أنتَ تقرأ ؟ فأنتَ إنسان !
إيلي مارون خليل
ألقراءةُ؟ أن تُصْغي إلى الكتاب، أن تُنْصِتَ إلى التَّعابير والكلمات والحروف، وما بينها. أن "ترى" ما بين السُّطور، و"تسمعَه"، و"تشمَّه"، و"تتذوَّقَه"، و"تلمِسَه"!
كيف يتَأتّى لك ذلك؟ بأن تكونَ "حاضِرًا" كلّيَّ الحضور. وكيف تكونُ كلِّيَّ الحضور؟ بأن "تنقطعَ" عن كلِّ ما "يُلَطِّخُ" حَواسَّك. كلِّ ما يجعلُك مُتَّخَذًا ب"الخارِج". كلِّ ما يُلهيك.كلِّ ما يجعلُك قليلَ التَّركيزِ، أو فاقِدَه. فالقراءةُ الجِدِّيَّةُ "إلهةٌ" لا تقبل الشِّرْكَ معها. تُريدُك، كُلَّكَ، لها. تُريدُك مُنْقَطِعًا إليها، مُتَّخَذًا بها، شَغوفًا، مندهِشًا، دائمَ الانجذاب.
فما هي هذه "الإلهةُ"؟
إنّ القراءَةَ، عِلميًّا، هي الإلمامُ بالحروفِ، كرموزٍ، ومعانيها، وما تختزنُ من رؤًى و فِكَرٍ، من أخيلةٍ وصُوَر... وهي، أيضًا، "عِلْمُ" تفكيكِها و"تفتيقِها" و"تفجيرِها"، لتتشظّى وينكشِفَ ما تحملُه، وتُخفيه، في حناياها، وبين ثناياها، من "أرواحٍ" و"ألوانٍ" و"أسرارٍ" و"ألغاز"...
والقارىءُ المُثَقَّفُ "يرى"، في ما يقرأ، و"يسمعُ" و"يشمُّ" و"يتذوَّقُ" و"يلمِسُ"، ما لم "يره" الكاتبُ نفسُه، ولم "يسمعْه" ولم "يشُمَّه" ولم "يتذوّقْه" ولم "يلمِسْه". فالقراءةُ "تَقْشيرٌ" للكلماتِ والتّعابيرِ، في ظِلالِها وأشباحِها وروائحِها وألوانِها وعوالِمِها كلِّها. تجديدٌ للمعاني، للألفاظ. إستخلاصٌ لما يستطيعُه القارىء. فليست، إذًا، إعادةً لما أراده الكاتب. أهو "أراد"، فِعْلاً؟ أهو يأخذُ الكلماتِ حيث يريدُ، كيف يريدُ، متى يُريد؟ أم إنَّ الكلماتِ تجري، تَسيلُ، كما تشاء، وتَجرُفُه؟ ألكلماتُ تحيا، والحيُّ لا يؤطَّر. للكلمات روحٌ، والرّوحُ لا تُسْجَن. فالقراءةُ ليست ما "نجدُ"، إنّها ما "نكتشِفُ". والاكتشافُ براعةٌ تُحسَبُ للقارىءِ، لا للكاتب. ألكاتبُ "قال" ما أراد مرّةً واحدة. القارىءُ "يُقَوِّلُه" جديدًا كلَّ مرّةٍ يعاوِد القراءة. ألقارىءُ، هكذا، يُعيدُ "الكتابةَ"، لا القراءةَ فحسْب. ألقارىءُ المُثَقَّفُ مُبدِعٌ آخَر للنّصّ.
*******
ولِمَ القراءةُ ؟ لِمَزيدِ من الخَلْقِ. لِمَزيدٍ من الإبداع. لِمَزيدٍ من المُشارَكةِ. في القراءةِ، لا "نُقَوِّلُ" الكاتِبَ فقط، بل نُشارِكُه فِكَرَهُ، أحاسيسَه، انفِعالاتِه... نُشارِكُهُ رؤاهُ، تَصَوُّراتِهِ، أذواقَهُ... نُشارِكُهُ شَخصيَّتَه، وِجْدانَهُ، نفسيّتَه... في المُشارَكَةِ تَجانُسٌ أو تَعاكُس. في الحالتَيْنِ حالةٌ حميميَّةٌ عذبةٌ، صافيةٌ، نَضِرة. في الحالتَيْنِ تَألُّقٌ للذّهن، انفتاحٌ على المَدى الأرقى. في الحالتَيْنِ تَوَهُّجٌ للحواسّ بقواها جميعا.
