أيّتُها الكتابة... علّميني جَسَدَكِ !
إيلي مارون خليل
ما معنى أن تكتبَ ؟
بالتّالي: هلِ الكتابةُ فعلٌ إراديٌّ، أم أنّه فَيْضٌ تلقائيّ ؟
اَلأوّلُ جَهد، وفي كلّ جهدٍ مُمانَعَة. وهذا صِراعٌ بين الرَّغبةِ وعدمِ القدرة. بين الإرادةِ و"الاغتصاب".
أمّا الثّاني، فصِراعٌ بين العَفَويّةِ والمِثال. بين البَساطةِ والإتقان.
وهكذا، فالكتابةُ صِراع. الأهمّ أنّه صِراعٌ بين الذّات ورغبتِها في الأكمل. كلُّ كتابةٍ محاولةٌ. تَجَدُّدُ الكتابةِ، تَجَدُّدُ محاولات. ما يَعْني عدمَ "اقتناعِك" بعدُ، بما أنتَ، إليه، وصَلْتَ. بما كتبْتَ.
وما المَعْنى ؟
الكتابةُ شعورٌ بالمعرفة.
تكتبُ لشعورِكَ بالمعرفة. بمعرفةٍ ما. ولتجعلَ الآخر "يعرف".
تكتبُ لتُدركَ ذاتك الفرديّةَ والجَماعيّة. ولتدركَ الطّبيعةَ والكونَ والمصير.
كيف تُدرِكُ ؟
فكريّا، تُدركُ، وفنّيّا.
الإدراكُ الفكريُّ إدراكٌ للقشورِ، وبها.
والإدراكُ الفنّيّ إدراكٌ للجوهر، بالحَدْس.
الإدراكُ الفكريُّ عاجز. والفنّيُّ خلاّق.
كيف تبدأ ؟
لا تعرف ! بالصِّدْفة. الصِّدْفة صَدَفة. فيها الجوهرُ غيرُ المُتَوَقَّع.
من أين تبدأ ؟
لا تعرف ! من كلّ "أين". إشراقة. صورة. فكرة. كلمة. نَبْضَة.
لماذا تبدأ ؟
لا تعرف ! لتفكّر. لتُدركَ. لتتخيَّلَ. لِتُحبَّ.
الكلمةُ حُبّ. الكلماتُ حُبّ. الكتابةُ فعلُ حُبّ. وبالمعنى الأرحب : شموليّةً، خُصوبةً؛ عَموديًّا وأُفقيًّا معًا.
الصِّدْفةُ والـ"أينَ" حدودٌ للمادّة فيك. للجسد. كلُّ جسدٍ بحدود. ما يجعلُه محدودَ القدرة. محدود الرَّغبة. محدود الفعل. محدود الأحلام. محدود الحُبّ.
الصَّدَفةُ والإشراقةُ إختزان. إحتمال. مغامرة. كلُّ مغامرةٍ إنفتاحٌ للتَّوَقُّع. لِتَوَقُّعٍ قد لا يحصُل. بل هو لا يحصُل. المُتَوَقَّعُ يجبُ ألاّ يحصُل. يبقى عنصرُ المفاجأةِ قائما. الدّهشةُ اقتحامٌ جديد، للجديد.
ماذا تكتب ؟
هل تعرف ؟
تكتبُ الواقع. الواقعُ "يُريكَ" العالم. الرّؤيةُ وصْف. في كلِّ رؤيةٍ بُعدٌ. إغترابٌ. إغترابٌ عن. إغترابٌ في. في "الاغتراب" بحثٌ. بحثٌ عن. بحثٌ في.
تكتبُ الواقعَ، "واقعَك". لكلِّ فردٍ واقع. واقعُه. خاصٌّ به. مختلف. مخالف. متغيِّر. المتغيِّرُ احتمال. مُطْلَق. لا "واقع".
تكتبُ الأحلام. الأحلام تَشَوُّقٌ ليس لما "يُرى". لما يُتَخيَّل. المُتَخَيَّلُ عَيْشٌ. عيشٌ حُرٌّ. إحساسٌ. إحساسٌ حُرٌّ. "دَغْدَغاتٌ" في المدى. مدى القلب. رغبةٌ تُخْصِبُ الحياة. بالأحلام تُحِبّ. وتَغْنى.
تكتبُ الأحلامَ، أحلامَك. لكلِّ امرئٍ أحلام. أحلامُه. خاصّةٌ به. مختلفة. مخالفة. متغيِّرة. لكنَّ الأحلامَ ليست احتمالات. الأحلامُ حياة. حياةٌ جوهريّة. نبعُ كلِّ خَلْق. نَبْضُ كلِّ حرف.
تكتبُ ما لا يُرى. ما لا تراهُ العينان، يَنْبِضُ به القلب. ما لا تشعر به الحَواسّ، يُفَجِّر الذَّوق. الذَّوْقُ يفوق الحواسَّ. الذَّوْقُ يُدركُ النُّورانيّ.
بالذَّوْق تُدركُ غاياتِ كتابَتِكَ. تجعل ذاتَكَ تستنير بها، وبها تَهيم. تجعل الآخر يستنير بها، وبها يَهيم.
بالذَّوْقِ تقذِفُ نفسَك في الأحلام. وتقذِف الآخر. بالأحلام تشتعل. تتجسَّد الأحلامُ واقعًا. تُعاشُ الأحلام بالتّخيُّل. التَّخَيُّلُ واقعٌ. واقع نفسيّ. هو الأهمّ.
بالذَّوْق تصلُ إلى الإدراك. الإدراك المُعْتَمِل في الرّوح : الواقعُ، واقعُك، حلم. والأحلامُ، أحلامُك، واقع.
يمتزجُ الواقعُ بالحُلْم، الحُلْمُ بالواقع، تكتمل الكتابة. تكتمل الحياة.
تكتبُ ما يُرى. ما تراهُ العينانِ، يأتلقُ في الحَواسّ. المؤتلِقُ، في الحَواسّ، يُحَوِّلُ الجسدَ جحيمًا، جحيمًا نعيميّا. وأنتَ تكتبُ، تَحْيا النّعمتَيْن معًا. الجحيم أُولى. النّعيم نعمةٌ ثانية.
تكتبُ ما يُلْمَس. ما تلمُسه اليدان، يختلج، به، الجسد. وله. يَعْمُر بالانفعال. بالحنين.
الَّلمسُ بالعين، بالأذن، بالشّمّ، بالّلسان، بالقلب، بالرّغبة، بالدّهشة... يَغْنى بالصُّوَر. الصُّوَر سفَر. السَّفَر تَواصُلُ الأبعاد. تَدافُعُ المسافاتِ بالأزمنة. وبالخيال. الخيال ارتعاش. الارتعاشُ عشق. العشقُ تَداخُل الذّات بذاتها. تَداخُل ذاتَيْن مكتملتَيْن تَخْتَلِجان. تتخالجان. تتوالجان.
هي ذي الكتابة.
تَلِجُ الموضوع. أو يَلِجُك.
تفكّر فيه. يقودُكَ، وأنتَ سادِرٌ، مُلْتَهِبٌ، مُتَّخَذ.
إلى هذا الحدّ تُصبحان واحدًا.
وإلاّ،
فالكتابةُ "اغتصابٌ" للأدب.
أيّتُها الكتابة !
أيّتُها الكتابة !
علِّميني جَسَدَكِ.
غيرَ أنَّ هذا... حديثٌ آخر...
الجمعة 14 نيسان 2006