3

:: أيّتُها الكتابة... علّميني جَسَدَكِ ! ::

   
 

التاريخ : 01/12/2009

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1727

 


  

أيّتُها الكتابة... علّميني جَسَدَكِ !

إيلي مارون خليل

      

 

ما معنى أن تكتبَ ؟

       بالتّالي: هلِ الكتابةُ فعلٌ إراديٌّ، أم أنّه فَيْضٌ تلقائيّ ؟

       اَلأوّلُ جَهد، وفي كلّ جهدٍ مُمانَعَة. وهذا صِراعٌ بين الرَّغبةِ وعدمِ القدرة. بين الإرادةِ و"الاغتصاب".

       أمّا الثّاني، فصِراعٌ بين العَفَويّةِ والمِثال. بين البَساطةِ والإتقان.

       وهكذا، فالكتابةُ صِراع. الأهمّ أنّه صِراعٌ بين الذّات ورغبتِها في الأكمل. كلُّ كتابةٍ محاولةٌ. تَجَدُّدُ الكتابةِ، تَجَدُّدُ محاولات. ما يَعْني عدمَ "اقتناعِك" بعدُ، بما أنتَ، إليه، وصَلْتَ. بما كتبْتَ.

 

       وما المَعْنى ؟

       الكتابةُ شعورٌ بالمعرفة.

       تكتبُ لشعورِكَ بالمعرفة. بمعرفةٍ ما. ولتجعلَ الآخر "يعرف".

       تكتبُ لتُدركَ ذاتك الفرديّةَ والجَماعيّة. ولتدركَ الطّبيعةَ والكونَ والمصير.

 

       كيف تُدرِكُ ؟

       فكريّا، تُدركُ، وفنّيّا.

       الإدراكُ الفكريُّ إدراكٌ للقشورِ، وبها.

       والإدراكُ الفنّيّ إدراكٌ للجوهر، بالحَدْس.

       الإدراكُ الفكريُّ عاجز. والفنّيُّ خلاّق.

 

       كيف تبدأ ؟

       لا تعرف ! بالصِّدْفة. الصِّدْفة صَدَفة. فيها الجوهرُ غيرُ المُتَوَقَّع.

       من أين تبدأ ؟

       لا تعرف ! من كلّ "أين". إشراقة. صورة. فكرة. كلمة. نَبْضَة.

 

       لماذا تبدأ ؟

       لا تعرف ! لتفكّر. لتُدركَ. لتتخيَّلَ. لِتُحبَّ.

       الكلمةُ حُبّ. الكلماتُ حُبّ. الكتابةُ فعلُ حُبّ. وبالمعنى الأرحب : شموليّةً، خُصوبةً؛ عَموديًّا وأُفقيًّا معًا.

       الصِّدْفةُ والـ"أينَ" حدودٌ للمادّة فيك. للجسد. كلُّ جسدٍ بحدود. ما يجعلُه محدودَ القدرة. محدود الرَّغبة. محدود الفعل. محدود الأحلام. محدود الحُبّ.

       الصَّدَفةُ والإشراقةُ إختزان. إحتمال. مغامرة. كلُّ مغامرةٍ إنفتاحٌ للتَّوَقُّع. لِتَوَقُّعٍ قد لا يحصُل. بل هو لا يحصُل. المُتَوَقَّعُ يجبُ ألاّ يحصُل. يبقى عنصرُ المفاجأةِ قائما. الدّهشةُ اقتحامٌ جديد، للجديد.

 

       ماذا تكتب ؟

       هل تعرف ؟

       تكتبُ الواقع. الواقعُ "يُريكَ" العالم. الرّؤيةُ وصْف. في كلِّ رؤيةٍ بُعدٌ. إغترابٌ. إغترابٌ عن. إغترابٌ في. في "الاغتراب" بحثٌ. بحثٌ عن. بحثٌ في.

       تكتبُ الواقعَ، "واقعَك". لكلِّ فردٍ واقع. واقعُه. خاصٌّ به. مختلف. مخالف. متغيِّر. المتغيِّرُ احتمال. مُطْلَق. لا "واقع".

