا بعودة أهلها إليها بعد أن أقنعت "زادُ الخير" الملكَ "غيبون" بالنزول من علياء قصره وتغيير سياسته مع الشعب والتوقف عن القمع والظلم والإذلال إن هو أراد أن يكون حاكم الشعب لا "ملك البيوت الفاضْيِه والسّاحات المهجورَه". هي صرخةٌ رحبانية الى الحكّام والرؤساء والملوك أن: انتبهوا إلى مصيركم إن أنتم تخليتم عن سيادة الوطن متمثلة بسيادة الشعب وحرّيته وسعادته، والوطن الذي شعبه مذَلٌّ وطنٌ ذليل.

وفي مسرحيات أخرى يكرر الرحبانيان صرختهما في وجوه من استهتر في اكتمال الوطن بسعادة شعبه. في "جبال الصوان" ظنّ المحتل المستبد "فاتك المتسلّط" أنه يستطيع العيش في الجبال التي زحف عليها بقواته، ويطمئنّ ولو هجر الأهالي وطنهم. لكنه لم ينعم بحياته في الجبال التي حلّ فيها السأم والحزن والخوف محلّ بيئة الفرح والسلام التي كانت سائدة قبل غزوه، ووقع فريسة الخوف من عودة الأهالي إلى وطنهم ومقاومتهم المحتلين لأن قمعه إياهم لم يفده. ولم تعد الجبال وطناًَ إلا بدحر الغزاة المحتلين والعودة بالناس في حياتهم إلى ثقافة الفرح والعمل والانفتاح.

في مسرحية "أيام فخرالدين" استنهض بطل لبنان الأهالي لحماية وطنهم وتطوير اقتصادها وتلوين مجتمعها بالفرح والمحبة والحفاظ على كرامتهم فاعلين إيجابيين في الحضارة. فمنذ خطابه الأول بعد عودته من النفي أعلن: "بدنا نعمّر سوا لبنان" ولاقى على الفور تجاوباً من أهالي المناطق الذين التفوا حوله مقتنعين داعمين معاهدين تحت شعار:

نحنا وَطن عمـيتلاقى            

بيْعلّي قـلاعُو وِبْراجو      مادِدْ إيدُو للصـداقَه       

لا رَحْ نتعدَّى عَ حدا        وْلا حَدا عْليْنا يتعَدَّى

وتقاطرت على لبنان جحافل قواتِ مَن ضاق في عيونهم أن يروا لبنان وطناً للقوة والرفاهية والإبداع وسعادة الناس، فهَبّ الأهالي للدفاع عن وطنهم وقادوا حملات المقاومة خلف فخرالدين الذي تحالفت ضدّه وضدّ وطنه قوى الشرّ والتخلّف، وكانت أكثرَ عدداً وعدّةً لكونها مجمّعة من أكثر من ولاية، ولكون سياسة حكّام تلك الولايات اقتصرت على العسكرة دون الاقتصاد وبناء المجتمع، ما وصل بالوطن اللبناني إلى حالة المساومة مع سلطة الباب العالي العثمانية في اختيار الاستسلام، أو تهديم ما بناه الناس من مرافق اقتصادية وعمرانية. وبرحيل فخرالدين وحلول سلطة الباب العالي لم يعد لبنان وطناً بل أضحى أرضاً محتلّة وفقَد الناس أهم عناصر الحياة السليمة: الأمن والاستقرار والسعادة.

غير أن الوطن المنكوب في المفهوم الرحباني ليس حالة يأس وقنوط بل وضعٌ مؤقت له متطلباته، من أجله يسعى الوطنيون المخلصون الى تأمين ما يمنحهم القوة لاستعادة أرضهم المحتلّة وحرية شعبها المسلوبة مهما غلا الثمن:

كلّ شِبْر وْحَقُّو قبْر.. ويا وَيلهُن منَّا.. بدْنا نْضلّ نْحارب

 

ومهما كانت التضحيات:

بيخلصـوا  الأبطـال       وْقصصهُن ما بتخلص

بتضـلّ القنديـــل

اللي مضـوِّي بالبـال

 

وفي "جبال الصوّان" نرى أن "الشّماتة أصعب من الموت"، فالوطن هنا جذور في ترابه وأغصان باسقة في سمائه وثمار لا يطيب قطافها إلا بأيادي أبنائه، بينما هناك، في المأوى، حيث اعتقد اللاجئون أنهم "ضيوف" وصفتهم الرؤيا الرحبانية بعكس ذلك: "اللي مطرود مَنُّو ضَيف، حامل حزْنو معو، وْحامِل الحزِن بيهِرْبو منّو الناس، بيخافو يعديهن".

وعن موقف الرضوخ "الإنسان بيعيش وين ما كان"، تجيب غربة بتفنيد هذا العيش:

بيعيش.. لكنْ كيف؟؟

بيضلو يسألوك: إنتَ شو إسمَك؟

بتقلُّن إسمي فلان

ما فيك تكون بلا إسم.

بيضلو يسألوك: إنتَ مِنْ وَين؟

بدَّك تقول منَين

ما فيك تكون مش من مطرَح

إذا فيك تعيش بلا إسم فيك تعيش بلا وَطن.

 

الأمر واضحٌ إذن: يكون الإنسان في أرضه وبين أهله فيكون مطرحُه وطناً بالنسبة إليه، أو يكون مطروداً حاملاً حزنه معه ويعيش بين آخرين، بدون وطن، أو فلنقل بأن الوطن عنده سليب، وهو ما عاد فذكره أمين معلوف في رواية "أصول": "أنت مُلاحَقٌ على مكان ولادَتِكَ من المهد إلى اللحد".

والفكرة الرحبانية لا تقف عند هذا الواقع عاجزة أو متشائمة بل تَعِدُ المطرودين بعودة الوطن مع عودتهم في سياق السعي لاستعادة حريته وكرامته. والأمر يحتاج في بدايته إلى استعادة الثقة بالنفس والإيمان بقدرة الشعب على هذا، شرط أن يمزِّقَ ثوبَ الخوف: "لَمّا بيوقع القتال بين اتنين، واحد بَدُّو يخاف، واللي بيخاف بينغلِب. لو ما خفْتُو كان فاتِك خاف".

