3

:: ألفنُّ والكَهنوت ::

   
 

التاريخ : 08/11/2009

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1195

 


 

ألفنُّ والكَهنوت

إيلي مارون خليل

 

 

لعلَّ الفنّانَ، في بعض مَن هو وما هو، رجلُ كهنوتٍ بالمَعنى الأرقى. ورجلُ صِدقٍ بالمفهوم الأكثرِ جرأةً. ورجلُ رؤيا بالنّبرةِ الأكثرِ أبعادًا. ألدّليلُ؟ حياتُه الشّفيفةُ حتّى النّورانيّة. تَراه يحيا أكثرَ ممّا يعيش. تَراه مُخترَقا بِذَرّات الضّوءِ، يكاد يكونُ مَمْحُوّا فيها، ذائبًا. وتكاد تؤلِّفُ ذاتيّتَه. تؤكِّدُهُ حُلمًا يمشي، وعيناه إلى الأسمى: ذاتًا، عَيْلةً، جَماعةً، وطنًا، إنسانيّةً، إلى حيثُ لا انتهاء. ويَقرِنُ ذلك كلَّهُ، بالحُبَّ، بالتّسامي، بالتّسامُح، بالإرادة، بالوعي، بالنّضج، بروح المسؤوليّةِ المُحِبّةِ الحيّةِ المُحيية.

 

وما علاقةُ الفنِّ بالكهنوت؟ كِلاهما تَكريسٌ وتَكَرُّس. تَكريسُ الذّاتِ، الذّاتِ كلِّها، للخير للحقِّ للجَمال. وتاليًا هو التَّكَرُّسُ التّامُّ، المُطلَقُ، للخِدمة، بتضحيةٍ سخيّةٍ مُشِعّةٍ، مشبَعةٍ بالقِيَم، تَرْقى بها، دومًا، وتُحاولُ أن تُرَقّيَ معها، فيها، وبها، الآخَرَ، أيَّ آخَرٍ: فردًا أو جماعةً، تعرفُه أو لا تعرفُه، قريبًا أو بعيدا. وهذانِ: ألتَّكريسُ والتَّكَرُّسُ، ينطلقان من طبيعةٍ منعَمٍ عليها بالامّحاء المُشرِقِ، بالذَّوَبانِ المُخصِبِ، خِدمةً وبَلْسَمةً.

 

وما علاقةُ الفنِّ بالصِّدق؟ لا يكون الفنُّ فنًّا، إلَّم يلتزم بصِدقِ الأحاسيسِ والفِكَرِ، عيشًا وكتابةً. والصّدقُ راحةٌ مُريحة، طُمأنينةٌ مُطَمْئنة. والصّدقُ وضوحُ نفْسٍ ونفَس؛ وضوحٌ يُنيرُ الذّاتَ، يجعلُها مَنارةً إليها يفيءُ البعيدونَ، الهائمونَ، التّائهون. بالصِّدقِ تطهُرُ الكينونةُ فينا، فإنْ حَدَث، نُسرِع في مُلاقاة الطُّهر الأكبر، الأعمقِ، الأكمل. وهنا الجرأةُ التّامّةُ. لا تَراجُع ولا خَجَل. لا تَرَدُّدُ ولا حَيرة. ألجرأةُ، هذه، والصّدقُ، هما اقتحامٌ مُحِبٌّ لجوهر الكائنات، إذًا هما المعرفةُ الحرّةُ، الشّاملةُ، الخادمة.

 

وما علاقةُ الفنِّ بالرّؤيا؟ ألفنُّ استِجابَةٌ تَلقائيّةٌ لرؤيا شيّقةٍ، شفيفةٍ، في ذاتيّةِ الفنّانِ. والرّؤيا اكتشافٌ وكَشْفٌ. وضوحُ رؤيةٍ ذاتيّةٍ، كونيّةٍ، يعبِّر عنها الفنُّ بأصالةٍ وتَوَهُّج. معًا: ألفنُّ والرّؤيا، هما إيقاعُ الرّوحِ الغنيّةِ، العميقةِ، الصّادقةِ، الخصيبة. فنٌّ ولا رؤيا؟ وقوعٌ في إطنابِ الثّرثرات. رؤيا ولا فنّ؟ هَذْرٌ وفوضى. ألفنُّ، في أرقى ماهيّتِه، تِقنيّةٌ نِظاميّةٌ لا خروجَ عنها أو منها، وإلاّ فلَغْوٌ لا أهمّيّةَ له، ولا أبعاد.

 

هكذا يبدو الفنّانُ الحقيقيُّ، (وهو نادرٌ هذه الأيّام)، كاهنًا، صادقًا، رؤيويًّا. ألكَهنوتُ نِعمةٌ. نعمةُ امّحاء الذّاتِ بالآخَر الّذي على صورة اللهِ ومِثالِه، من أجل هذا الآخر. والصّدقُ محبّةٌ. والمحبّةُ، هي أيضًا، امّحاءُ الذّاتِ بالآخَرِ الّذي على صورةِ اللهِ ومِثالِه، من أجلِ هذا الآخَر. والرّؤيا نِعمةٌ ومحبّة. نعمةٌ أن يرى الفنّانَ ما لايراه الآخَرون، ومحبّةٌ أن يُعْلِنَه، بِجَماليّةٍ أخّاذةٍ تُثيرُ وتوحي، تُرشِدُ وتُعَلّم. والكنيسة أمٌّ ومُرشِدة. فالفنُّ، إذًا وهكذا، كنيسةُ ذاتِه. كنيسةُ روحٍ لا حجر، كنيسةُ ارتقاءٍ يُرَقّي، يُفعِمُ القلوبَ إيمانًا بالقِيَم، والنّفوسَ إرادةً بالعمل عليها. أفَغَريبٌ أن يكونَ الفنّانُ الذّائبُ في فنِّه، شبيهَ رجلِ الكَهنوتِ الحقيقيِّ، المُحِبِّ، السّامي، المُتَسامِحِ، الرّاقي، المُشرِق: نفسيّةً وشخصيّة، فكرًا وعاطفةً!؟ ألفنُّ ذَوَبانُ الفنّانِ/الإنسانِ بالخيرِ الحقِّ الجَمال، وكذلك الكهنوت. ألفنُّ "كَهنوتُ" الجَمال. ألكهنوتُ "فنُّ" الارتقاء. كلاهما ارتقاءٌ. كلاهما يُرَقّي! كلاهما مِثال!