 

       تكتبُ الأحلام. الأحلام تَشَوُّقٌ ليس لما "يُرى". لما يُتَخيَّل. المُتَخَيَّلُ عَيْشٌ. عيشٌ حُرٌّ. إحساسٌ. إحساسٌ حُرٌّ. "دَغْدَغاتٌ" في المدى. مدى القلب. رغبةٌ تُخْصِبُ الحياة. بالأحلام تُحِبّ. وتَغْنى.

       تكتبُ الأحلامَ، أحلامَك. لكلِّ امرئٍ أحلام. أحلامُه. خاصّةٌ به. مختلفة. مخالفة. متغيِّرة. لكنَّ الأحلامَ ليست احتمالات. الأحلامُ حياة. حياةٌ جوهريّة. نبعُ كلِّ خَلْق. نَبْضُ كلِّ حرف.

 

       تكتبُ ما لا يُرى. ما لا تراهُ العينان، يَنْبِضُ به القلب. ما لا تشعر به الحَواسّ، يُفَجِّر الذَّوق. الذَّوْقُ يفوق الحواسَّ. الذَّوْقُ يُدركُ النُّورانيّ.

       بالذَّوْق تُدركُ غاياتِ كتابَتِكَ. تجعل ذاتَكَ تستنير بها، وبها تَهيم. تجعل الآخر يستنير بها، وبها يَهيم.

       بالذَّوْقِ تقذِفُ نفسَك في الأحلام. وتقذِف الآخر. بالأحلام تشتعل. تتجسَّد الأحلامُ واقعًا. تُعاشُ الأحلام بالتّخيُّل. التَّخَيُّلُ واقعٌ. واقع نفسيّ. هو الأهمّ.

       بالذَّوْق تصلُ إلى الإدراك. الإدراك المُعْتَمِل في الرّوح : الواقعُ، واقعُك، حلم. والأحلامُ، أحلامُك، واقع.

       يمتزجُ الواقعُ بالحُلْم، الحُلْمُ بالواقع، تكتمل الكتابة. تكتمل الحياة.

 

       تكتبُ ما يُرى. ما تراهُ العينانِ، يأتلقُ في الحَواسّ. المؤتلِقُ، في الحَواسّ، يُحَوِّلُ الجسدَ جحيمًا، جحيمًا نعيميّا. وأنتَ تكتبُ، تَحْيا النّعمتَيْن معًا. الجحيم أُولى. النّعيم نعمةٌ ثانية.

 

       تكتبُ ما يُلْمَس. ما تلمُسه اليدان، يختلج، به، الجسد. وله. يَعْمُر بالانفعال. بالحنين.

       الَّلمسُ بالعين، بالأذن، بالشّمّ، بالّلسان، بالقلب، بالرّغبة، بالدّهشة... يَغْنى بالصُّوَر. الصُّوَر سفَر. السَّفَر تَواصُلُ الأبعاد. تَدافُعُ المسافاتِ بالأزمنة. وبالخيال. الخيال ارتعاش. الارتعاشُ عشق. العشقُ تَداخُل الذّات بذاتها. تَداخُل ذاتَيْن مكتملتَيْن تَخْتَلِجان. تتخالجان. تتوالجان.

 

       هي ذي الكتابة.

       تَلِجُ الموضوع. أو يَلِجُك.

       تفكّر فيه. يقودُكَ، وأنتَ سادِرٌ، مُلْتَهِبٌ، مُتَّخَذ.

       إلى هذا الحدّ تُصبحان واحدًا.

       وإلاّ،

       فالكتابةُ "اغتصابٌ" للأدب.

 

       أيّتُها الكتابة !

       أيّتُها الكتابة !

       علِّميني جَسَدَكِ.

 

       غيرَ أنَّ هذا... حديثٌ آخر...

الجمعة 14 نيسان 2006

 

 

 
   
 

التعليقات : 10

.

08/12/2009

إيلي

آنّا/ماريّا!

كم أنّ الحقَّ إلى جانبك!

 محبّتي


.

07/12/2009

انا-ماريا ضو

هذه المقالة تجسيدٌ للكتابة... والكتابة تجسيدٌ للروح... للقلب... والقلب تجسيدٌ للإنسان... والانسان تجسيدٌ للاستمرارية... والاستمرارية تجسيدٌ للعلم والثقافة..

لذلك، بكل بساطة، يمكن القول أن الكتابة حياة... وسبب عيش


.