في كل مسرحية تتكرر هذه المواقف وصوَر الوطنية الإنسانية، عرضاً أو تلميحاً. وفي خاتمة تلك المسرحيات ("بترا" 1977)، زخمُ مواقف عبّرت عنها كلماتٌ وألحانٌ رحبانية تملأ الفضاء جمالاً وفرحاً، في كليهما بيئة الهناء تحت خيمة الاستقرار وبيئة الشدائد في مواجهة المعتدين الطامعين، تكريساً لاشتراط توفُّرِ "الخصائص الإنسانية" في حياة الناس على الأرض كي يتحققَ "الوطن".

 

·       الأسرة هي الخلية الأساس للمجتمع

أُسرَوِيٌّ بطبيعته الإنسانُ الإنسان الواعي، إنسانُ العمل المنظّم والعلاقة الذكية مع البيئة والمحيط والإبداع فيها، إنسانُ التعبير عن الحالة ومقتضياتها وعن الآمال وأحلامها والإبداع في هذا التعبير. أول ما أبدعه الإنسان في انتقاله إلى مرحلة الوعي الكامل: تنظيمُ الأسرة خليةً لِما غدا يشكّل شعبَ الأرض التي يعيش عليها ويعمل ويبدع ويعبّر بفنون متنوعة، وللمجتمع الذي أصبح بوتقة تتجمع فيها حصيلة انصهار الأفراد وتلاقيهم أجساداً وأرواحاً. وكانت الأسرة في كل مكوناتها ومراحلها مادة تدور بها وحولها الحياة، وكان الفن (كضرورة مكمِّلة) يسير توازياً والأسرة والمجتمع في إيقاعيةٍ طوّرته وكرّست دوره لا في إضفاء صورِ الجمال على الحياة فحسب بل في التأثير على علاقة الفرد بالحياة والأسرة بالمجتمع وعلى علاقتهم بالوطن وبالطبيعة وبالحكومات وبالآخرين.

رأى الأَخَوان رحباني، منذ انطلاقتهما في الخمسينات، أن الأسرةَ خليةُ جسد الوطن الرئيسة وعمادُه، فصَوَّرا البيئة الأسروية عبر علاقات الأبناء بالبنين والأسر ببعضها البعض ومجتمعات الضيع المتجاورة وما يملأ حياة الناس خلال عملهم أو بعده، في الأيام العادية أو في الأعراس والأعياد وطقوسها الاحتفالية ووسائل الناس التعبيرية في أيام الفرح والهناء كما في أيام الشدائد.

فصور العرس تظهر قدسية الزواج المبني على الحبّ وتمسّكِ الناسِ به شرطاً للزواج المتكافئ الصالح المثمر تبنى به الأسرة وتتتالى الأجيال في نموٍّ بشريٍّ يتحقق معه المجتمع والوطن. فها هي ذي "موسم العز" ملحمةٌ للحبّ محورُها عرس "نجلا" في بيئة عمل جماعي يمارسه الأهالي في بيوتهم أو قربها بروحٍ من المحبة المتبادلة وما يبرز من تناقضات بسيطة لا يتعدى التلوينَ الناجمَ في معظمه عن التباري في إظهار مشاعر الحب. في صورها الجميلة تأخذنا هذه المسرحية إلى ضيعتَين متجاورتَين تضيء منازلها عناصر العمل والفرح والمحبة وتتلألأ المواسم خيراً في فضاءات أُسَرِها المتعاونةِ تتشارك في مواجهة متاعب العمل لتسهيلها وتحويلها طقساً، وتتقاسم الغلال وتتفاهم حول التصرّف بها وتحيي أعياد القطاف لجعل موسم القزِّ موسمَ عزٍّ ولإقامة عرسِ من اتفقوا على زفّه في هذا الموسم. هكذا احتفلت ضيعتا العروس نجلا والعريس عبدو بالعرس الذي أحيا الأسر وبيوتها وهو ينشئ أسرة جديدة على ثقافة نبيلة:

آخر وصيِّه قبلْما تروحي معو، روحي معو

وْللموْت بتضلي معو

الماضي، الطفولِه، أهلِك، الجيران

كلهُن نسيان

غيرو ولا إنسان

بالفقر بتكوني معو   وبالعِزّ بتكوني معو

ولَما بتِعصُفْ ريح بتكوني معو

وربّي ولادك عَ الرِّضى...   عَ المحبِّة والرضى

بتزْهر الأرض وهيكْ بيشِعّْ الفضا

وازرَعِيُن بالوعر أرزْ وسنديانْ

ملوى الزَّمان

وقوليلهن: لبنان!

بعد ألله يعبدُو لبنان!

 

وحياة الأسرة مرهونة بإعمار الدار. البيت في المفهوم الرحباني مكمّلُ الأسرة وعماد البنية الاجتماعية. يبدأ بالبناء أساساتٍ وجدراناً وقناطرَ وسطوحاً وأبواباً وشبابيكَ ودرابزيناتٍ وعتباتٍ وقرميداً وجنينةً بسياج وبوابة، ثم تدبّ في أركانه الحياة والحيوية وتُشرعَ الحكاياتُ أنغاماً فتتحقّق أحلام صاحبَيه وهما يخطوان في بناء الأسرة خطواتهما الأولى:

سَألْنا القلب  شو بْتِطْلُب           قال بدُّو الحِلْوة  اللِّي هيِّي

سَألْنا الحِلْوة شو بْتِطْلُب           قالِتْ عَمِّرْلي عِـلـِّيـِّـه

...

بدنـا نعمّـر شي دارَه     يرتـاح القلب بْفيِّـتها

وشي بْنيّة تعقد زنّـارا     وتقعُد تغزل  عَ عتبِتها

...

تِحلا قمار وتضوي قمار

وعَمّر يا معلّم العمـار!

