3

:: سهرة من العمر مع فن محمد عبد الوهاب الخالد ::

   
 

التاريخ : 14/12/2009

الكاتب : بقلم: نبيل عودة   عدد القراءات : 2125

 


 

سهرة من العمر مع فن محمد عبد الوهاب الخالد

بقلم: نبيل عودة 

فرقة الموسيقى العربية النصراوية تحيي أمسية موسيقية غنائية

لمطرب الأجيال محمد عبد الوهاب

مع المطرب المبدع ابراهيم عزت

نوسطالجيا نادرة سادت أجواء القاعة في ليلة انس لا تنسى

الفرقة الموسيقية بقيادة د. نزار رضوان

والعازفون أبدعوا وتجلوا عزفاً وتوزيعاً

 

 

 

 

تستطيع فرقة الموسيقى العربية ان تسجل لنفسها إنجازاً فنياً كبيراً سيظل يتردد على شفاه مئات المشاركين، الذين اكتظت بهم قاعة مركز محمود درويش الثقافي في الناصرة ليلة الأربعاء (9.12.09) للاستماع الى موسيقى وأغاني الفنان الخالد محمد عبد الوهاب، بصوت وأداء أحد الأصوات النادرة في أداء أدوار عبد الوهاب بمثل هذا الإتقان الكامل، وكأن عبد الوهاب يتواصل في صوته... ألا وهو المطرب ابراهيم عزت، الذي تشرّشت جذوره الفنية، بأرقى ما في الفن الغنائي العربي من إبداع وطرب، موسيقى وأغاني أحد أعظم الموسيقيين والمغنيين العرب عبر عصور الفن الموسيقي والغنائي العربي الحديث: محمد عبد الوهاب!

رغم البرد القارص والمطر الخيّر الدافق من السماء، الا ان الجمهور العربي في الناصرة ومنطقتها أثبت مرة أخرى انه متذوق للفن الاصيل، لدرجة ان فرقة الموسيقى العربية اعتذرت لعشرات عديدة من الجمهور الذي طلب الحصول على تذاكر، ولم تتسع القاعة لأكثر مما بيع من تذاكر في الأيام الأولى بعد الإعلان عن أمسية نوسطالجيا (حنين) مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، مما اضطر مدير الفرقة، الاستاذ سهيل رضوان الى الاعتذار للجمهور الواسع الذي لم يجد تذاكر للأمسية، والوعد بأن يقدم برامجَ أخرى مع موسيقار الأجيال خلال السنة الجديدة.

والحقيقة الكبيرة، انها مفاجأة لجميع العاملين والنشطاء الفنيين لفرقة الموسيقى العربية، بأن يبرز هذا الحنين بهذه القوة للفن الأصيل وفي زمن صارت الأغنية عرضاً للجميلات اكثر مما هي فن وطرب.

كنت أنظر لمئات المشاركين، يهتزون على كراسيهم مع موسيقى عبد الوهاب وأغانيه بصوت المبدع ابراهيم عزت.

ولا بد من الإشارة بدور الفرقة، بقيادة الدكتور نزار رضوان على أدائها المتقن، عزفاً وتوزيعاً، في إنجاح تلك الأمسية، وجعل الجالسين في القاعة يحلّقون الى فضاء الفن الراقي، لدرجة ان دموع بعض كبار السن الذين عاصروا مطرب الأجيال كانت تترقرق فرحاً بأمسية أعادتهم الى أيام شبابهم الباكر، حين كانت حفلات عبد الوهاب وأغانيه التي تبث عبر الأثير، تسمّرهم أمام جهاز الراديو.

وحقاً كانت مفاجأتي ان الشباب لم يكونوا أقل انفعالاً وطرباً، وهم لم يعرفوا عبد الوهاب الا من خلال تسجيلاته.

بدأت الفرقة بتقديم مقطوعة "الحنة" من موسيقى عبد الوهاب، ويبدو لي انها مقدمة لادخال الجمهور الى أجواء عبد الوهاب المعروف بكثرة تلويناته وتجديداته في مقطوعاته الموسيقية والحانه.

ثم ظهر ابراهيم عزت ليأسر الجمهور بثلاث أغنيات من أفلام محمد عبد الوهاب، بدأها بأغنية "سهرت منه الليالي" من فيلم "دموع الحب- 1935".

سهرت منه الليــالي             مال الغـرام ومـالي

ان صدِّ عني حبيـبي                     فلست عنه بســالي

 

لتبدأ النوسطالجيا (الحنين) الوهابية تجتاح مشاعر الجمهور، فيشارك الكثيرون المغني ابراهيم عزت في ترديد فقرات الأغنية، والتراقص على لحنها الذي يخترق شغاف القلب، وبعدها أغنيتان من فيلم "ممنوع الحب- 1942"، وهما من أشهر أغاني عبد الوهاب الشعبية: "بلاش تبوسني فِ عينيَّ"، ليزداد الطرب ويزداد الحنين وتتفجر الاشواق لايام الفن الخالد. ثم أغنية "يا مسافر وحدك"، لنسافر حقاً، كلٌّ لوحده الى عالم الطرب والنوسطالجيا.

بلاش تبوسني ف عيني

دي البوسة في العين تفرق

يمكن في يوم ترجع لي

والقلب حلمه يتحقق

****

يا مسافر وحدك \ وفايتني \ ليه تبعد عني \ وتشغلني....

ومن ثم "استراحة" مع معزوفة "أيام وليالي" ليعود ابراهيم عزت بإحدى أضخم أعمال عبد الوهاب الموسيقية والغنائية "انشودة الفن".