05/12/2009

إيلي

إلتفاتتُكَ، أستاذ حبيب، تُفرِحني.

 هنالك، بعدُ، مَن يقرأ كما ينبغي أن تكون القراءة إذا كنّا نريد أن نكون أمّةً حضاريّة!

محبّتي...


.

05/12/2009

إيلي

أشكر التفاتتك، أللغة كائن حيّ علينا الاهتمام به لئلاّ يترهّل.

 تحيّاتي


.

05/12/2009

حبيب حبيب

أكثر ما ينشر وأغلب ما يكتب على صفحات جماليا جميل ونقرأه .

  لماذا تبدأ ؟

لا تعرف! لتفكّر. لتُدركَ. لتتخيَّلَ. لِتُحبَّ.

لكن أما وقد كتبت عن الكتابة، فقد جلّت محبّتك لما تكتب وتوسّلت لها أن تعلمك جسدها ونعيد قراءة كتابتك.

كتبت عنها كفعل متشابك. متناغم بين العقل. الروح. القلب. الحلم، وكل الحواس وظرفية الكتابة. طقسها. علاقتها بالجسد. المحيط المادي والنواقل بينهما، ولكل يد تمسك قلماً دافع للكتابة وخصوصية.

قراءة كتابتك فيها كل الفائدة والمتعة.

أتمنّى أن أجالس هدوءك وأكسب من ثرائك.

كلّ الإحترام لك ولقلمك..

ولكلّ كتّاب وشعراء هذا الموقع الأدبي الجميل، شموعاً في ليل عشق المادة وغربة الروح.

شكراً


.

04/12/2009

AMAL N

لا أستطيع إلا أن أقول: شكرا أستاذ إيلي... فعلا مقال/تحفة...

 وكما دائماً، معنى ومبنى... جسد اللغة. الأمر مذهل


.

03/12/2009

إيلي

أشكر التفاتتَكِ الرّاقية، سيّدتي الأديبة سلام، وأقدّر قراءتَك... إنّها إضافة إلى ما جاء في مقالتي.

 محبّتي


.

02/12/2009

سلام كنجو

من أين تبدأ ؟

        لا تعرف! من كلّ "أين". إشراقة. صورة. فكرة. كلمة. نَبْضَة.

كان لا بدّ من إعادة القراءة لأكثر من مرّة امام هذا الوابل من الأفكار وهذا الدفق لسيل المعاني رغم إشراق الوضوح ولكن حتى يثبت الدرس.

نعم هي فيض تلقائي، وإلاّ كان المقال أشبه بباقة من الأزهار الإصطناعية

نعرف ذلك من تجربتنا ومن القارئ مرآة الكاتب.

وكان لا بدّ من وضع طوق من الياسمين كلمة شكر لكلّ من علمنا درساً بلا ثمن والشكر لا يكون إلاّ بالتعلّم وإضاءة شمعة إلهام جديدة

شكراً أستاذ.


.

02/12/2009

إيلي

ألأديبة سوزان

أملُكِ أملي، رجاؤكِ رجائي، فإنّ فنَّ الأدب ينتظر منّا الكثير...

أشكر التفاتتَك...

 محبّتي


.

02/12/2009

سوزان ضوّ صايغ

هي ذي الكتابة

       تَلِجُ الموضوع. أو يَلِجُك.

       تفكّر فيه. يقودُكَ، وأنتَ سادِرٌ، مُلْتَهِبٌ، مُتَّخَذ.

       إلى هذا الحدّ تُصبحان واحدًا.

       وإلاّ،

       فالكتابةُ "اغتصابٌ" للأدب.

أستاذ إيلي،

باتت حقيقة الكتابة بهذا الوضوح لك لتعلنها جواباً على أسئلة تحاصر أوراقنا مرّات ونحن في خضم معركة للخروج بموضوع، معركة، الانكسار فيها مضمون، لأنها كما قلت "اغتصاب" للأدب.

وحين الكتابة حاضرة، تلهف بحثاً عن أقرب ورقة وقلم، والانتصار مضمون.

مقالة مفيدة جدّاً، بالرغم من وضوحها تغرينا بإعادة قراءتها، وأرجو أن يكون ذلك معدياً، ليتعرّف كلّ منّا إلى مكانته ومكانه

مع محبتي


 

   
 

.