 

وسياج البيوت المادي (زهور وتفاح ورمان) أما سياجه الروحي فـ"بـِ زنود.. بقلوب بعزم بإيمان". ومعمرجي لبنان ليس مُصفصِفَ أحجارٍ ونجّارَ أبواب بل مهندسٌ بارعٌ يستخدم عقله وأحاسيسَه وثقافته بمهارة اكتسبها من أُسَرٍ توارثت الخبرات وراكمتها "شْقَعْ حْجار وخْلَقْ فْكار". وطالما أطلق الأخوان رحباني أغنيات عن الدار والدارة والبيت ومكوناته وجماله وعلاقتها به: "بتشوف بكرا بتشوف شو دارنا حلوِه"، "ليل وأوضَه منسيِّه"، "يا بيتي يا بويتاتي"، "يا دارة العلالي"، "يا ريت إنت وأنا بالبيت"، "درج الورد مدخل بيتنا"، "عَ العالي الدار علّيها"، "دارت فينا الدار"، "بيتنا قرب العين ياساحر العينين"، ...

زفّة العروس، في "جبال الصوّان"، "مشوار من دار لَدار"، تبدأ حضورها في المنزل بمباركته:

تتبارَك حْجار البيت         وتتبارَك العتبِه

والخوابي نبيد وْزَيت        وِتفيض المحبِّه

ويطالبها أهلها أن:

كوني قمح وْسِكَّر           كوني وَرْد وْعنبر

وقنديل الـزُّوَّار             اللّي متوَّج بالنار

 

 

·       العمر هاجس الجميع

الحياة لغزٌ حيَّر الناس منذ بداية وعيهم، والموت تَوَقُّفُ نبضِ القلب.

في مقتبل العمر كنتُ أفلسِفُ قول المسيح الهادر في لغز الحياة والموت: "أنا هو الحياة" بخروجي عن الـ"أنا" المحدودة بشخص المسيح إلى كل "أنا"، معتبراً أن المسيح قصد بهذا القول أنّ الحياةَ حياةٌ ما نحن حييناها، وأنّ مَن يؤمنُ بها بعد رحيله كـ"فرد"، باقيةً كـ"إنسانية"، وإن مات فسيحيا. مع هذا كنت أنظر إلى العمر كما نظر إليه أيضاً عاصي ومنصور، محدوداً في أيامه وساعاته. وما أعنيه هنا محدوديتَه مقارنةً بما يتمناه الناس. الكل يطلب مديد العمر لنفسه ولغيره، الكل يُقلقه المرضُ وتُفزعه الكهولة، الكل يخشى الموتَ الرهيب بل يتحاشى ذكره، وإن رحل غالٍ قلنا: "غاب جسده ومازالت روحه بيننا"، ومَن ترك وراءه ما يذكّر الباقين وأبناءهم به من أعمالٍ وأفعالٍ وذكريات خلّده الاستذكار.

عاصي ومنصور خالدان بما تركاه عبر مسيرةِ تألّق في الحضور وسخاءٍ في العطاء امتدت لكليهما قرابة عقود أربعة، ولمنصور بعد غياب عاصي عقدين آخرين. ولمن عايش عاصي ومنصور معاً، ومنصور بعد عاصي، يدرك كم كان هذان العبقريان جدّيَّين في تعاملهما مع الوقت وفي استخدامهما عمريهما، ومن استخدم عمره كسبه مرّتين.

من يتصفح تراثَ الأخوين رحباني يلمس عظمته ويعرف كم بذلا من جهدٍ ووقت كي يخرجا به على هذا المستوى الفريد الراقي المتكامل.

في معرض الحديث عن عاصي ومنصور بعد مسرحية "المحطة"، وكنا قلقين حينها على حياة عاصي ونتساءل عن مقدار اشتغاله ومنصور على أعمالهما، قال لي مسرحيٌّ سوريٌّ إنه يقدّر وقت العمل المسرحي (بفكرته ومحاوره وكتابة نصّه بما فيه من كلام عاديٍّ وكلام ملحّن وكلامٍ مغنّى وقصائد ولتأليف ألحان الأغنيات وألحان المقدمة والخاتمة والألحان المرافقة والخلفية ولتوزيعها وتشكيل الأوركسترا ولتقسيم العمل إلى مشاهدَ ولتحديد متطلباته التشكيلية وعناصره وأدوار الممثلين ومتطلباتهم وملابسَهم وماكياجاتهم وغير ذلك) يفترض أن يتراوح بين 600 و1000 ساعة عمل جدي لكل مسرحية.

 سأفترض أن عاصي ومنصور اللذين كانا يشتغلان على كل عمل مسرحي 10 ساعات يومياً (وهذا فوق القدرة البشرية لمبدعين يقومون بعمل صعب وبمعايير فائقة المستوى)، فإن 800 ساعة عمل تنجز خلال 80 يوماً، أي ثلاثة أشهر من العمل باستراحة يوم واحدٍ أسبوعياً.

ومن يقرأ ويستمع ويشاهد تلك الأعمال بدقة وتمعّن سيكتشف أن وراء كل لحظة مسرحية حجم معلومات ينمّ عن اطلاع كبير وثقافة عميقة وقراءة مستمرة وتطوير للذات التعبيرية وللذات الإبداعية وحضور في الأحداث وفي الأماكن من أبسط حدث في أبسط ضيعة أو حارة إلى بقاع العالم وأحداثها، ومن اليوم الذي عرض فيه العمل المسرحي إلى التاريخ في أبعد مراحله، من الفلسفة إلى السياسة ومن الدين إلى الشعر ومن الفلاحة إلى الصناعة فالتجارة فالرياضة مع الشخصيات أبسطِها فألمعِها وأكثرِها خيراً إلى أكثرِها شرّاً. ألم يتطلّب هذا وقتاً كان فيه الأخوان رحباني مشغولَين عن التأليف الموسيقي والمسرحي وعن كتابة الشعر؟

وإذا افترضنا وراء كل ساعة عملٍ مباشر ساعةَ عملٍ غيرِ مباشر، وبعد إضافة فترة البروفات والتحضير للعرض وفترة العرض وتكراره في أكثر من مكان وما تتطلبه إدارة المسرحية من لقاءات الفنيين والمصممين والفنانين والعازفين والإداريين ومورّدي المواد وفنيّي الديكور والصيانة وغير ذلك، أصل إلى ثمانية أشهرٍ يستغرقها كل عمل مسرحي على الأقل.