 

ألغريبُ أن أطرحَ السّؤال. فالفنّانُ "كاهن" الفنّ. يكرِّسُ ذاتَه له. من أجله. إلى الأبد. والمُكرِّسُ مُكَرَّس. "نعمتُه" تُكرِّسُه. تفعل فيه. "تُشعِلُه". تُشرِعُ روحَه على الآفاق كلِّها، فيها، وإليها، وبسعادة القَلِقِ الرّائي. والكاهنُ "فنّانُ" الكهنوت. يكرِّس ذاتَه له. من أجله. إلى الأبد. وهو مُكَرَّس. "نعمتُه" تكرِّسُه. تفعل فيه. "تُشعِلُه". تُشْرِعُ روحَه على الآفاقِ كلِّها، فيها، وإليها، وبسعادة الزّاهد الرّائي. ألقلقُ الفنّيّ يرافقُ الزّهدَ الكهنوتيّ. فنّيًّا: ألقلقُ دافعٌ دائمٌ، مُهمٌّ، للخلق، للإبداع. كهنوتيًّا: ألزّهدُ حالةٌ دائمةٌ، مهمّةٌ، للتّرَقّي، اقترابًا من مِثال. 

 

ألغريبُ ألاّ أتحدّثَ عنهما. هما، معًا، ملءُ الحياةِ الغنيّةِ، الجميلةِ، السّعيدةِ/المُقلِقة، المطمئنّة/المعذِّبة، المسامِحةِ/المراقِبة، الفائضةِ/المكتمِلة، الذّائبة/المميَّزة. هكذا خصوصًا، ودائما، هنا وكلّ هنا، هناك وكلّ هناك، إلى الأبد. فالفَنّان المُبدِعُ، كبيرٌ ليس على مساحة محدَّدة، ومسافة محصورة، وزمنٍ معلوم. بل إنّه فنّانُ المساحات، المسافات، الأزمنة.

 

لماذا؟ لأنّه كبيرٌ وطنيًّا وإقليميًّا وعالميًّا، نَكبرُ بأداء التّحيّةِ له. نكبر بكوننا عرفناه، عاصرناه، استمعنا إليه، "لمسناه"... فكيف إذا كان قد تَعَرّى من جسدِهِ والتحقَ بالنّورِ الأسمى؟ لأنّه، حين هو كذلك، يكون "اكتمل". فنعرف قيمتَه أكثر، نُقَدِّر "عطاءه"، "ذوَبانَه" في ذاته، في "عمله"، من أجل ذاتِه: فرديّةً وكونيّة؛ جَماعيّةً وشخصيّة. هذا الذّوَبانُ الكلّيُّ، المُشرِقُ، يُنيرُ المحيطَ، فالأبعد، وإلى ما لا نهاية. حينذاك، نحيا بنور الفنّ والكهنوت.  نفخَرُ بانتمائنا إلى الوطن الفنّيّ/الكهنوتيّ. ولأنّنا نُحِبُّ الفنّانَ/الكاهنَ، ونبقى نُحِبُّه، للقِيَم الّتي نَثَرَ في أعمالِه، وينثر، وبَذَر ويبذر: شِعريِّها والموسيقيِّ، إنسانيًّا ووطنيًّا، وسيطلع البِذارُ، ينمو، يُزهر، يُثمرُ... وسوف يكون الحصاد وفيرًا... وسيكثرُ الفَعَلة.

 

أمّا ما نتعلّمُ منه؟ فكثيرٌ كثير، ليس أقلّه كلامي على الفنّ والفَنّان والكهنوت. لقد كنتُ أتحدّث عنه: فنّانًا/كاهنًا، كاهنًا/فنّانًا. هو الفنّانُ، الكاشفُ، الصّافي؛ هو الكاهنُ، الصّادقُ، الرّؤيويّ؛ هو المثقَّفُ المُحِبُّ الجريء؛ هو الواضِحُ الشَّفيفُ النّظيف.

 

ونتعلّم، بعدُ، البَساطةَ، التَّواضُعَ، الأنَفَةَ، الجِدِّيّةَ، الوطنيّةَ، الإنسانيّة... ولا نزالُ، وسنبقى، نسترجعُ شِعرَه وألحانَهُ وأغنياتِهِ ومسرحيّاتِه، في مواقفِنا كلَّ يوم. فهو النّاطقُ باسمِ شعبِه، باسمِ وطنِه، باسم مُحيطِه، باسمِ الإنسانيّةِ، مُنادِيًا بالحقّ، بالعدالةِ، بالحرّيّة. وبالمحبّةِ والسّلام.

 

ألفنُّ العظيمُ؟ إبنَ النِّعمةِ والصّدقِ والرّؤيا يبقى. وابنَ الكهنوتِ بالمعنى الأرقى: ألامّحاءِِ في الآخَرِ، خدمةً لهذا الآخر، لهذا الزّمانِ، وكلِّ زمان.

                                                       

ألثّلاثاء 25 آب 2009

(لونغ بيتش/كاليفورنيا)

                                                     

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.