في بيتِك مكتبة؟ يا لَسعادة مَن يُقيمُ معك. ألكتابُ يَحمي. يُحَصِّن. ألكتابُ يُغْني. بالخيرِ الحقِّ الجَمالِ يُخْصِب.
إلى جانب مخدَّتِك كتابٌ؟ يا لَهناءتِك في النَّوم. تسبحُ في الأحلامِ الهادئةِ، الحُلوةِ، النّاعِمةِ، الأخّاذة.
إلى طاولتِك كتابٌ؟ يا لَلعِشرة الحَسَنةِ معك. إنّها العِشرةُ الأليفةُ، المُطْمَئنَّةُ، المُسالِمة. العِشرةُ الوادِعةُ، الطَّيِّبَةُ، الأنيقة.
أن تَختارَ كتابًا، هو أن تَختارَكَ القِيَم! هو أن تُقيمَ في القِيَم! فَحياتُك فنٌّ مُتَّخَذٌ بالقِيَم، مُشْرِقٌ بالمحبّة. وأن... تَحيا السَّلام!
تكون، هكذا، انتبهتَ، إلى كون القراءةِ عمليّةً ضروريّة. إنّها عمليَّةٌ إنسانيَّةٌ ثَرَّةُ الأهدافِ والغايات. تقرأ؟ تتَسلّى، تستفيد، تَبْتَهِج. تَنشغلُ حواسُّك أحلى ما يكونُ الانشِغال. تَتَيَقَّظُ أعمقَ يَقَظة. تَتَفَتَّحُ أبعدَ تَفَتُّح. تُثْمِرُ أينعَ الثِّمار. ويَشتعِلُ وِجْدانُك أوسَعَ اشتِعالٍ وأحَبَّه! فأنت مُنفتِح، مُتَلَقٍّ، مُتَحَفِّز. ألكونُ، أمامك، قلبٌ، وأنت الحبُّ كلُّه! فأنت تقرأ بِحَواسّك جميعِها: بالأذن "تُنْصِتُ"، بالِّلسانِ "تَذوقُ"، بالبصرِ "تكتشفُ"، بالأنفِ "تَشُمُّ"، باليدِ "تُصافِح". مَن يقولُ إنَّ الكتابَ ليس كائنًا حَيًّا، "يُنْصَتُ" إليه، "يُذاقُ"، "يُكتَشَفُ"، يُشَمُّ، يُصافَحُ بالحَنان الدّافِقِ، الّلاّفِحِ، الفَتّان؟!
تقرأ؟ فأنتَ تبني شخصيّةًً واثِقة. ألثِّقةُ قُوّة. شخصيّة واعية. ألوعْيُ رؤيا. شخصيّة ناضِجة. ألنُّضْجُ إيناع. شخصيّة مُدْرِكة. ألإدراكُ مَسؤوليّة. تقرأ؟ فأنتَ تبني الشّخصيَّةَ الأبهى. يا لَبَهائك، وبَهاءِ مَنْ معك يُقيم!
تُحِبُّ الكتابَ؟ تُحِبُّ القراءةَ؟ فها أنتَ سعيدٌ مدى الحياة! أليستِ السَّعادةُ "عَدْوى"؟ فيا لَسعادةِ مَن معك، و... مَدى الحياةِ أيضًا! أترفُضُ السّعادةَ؟ ومَن معك، أهو يرفُضُها؟ أيُمكِنُ أن تُرفَضَ مِثلُ هذه السّعادة!؟
*******
أهذا هو، بالتّحديدِ، ما رَغِبْتُ في "قَولِه"/"كتابتِه" حين بدأتُ؟ لا أعرفُ! حَقًّا إنّي لا أعرف! فالكتابةُ استدراجٌ لذيذ إلى حيث لا نعرفُ ولا نُخَطِّطُ وقد لا نحلُم! والكتابةُ كذلك... لكنَّ القراءةَ هي "معرفةُ" عدمِ معرفةِ الكاتب! أليسَ كذلك!؟ والكتابةُ والقراءةُ، معا، أليسا طريقَ الإحساسِ الاكتشافِ الحياةِ الخُلود!؟
1/10/2008