ومعلومٌ أن الأخوين رحباني والسيدة فيروز والفرقة الشعبية اللبنانية جالوا في عواصم ومدن عالمية أكثر من مرة لإحياء حفلات والاشتراك بمهرجانات، وهي مهامّ إضافية يتطلب تحضيرها على مستواها العالي مئات الساعات الأخرى.

هذا الوقتُ الرحبانيُّ المليءُ بالخلق والإبداع وبالعطاء ذي القيمة التأثيرية العالية وقتٌ من نوع خاصّ، وقتٌ شكّل عمراً يقاسُ عليه، هو العمر الرحباني الذي تحدّث عنه عاصي ومنصور بالهاجس من انقضائه وحرصاً ألا يضيع سدىً.

ولكن... لم يضِعِ العمرُ الرحبانيُّ سدىً.

منذ 1957 (أوبريت "عرس في القرية") بدأ متابعو المسيرة الرحبانية يجدون عند رائديها عاصي ومنصور شغفاً في ذكر العمر والحياة في نصوصهما المحكية والمغنّاة. قد يكون إحساسهما بأهمية الوقت في سنٍّ مبكرة وخوفهما من مضيّه بدون تحقيق إنجازات، ناجماً عن ضيقه ليلبي حجم طموحاتهما، لذا كان الوقت الرحباني مليئاً بالعمل مكللاً بالنجاح، مستخدَماً بإخلاص وعناية، واعداً بمستقبل باهر سرعان ما أصبح حقيقةً وقدوة.

هكذا حرص الأخوان رحباني على وقتهما وعمرهما كي يتمكنا من إنجاز ما أرادا إنجازه، فراحا يعبّران عن تقديسهما العمر وعاء حياة الأفراد والمجتمع والوطن وكلّ ما يملأ الحياة من عمل وكفاح وسعي الى الخير والحب والسعادة والجمال في رسالة فكرية أدبية فنية زاخرة بالجماليات.

وجميعنا عشنا ونعيش العمر الرحباني على أنه عمرُنا. وهو ليس ما سماه الشاعر هنري زغيب "الزمن الرحباني"، بل العمر غير المحسوب زمنياً، عمر عطاء استمر فترة الزمن الرحباني، منذ عاصي ومنصور وصولاً إلى الياس، سحابةَ نصف قرن من الزمن اللبناني الجمالي يستمر حضوره في سماء لبنان والعالم.

النص الرحباني الجميل يثبت هذا، ويثبته حرص عاصي ومنصور على امتلاك العمر لا إطالةً في حياتهما الجسدية بل سعياً لإيصال تلك الرسالة الى أبعد ما يمكن على طريق مرافقتنا.

روح الشباب كانت دأب الأخوين منذ الانطلاقة الأولى "بعدْنا والعمِر بعدُو بأوَّلو"، ووفيا بالوعد. ورغم العطاء الكبير في عمر قصير، كان عاصي ومنصور يتوجسان انقضاء الوقت خشية أن يطيح طفولة فاتهم التمتع بأيامها:

وْيا سنين اللي رِحتي ارْجعيلي     ارْجعيلي شي مرَّة ارْجعيلي

وِانسيـني عَ بـاب الطفولـِه     تَ أرْكضْ بشمس الطرْقات

أو:

تعا تَ نتخبـّـا            منْ دَرْب الأعمار

وْإذا هنّي كبروا            وْنحنا بقينا زْغار

وْسألونا وَيْن كنتو؟

وْليْش ما كبرْتو أنتو؟       منقلـُّـن نْسيـنا

واللّي نادى الناس

تَ يكبرو النـاس          راح وْنسي ينادينا

 

الساعة الرحبانية لا ترحم المتقاعسين "الوقت مداهمنا واليوم بسنة. لازم نبدا"، أو "إجا وقت الشغل"، أو "العمر رَح يسبقني"، أو "قولولو العمر قصيَّر وْشمس العمر خيال"، أو "ليلات الزمان قصار"، أو "قلُّن للغوالي: إيام الهنا شيّالة"، أو "خلصت الأيام البيضا" أو "مَوسْمي عَمْيدْبَلْ والعُمرْ عَميرْحلْ"، أو:

بتذكر يا قلبي لمّ كنا زْغارْ         قدَّيْـشْ كنـا ننوجعْ ونغــار

وْمرِّتْ الأيـام عَ الإيـامْ          الحلوين كبرو وْنحِنْ صرْنا كبار

وللعمر عيد "وِترُوح تشلحني ع َعيد العمرْ"، وزمانه يسافر ويرجع ويتحاور معنا ويتلون: زمان الحكي وزمان البكي وزمان الحب والزمان الضايع والزمان الذي نودّعه والآخر الذي يستقبلنا "منوَدِّعْ زَمان وْمِنرُوح لزَمان"، ويجب أن نستخدم الزمان فهو زمان الحب "وْليش الزَّمان يمرُق على الفاضي؟"، أو "تأخرنا وْشو طالعْ بالإيد حبيبي وْسبَقتنا المواعيد"، أو "تِبْقى شْهور السِّنِة تِمْرُق بِرَفِّة عَيْن".