ولا بد من حكاية هذه الانشودة، كيف ولدت؟ ومناسبتها:

كانت هنالك شبه كراهيه من الملك فاروق لعبد الوهاب لإحساسه بإنه "محبوب من النساء"، ولكن العليمين بأسرار القصر الملكي، يروون انّ اختَ الفاروق كانت تحب عبد الوهاب، والبعض يقول انها كانت على علاقة معه، مما أغضب العائلة المالكة خاصة وان عبد الوهاب مجرد "مغنياتي"، فتدخّل الشاعر صالح جودت المقرب للملك وتوسط ان يصلح بينهما، وبعد ان أفهم عبد الوهاب ان حياته في خطر اذا استمر بالعلاقة او التودد للأميرة الملكية، كتب له قصيدة الفن ليغنيها للملك في أمسية بقصر العابدين، كبادرة حسن نية والابتعاد عن المعشوقة الملكية، وكان على عبد الوهاب ان يقبل يد الملك ويعتذر عن "خطئه".

لحّن عبد الوهاب القصيدة خلال يومين او ثلاثة، وجمع الفرقة الموسيقية للتدرب عليها، وخلال أيام قليلة كانت جاهزة.

ويذكر ان عبد الوهاب حاول مدح الملك فاروق في أكثر من عمل استرضاء له من ناحيه (وربما بسبب العلاقة الخاصة مع الأميرة) وطمعاً في الحصول على لقب البكويه من ناحية أخرى. الا ان كل المحاولات ذهبت هباء. في أغنية الفن حاول عبد الوهاب استخدام حيل وألاعيب موسيقيه للخروج بأغنية متميزة تنال رضى الملك فاروق.. الذي كان يعشق الحفلات الغنائية ويحضرها.

ابدع عبد الوهاب في تلحين قصيدة الفن بوضعه مقدمة موسيقية غير مسبوقة ولا ملحوقة في تاريخ الغناء العربي. المقدمة البديعة كانت من مقام النهاوند وتبدأ بمقدمة ماهرة على الكمان ويبدع فيها عازف الكمان الأسطورة أنور منسي (أحد أزواج المطربة صباح وابو ابنتها هويدا). وبعض المشاركات على القانون للجبار عبد الفتاح منسي، والذي يؤدي القطعة الشهيرة بمرافقة الإيقاع المنتظم. ويدخل عبد الوهاب بعد تمهيدة إيقاعية جميلة، كأنها تقول له "تفضل غني يا أستاذ".

من كلمات القصيدة التي ألغيت واستبدلت بعد ثورة الضباط الأحرار عام 1952:

الفن.. ميـن يعرفـو؟      الا اللي عاش في حماه
والفن.. ميـن يوصفو      الا اللي هام في سمـاه
والفن.. ميـن أنصفو      غير كلمه من مـولاه
والفن مين شرّفـو         غير الفاروق و رعـاه



 عبد الوهاب في انشودة الفن، يتحول من مقام النهاوند لمقام الراست التطريبي لزيادة جرعة التأثير المطلوبة، ويرتد ثانية الى النهاوند في مقطع "انت اللي أكرمت الفنان و رعيت فنه" لعمل كونتراست لحني واع. ووصل القمة في المقطع الذي يقول: "رديتله عزه بعد ما كان محروم منه". في الكوبليه الأخير تحول عبد الوهاب لمقام الحجاز استعدادا لوصف البلاد بالجنة ووصف فاروق بأنه حارسها - رضوانها.

بالطبع ما يخص مدح الملك فاروق حذف من الأغنية بعد ثورة الضباط الأحرار 1952، واستبدلت الكلمات بكلمات أخرى، ولكن أسلوب تلحين القصيدة يعتبر من أرقى الألحان العربية وأكثرها تنوعاً. وتعتبر أنشودة الفن من أضخم الأعمال الموسيقية الغنائية لمحمد عبد الوهاب.

بعد أنشودة الفن تأتي (استراحة)، وهل من استراحة في عالم عبد الوهاب الموسيقي والغنائي. كانت المفاجأةُ، صوتاً جديداً سيكون له مكانته البارزة في الغناء، الفنانة الشابة أمل بشارات، التي قدمت وصلة غنائية، مؤدية أغنية "أيظن" التي كتب كلماتها الشاعر العملاق نزار قباني، ولحنها عبد الوهاب للمطربة الكبيرة نجاة الصغيرة، لتقف أمل وتشدو بها على أنغام موسيقى عبد الوهاب، ولتتحول الاستراحة الى مزيد من النوسطالجيا الطربية، ولتتموج القاعة مرة أخرى طرباً وتصفيقاً لهذه الفنانة الواعدة والمبدعة.

وكانت القفلة من ثلاث أغنيات: "الحبيب المجهول"، من كلمات الشاعر حسين السيد، والموال الرائع "شجاني نوحك يا بلبل"، من كلمات الشاعر احمد شوقي، وليختتم المطرب الرائع ابراهيم عزت تلك الليلة النوسطالجية التي لا تنسى بأغنية "عندما يأتي المساء" من كلمات محمود ابو الوفا. ليقف على إثْرها الجمهور مصفقاً بقوة ولفترة طويلة، وتكاد مشاعره تثب وهم يهتفون بقوة للمطرب ابراهيم عزت، وللفنانة الواعدة امل بشارات، وللفرقة الممتازة المبدعة، فرقة الموسيقى العربية وادارتها.

نبيل عودة – كاتب، ناقد واعلامي – الناصرة

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

16/12/2009

....الزمن

لم يبقَ من فنّ عبد الوهاب وسطوته سوى نشوتك هذه الممتلئة مقالاً... ودمعة على ترف الفن وفن الترف


 

   
 

.