وإذا كان العمل أهم ما نملأ به الوقت فهو المستدام "العمْر بيخلص والشغل ما بْيخلَص"، فالحبّ توأمُه وغريمُه:

بيقولو الحبّ بيقتل الوَقت          وْبيقولو الوَقت بيقتل الحبّ

يا حبيبي  تعا تَ نـروح          قبل الوَقت    وْقبل الحبّ

ولا يهادن العمرُ الحبيبَين اللذين لم يملآه منذ البداية بالحبّ:

نحنا قَضَينا العُمر           صدّ وْحنين وْنوى

وْلَما التقينا          لقينا العمر   وَلى وْعَبَر

ذلك أنّ "الأيام بْتِمْحي الأيام"، والوقت مكون الحياة

قوْلكْ  بَعْد الرِّفـقـَه              والعُمـْـر العتيـق

مْنوقع مِتِل وَرْقـَـه               كل مين عَ طَريق؟؟

وتبقى في الذهن صورته:

التّلج إجا وْراح التّلج              عشرين مرّة إجا وراح التلج

وأنا صرت إكبر

وشادي بعدو زغيّر         عمـيلعب عَ التّـلج

 

لكنّ العمر الرحبانيّ لم يضِع سدىً بل هو باقٍ مؤثراً في حياتنا ومالئاً أوقاتنا جمالاً ومتعة وتحفيزاً على حمل قيم الخير والجمال وفائدة ثمينة في نقل بيئة الزمان الجميل. ومعاصرو الزمن الرحباني يعتزّون بأن شخصياتهم الفنية نمت في أحضان هذه المدرسة المتألقة وبأنهم كانوا جزءاً منها.

عند إطلاق كتابي "جماليات الإبداع الرحباني" في بيروت (وفي الذكرى العشرين لغياب عاصي) لم أكن قابلتُ أحداً من الرحابنة، لكنني كنت تربّيت على قيمهم الإنسانية وتعلمتُها وخبرتُ الفضاء الرحباني ورسالته وكيف ترتبط الذائقة الفنية بالفكر الإنساني ولمستُ القيم الإبداعية في أعمالهم وكيف أربط الوطنيَّ في مفرداتها بالإنساني بين أسطر نصوصها ونوتات ألحانها.

 

·       الحب.. رونق الحياة

عن شكسبير: "ما أقوى الحب: يحيل الوحش إنساناً، فإذا أسيء إليه أحال الإنسان وحشاً". ويتفق الناس عموماً أن عاطفة الحب الشديدةَ التعقيد لا تقتصر على حالة الحب بين الرجل والمرأة، بل هي حب الإنسان الحياةَ والطبيعة والعمل والبيت والضيعة والوطن والإنسانية والظواهر والتصرفات والإبداعات والاختراعات والاكتشاف والفكر والفلسفة والفنون. والإساءة للحب بتسخيفه أو تكبيل حريته أو طغيان الأنانية عليه، هو عداءٌ لِحُبٍّ فقد إنسانيته وما عاد حباً.

"الحبّ نقيضُ الموت"، كتبَ يوماً هنري زغيب، وأضاف "الموت غيابٌ دائم بعد الحياة. الحب حضورٌ دائم حتى بعد الموت. الحياة لا تغلب الموت. الموت أقوى منها. الحب يغلب الموت. الحب أقوى من الموت. الموت على الأرض هو الحياة بلا حُبّ. الموت ليس غياب الحياة. الموت هو غياب الحبّ... والحياة الحقيقية هي حالة الحب...  الحب بالمعنى الأسمى، الأرقى، الأنقى، الأبقى، الأكمَل. الحب الذي هو الكمال في الذات والاكتمال في الآخر".

هكذا الحب في مسرح الأخوين رحباني: يعكس ثقافة الحياة والتفاعل معها، ويرافق الناس في أوقاتهم المختلفة عبر المكان والزمان والطقوس والفنون، وبصفتيه: الشمولية والمحدودية، في "حالة" الرجل والمرأة بدون سلخها عن المجتمع والبيئة والوطن، وهي الصورة التي رسَمَها هنري زغيب عن الحب.

الحبّ حالة طبيعية وشرط لازم لارتباط الحبيبين، وهو تكوين يثبِّت الاتحاد بالكون الواسع، هو "الحدث الاستثنائي" الذي لا يأتي في العمر سوى مرة واحدة وحيدة، كما رسمه "العاشق" هنري زغيب.

وفي ثقافة الناس العاديين يربّي الأهل أبناءهم على احترام الإيمان بالحب ولا يضغطون على بناتهم لقبول الزواج من شخص لا يبادلنه الحب:

أنـا أهلـي رَبـُّـوني            عَ الخبزِه والزَّيتونِه

وْمشْ رَح آخُد إلا شَبّْ             كوْن بْحِبّو ياعيوني

نحنا ما عنّا بساتين

عنا دُوَّارة ياسْمين

ما منآمِنْ غير بالحبّ              وْحاجِه تتعَبْ يا مسْكين

 

وذلك حتى لو كان العريس ملكاً. ففي مسرحية "هالة والملك" فشلَ "هبّ الريح" في إقناع ابنته "هالة" أن تدّعي بأنها الأميرة التي بعثَها القدَر لتكون عروساً للملك.

تسهر الفتيات ويسهر الفتيان من أجل الحب وينتظرون :"نطرتَك سنِه، يا طول السّنِه"، ويصاحبون الطبيعة كي تقاسمهم هموم الحب "وإسأل شجر الجوز"، ويصلّون كي يبقى الحب والحبيب:

ما أزْغر الدَّمعَه            أنا دَمعَه بقلْبَكْ

بدِّي إندُرْ شمعَه            وِتْخلّيني حبّكْ

ويسعى كل من الحبيبَين لإرضاء الآخر حرصاً على بقاء الحب:

حاسِّة بِحالي نعسانِه وْتعبانِه

خايْفِة تَ نام        وْينْزَل القمر

وِيلاقينِي غافْيِه      وْتِسِرْقُو جارِتْنا

ياللِّي مزاعلتنا             

وْتعْطِيْه لَحبيبي

وِيْحِبَّا حَبيبي

وأنا صير غَريبِه

 

للحب يقيمون الأعياد ترقص في سهراتها "قصص الحب والحكي" وللخطوبة وتوديع العزوبية مهرجاناتٍ:

- شو بيروحو البنيّات يعملو بعيد العزَّابه؟

- بيروحو يْلمُو حكاياتْ وِيشوفو حظنْ بالغابِه

بِـعيد العزَّابِه       بيجتمعو العشاقْ

وْبتقلُّنْ الغابِه        كلّ اتنين رْفاقْ

والحبايبْ يتلاقو بالحبايب

والعزَّابِه ما بيعودو عزَّابِه

وْيا قفاص المحبِّه           رَحْ بتصيري بيوت

تْشَعْشِع المحبِّـه           عَ بيوتك وتفـوت

تتلألأ البيوت بالحب "دارك يا حلوِة مرْجة فيها الحبّ زرار"، وقد يأتي الحب  على هيئة الحظ مفاجئاً تسعد به قلوب الفتيات رغم إدراكهن بأنه يحمل الدموع كما الابتسامات:

بكير طلّ الحب عَ حيّ الـ لِنا      حاملْ معو عتوبِه    وْحَكي وْدَمْع وْهنا

كنّا وْكـانو هالبنـات مْجَمعين     يا اْمّي وْ ما بعْرفْ  ليْشْ  نقـاني أنـا

وما إن ينبض به قلب الفتاة حتى تنبري معاهِدةً الحبيب:

جايي أنا جــايي          جايي لعندَكْ جـايي

رحْ يخلصْ الموسم         وإفضى للمحبـِّـه

وينكْ يا حبيـبي

تَ حطكْ  بقلبي                   اعملّي عندك  خيمِه

من جـوانح الغيمِه

بالحبّ مضوَّايِه                    جايي أنا جـايـي

والحب الذي يضحّي الحبيبان من أجله بالكثير يضحّي به الأخوان رحباني أمام حب الوطن الذي ترخص له قلوبنا:

وْيا خطيبي صالح           لا تنطرْني بهالسهرَه

وَلا بسهـرِةْ بُكرا           ولا بـأَيّ سـهـرَه

أنا كتبُوني عَ وَرَق النار   

أنا حمّلـوني هموم كتار

وْلازم إمـشـي     بالضيـع الغـرْب

من بَيت لبيـت      وْمن درْب لـدَرب

وْيا صالح خطيبي           حكايـات الليـالي

وِفساتيـن العرس          الـْ خيَّطتُن بِبـالي

خُدْهنْ واعطيهن     لَـشي بْنَيّه تــاني

تقدرْ تسعدْ معها     وانْساني وْلا تنساني

أنا  إِلُــــو      للـواقف  بالزَّمانْ

بنـدُر صـوتي

حياتي وْمَـوتي      لَمجـــدْ لبنـان

 

ولأنّ الحب يُضعِف من يُصابُ به، فيُرعِش قلوبهم ويمتلك نفوسهم ويُوقظ فيها قيمَ الخير والرّقة والحنان:

هيئتكْ  حَبّيت        وضْعِفِت  وانْهَمّيْـت

الحبّ مشْ إلنا       نحنا وْدمعاتو تزاعلنا

شـو  الحبّ؟        يرْجع يقيدْنا؟ يجمدْنا؟

 

يؤثّر الحبّ في التائبين فينتقلون إلى معسكر الخير كما فعل هَولو الذي جعله حبُّه منتورة يعيد "كيس الغلّة" ويحمل بيديه القنديل الكبير إلى قمة "ضهر الشير"، بل يغدو الحب في حالات حادةٍ منقذاً يحلّ العقد ويحصر المآسي الناجمة عن البغض والكراهية: "ما بيخلّصْني غير الحبّ".

وإذا غياب الحبيب مُحزن:

حبابي يُمّـه ترَكـوني     راحو بعيد وْنسيوني

وْبَعدو حبُّنْ  على بالي      نار برُوس الجـبالِ

فعَودته فرح:

يوم الـْ بتريدْ              تِرجعْ يا حبيـبي

لَـ عيّدْ  عيدْ               واعْزِملكْ عزايمْ

وتزهو الدنيا:

بُكرا إنتَ وْطاللْ            برْكض بلاقيكْ

وسطوح المنازِلْ            كـلاّ شبابيكْ

وْإنتَ تدِّلّ     عليي تدِّلّ

وْتِمسَحْلي جَبيني بالسَّنابلْ

بُكرا إنتَ وْطالِلْ

إنتَ وْطالِلْ ياحبيبي

وانتظار لقاء الحبيبين يحمل حرقة الشوق:

موْعدْنا بكرا                وْشو تأخّر بكرا

قوْلكْ مشْ جايي     حبيبي؟

عمشوفكْ بالساعَه          بِـتكّات الساعَه

من المدى جايي     حبيبي!

ومهما طال الانتظار فالإيمان باللقاء كبير لأنه:

إذا الأرْض مدَوَّرَه           يا حبيبي

رَح نرْجعْ نتلاقى           يا حبيبي

ويحلم المنتظر تبديداً لوقت الانتظار الطويل:

نطرْتكْ أنا                  ندَهتك أنا

رسمتكْ على المشاوير

وفي فرحة اللقاء طفولة:

أنا كلّما بشوفك             كأني بْشوفك  لأوَّل مرَّة حبيبي

ولا يريد الحبيب أن يتصوّر حالة الفراق:

أنا كلّما توِدَّعنا             كأنّا توِدَّعنا   لآخر مرَّة حبيبي

ولا النسيان:

أنا زَيون الغريبِه           ما بحبّ النسيان

أنا بحبّ الحبّ              وِبحبّ الزَّمـان

يمرُق وْنحنا نحبّ

والحب قد يخلق حالة قلق وأرق:

مَشلوحَه على بَحر النسْيان

فارَقني النوم وْكل شي كان         وْوِجَّكْ ما كان يفارِقني

جرِّب إسبحْ ويغرِّقنـي

من عزّ النوم بتسرقني

ويتلوّن الحب باللقاءات الرومانسية ويكتسي ألوان الفرح والطفولة:

بعَّدتنا الطريــق          عن طريق العتيق

مدْري كيف التقينا

صِدْفِه وْضحكو عيْنيْنا

وْضحكتْ على الحيطان

صُوَرْنا من زمان

صبي ناطر صَبيِّه

فايق عليّي؟

وتسعى الصبية إلى لقاء الحبيب:

شِفتكْ عَ البير  ناطرْني            وقْصدْت البير

متل اللي الحبّ غيّرْني             وفزعت كتير

وتصف الحب بـ"شغل البال" وتعلن تمسّكها به:

والـْ ما بتحِبّ نيّالا         بيضلّو فاضي بالا

 

لقاءات الحبيبين تزكي الحبّ، وتضفي عليه عطر السعادة، وتترك في النفسَين ذكريات جميلة وصوراً لا يمحوها الزمن. وإذا افترق الحبيبان كان تقليب الصور من حقّ ذكرى الحب:

إذا رَح تهجرْني حبيبي      وْرَح تنساني يا حبيبي

ضَلّ تذكرْني                وِتذكّـرْ طريق النحلْ

وفي الفراق تحلو رسائل الحبيبين ويحلو تبادل الهدايا البسيطة:

خدلي بدربك هالمنديل       واعطيه لحبيبي

قلـّو خليه يتذكـّـر

عَ هالمنديل  الأصفر        إبعتلو مكاتيبي

بتجبلي منـّو  تذكـار      شي وَرْقة وْشي صُورَه

عَ الوَرْقة يكتبْ أشعار      وْإسمو على الصـورَه

 

ويحافظ كل حبيبٍ على رسائل الحب، فكتمان سرّه جزءٌ من سعادته ولكن فضح هذا السرّ يُقلق: "وانسرَقت مكاتيبي وْعِرْفو إنك حَبيبي".

الحبّ صدقٌ وإخلاص ووفاء ولا يحتمل الكذب والخداع:

يا شباب اللـّي جايين      تَ تلاقو الصبـايا

إصحى تكونو كذابين        وْفيه شي بالخبايا

 وإن حدث الخداع، فسرعان ما تكشفه الحياة:

جايين نواطير التلج         اللّي بيقرو الخبايا

جايين نواطير التلج         تَ يصَفُّو  النوايا

واللي مزَغزِغ النيـِّـه           

وْعمْيضحَك عَ صَبيِّه

بياخْدوه نواطير التلجْ       عَ جبل بِـبرِّيِّه

وبيحبْسوه بْعلِّيِّه     ما فيها غير عتم وْتلج

ولا يُقبل الخداع والمكر في الحب:

مرَّة كنتْ قاعد              بِهالكرِم وسارِد

إجو عاشقيـن                    قعدُو بخيـالي

قلاّ وْقـالتـلو                     حلفلا وْحلفتلو

تــانـي مَـرَّة          

إجا مع غيـْـرا

وْإجتْ مع غيرُو    

تاري متلا متلو

- قوْلك مين أكذب؟  هوِّي وَلاّ هيي؟

- مرَّة بقولْ هوِّي   مرَّة بقولْ هيي

هوِّي فيه تَعلب      وْهيي فيها حيِّه

والحب الحقيقيّ سرمديٌّ:

بتقول الخبْريِّه              هوِّي وْهيي

منْ أوِّل العمر       لآخر العمر

بتتخبّـا بيلحقها     بتزْعلْ بيْراضيها

بتوقف  بيسبقها     بيرْجعْ  يلاقيـها

منْ أوِّل العمر

لآخر العمر

هـوِّي وْهيـّي      وْخلصت الخبْريِّه

والحبيب المخلص يرى حبّه أكبر من أن يقدّر ولا يجد ما يشابهه إلا اللامحدود:

شايف البحر شو كبير؟            كبر البحر بحبَّك

شايف السما سو بعيده؟           بُعد السّما  بْحبَّك

كبْر البحرْ  وْبُعد السما            بحبكْ  يا حبيبي

ومن يخسر حبّه يَهْلَع لأن هذا الحب، إن كان حقيقياً، "لا يأتي إلاّ مرة واحدة" كما يقول هنري زغيب:

سلّمولي على الحبّ        

وازْرَعوني شجرَه    على إسم الحبّ            

واحفرُوني عليها            صوْرَه

ولا يرضى الحبيب مقايضة الحب الحقيقي بشيء آخر، حتى لو كان عرساً:

أنا ما بدِّي اعراس         أنا كان بدِّي الحبّ

وانكسر الكاس

والحب يستنطق المحبّين فتخرج من حناجرهم أغانيه المليئةُ بتعابير الغزل. والأخوان رحباني أمهر من تغزّل:

عيونِك أخدوني وْرِمْيوني          وْعَ آخِـر دِنيه  وَدُّونـي

وْمِنْ آخِرْ دِنيِه جـابوني           وْما بعرف وَين شَلحوني

عيونِك يا بحيرة مَيّ        ورد وْزنبق غَمزاتُن

مـرَّة بيحِنُّو شـويّ        وْمرَّه  بْتقسى لفتاتُن

خايفْ دَخلكْ ليِنسوني              وإغرَقْ بالمـيّ وينسوني

عيونك يا حَدّ السيف        وِمدَهـَّبْ بغنيِّـه

مرَّه بيكونو صيـف        ومرَّه فيهنْ شتوِيِّه

ما دامُن رِضْيو وْحَبّوني     ليشْ ت بالآخر جَرَحوني

وغزل الحبيب صلاة:

يكتب صلا يوَدِّي صلا              لعيونْها وْيِحْلا الحلا

ولفتات الحبيبة تضيء لها المنارات:

تتلفّت وْتضوي على لفتاتها المنايرْ

ويتلذذ العشاق بمغازلة معشوقيهم:

يـا حلوِه شو هالطلـِّه     فيه متلا. أحلى؟ ما فيشْ

كيفْ ما لوْلحتي السلـِّه    بيلـوْلحْ قلب الشاويـش

وليس الغزل حكراً على أناسٍ دون غيرهم، وزيادة في تأكيد عدم اقتصار الشاعرية في الحب على نوع محدد من الناس يقول الشاويش للفتاة:

إنتـي  أكبرْ سـرَّاقَه

لِمِّنْ شِفـتِـك بالطاقَه

شلحتي اللفته  الحِرَّاقه     وِسْرَقتي قلب الشاويش

مكانة الحبيب في قلب حبيبه:

إذا ضَيعني الهوى شي صيف.. بقلبك بتلاقيني

أو في عينيه:

غمَّضْتِ عيوني خوفي للناس       يشوفوك مخبّا بعيوني

بل هو في كيان الآخر:

وْلَمّا عَ حالي سكرْت الباب         لقيـتك بيـني  وْبين حالي

ورغم سرور الناس بحبيبين عاشقين وصلا إلى محطة العرس، يتلذذون بتناقل أخبار العاشقين وحكاياتهم ولقاءاتهم ودائماً يستند هذا التلذُّذ إلى شخصية ذات صفات خاصة تسرع في نقل آخر الأخبار.

- وْشو بتقول الخبرِيِّه؟     - نعيمِه حَبّت نعـّوم

- ووين بيتلاقو ليليِّه؟      - بيتلاقو بين الكروم

وْأنا بكون    رايحَه              مِش مِنتِبهه   وْرايحه

مشْ قصْدي إتسمـّـع     بسمع أنا وْرايـحـه:

الحكي حكي         والبكي بكي

هُـوّي يتنهّد        وهيّي ملبّكِه

وِبكمّـل طريـقـي         عمبِبْـلَع  بِـريقـي

وْبتصيـر الحكـايِه        ترْكض  عَ طريـقي

وْلَما بسْـرَح  عشيِّـه     من سَهرِيـِّـه لْسَهريِّه

يا عَمِّي ما بعرِف كيف     بتوصَل قبْـلي الخبريِّه

بتسمّوني حشرِيِّه           وْأنا مشْ حشرِيِّه!

وْلكْ أنا شو دَخلني!!؟؟      الحقّ عَ الخبرِيِّه

وتضيق الصفحات بما تحتويه الخوابي الرحبانية من كنوز الشعر والفن في الحب فلسفة وفنوناً.

 

·       الفن ابن الوعي

عن عاصي الرحباني بأنّ "الفن ابن الوعي". لا غنى للإنسان عن الفن. الفلسفة والفن يخلقان بيئة تزهو بها الحياة بعد أن نكتشف كنهها ونعي جوانبها ونتلمس سيرورتها أحداثاً وأطروحاتٍ ومناهجَ فكريةً وأساليبَ إبداعية.

أكد الأخوان رحباني دور الفن في تطوير المجتمع وفي تثقيف النفس وتنقية الروح ورفع مكانة الوطن وفي نشر ثقافة السلم والمحبة والفرح.

من ذلك ما يقول فخر الدين لـ"عطر الليل":

أنا السيف وْإنتي الغنِّيِّه    

أنا بسَيفي                  بحرر هالمناطق وبحقق لبنان

وْإنتي بالغنيِّه               بتخليلو إسمو يزَهر وينما كان

روحي بـْ هالطرْقات        فوتي عَ البيوت

ضلِّي عنُّو غنّي                    وْغيْرِكْ خلّيه يغنّي

وْمتى الكلّ صارو يغنّوه            بيصيرُو يحبوه ويْريدوه

وْبيصيرْ هوِّي الغنيِّه

وإذا يا عطر الليل

صار ما صار وانكسر السيف      بتكمِّل الغنِّيِّه

وتنطلق عطر الليل تعاهد أهلها:

لَـرُوح بين الشمِس والفيِّه        وبْواب حلوِه  تِشرُق عْليّـي

سلّم عَ البيوت الـْ عَ هالطرْقات   وْحاملة بـلادي  بِعـَـينيّي

ومؤكدة قدرتها:

قادِر يا صوتي القادرْ              بالمجـد تجـنّ

تْجنّ وْبالرَّدِّه تبـادِرْ               تَ الـرَّدِّه تْعنّ

عمْـيهدُر نهر الهادرْ        والصنـج يرنّ

وْبيدر مزْروع بْيادرْ                مزْروعَه رْجال

تجوب "عطر الليل" بين الضِّياع والبيوت تشرح للناس مسيرة الوطن وتشدّهم للتضامن من أجل بنائه ومن أجل عزته وكرامته:

مْرَقتْ على ضيـعَـه              فيها طـاحـونِه

اجتمَعو عْليي الأهالي                     وْصارو يسألوني

حكيتلـّـنْ كتيـر       قصص كتيـر

قِصـة  الفستـان      ونْوال  الحرير

قِصة كروم العنب        مع  النـّواطير

قِصة  الصبيـِّـه        والهوى بكيـر

قِصة سنـابل القمح

وْكلّ الـْ عمْبيصير

 

ويرى الأخوان رحباني مكانةً كبيرة لدور الفن في البناء والتطوير وفي توعية الناس وفي توجيه طاقاتهم لخدمة الوطن وحمايته وتمتين ارتباط المواطنين بأبنائهم وفي تجميل حياة الناس وملء أوقات راحتهم بالفرح والسعادة مما يشيع روح المحبة والسلام..

***

ثمة عشرات الأمثلة لمشاهد مختلفة النوع في رحاب العالم الرحباني، تؤكد الإنسانية والشمولية في هذه الرسالة الفنية الفكرية الأدبية، تؤكّد أن تراث عاصي ومنصور كنزٌ من كنوز لبنان، ووسام على صدر الوطن، وإدخال هذا التراث في المناهج والأنشطة التربوية خطوة رائعة تستحق تحية كل مخلص وطنيٍّ إنسانيٍّ.

طوبى للراحلَين الحاضرَين في ألق لبنان عاصي ومنصور الرحباني.

وطوبى للبنان اللبناني.

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

22/04/2010

حازم خيري

أخي الحبيب د. مفيد مسوح

محاضرتم الرائعة، أدخلتنا عالم الرحبانية الرحب والمُبهر، وأطلعتنا في سلاسة وعذوبة على مواطن النزعة الانسانية في فن الأخوين رحباني.

ننتظر منكم المزيد، فالإنسان في أوطاننا الكسيرة ظاميء لمثل هذه الجهود الرائعة.

أكرّر شكري وامتناني

وأتمنّى لسيادتكم كل خير وسعادة

دُمتم بألف خير

حازم خيري


 

   
 

.