3

:: ألكتابةُ بِصَوتٍ عالٍ ::

   
 

التاريخ : 03/10/2009

الكاتب : ايلي مارون خليل   عدد القراءات : 903

 


  

ألكتابةُ بِصَوتٍ عالٍ

ايلي مارون خليل

 

 

أن تكتبَ هو أن تُفَكِّرَ، عاليًا.

 

أن تُفَكِّرَ عاليًا، يعني أنّكَ تتمتَّعُ بالجرأةِ، بالالتزامِ، بالحُرِّيَّة..

 

أن تتمتَّعَ بالجرأةِ، هو شعورُكَ بالثِّقة، ثقةِ غيرِك بك، وثقتِك بنفسِك. ثقةُ الآخَرِ، تكونُ اكتسبتَها عَبْرَ شخصيَّتِكَ، شخصيَّتِكَ العارفةِ، المُثَقَّقَةِ، النّاضجةِ، المُشْرِقَةِ في مُحيطِها، وعليه: وَعْيًا، مَسؤوليَّةً، محَبَّةً، تَسامُحًا.. والثِِّقَةُ بالذّاتِ، أنتَ لا تكتَسِبُها! هي، منك، تنبُع. فيك تفور. وأنت، فيها، مُقيمٌ، سادِرٌ، مُطْمَئنٌّ..

 

أن تتمتَّعَ بالالتزامِ، هو أن تَفيضَ ذاتُك، بِنُضْجِ مسؤوليَّتِها، ووَعْيِ دَورِها: خَلْقًا وخُلُقًا، عليكَ وفي مُحيطِك. فَيْضُ الذّاتِ يجعلُك شريكَ الآخَرين، تُشْرِقُ ذاتُكَ عليهم، وذواتُهم عليكَ، فأنتَ أجَلُّ سعيدٍ وأفضلُ مُبْتَهِج! ونضجُ المسؤوليّةِ لديكَ، يعني أن تَقتحِمَ دَوْرَكَ اقتِحامًا، مُتَحَمِّسًا، مُلْتَهِبًا، فائضَ النُّبْل. أمّا وَعْيُ الدَّوْرِ، فَغَوْصٌ في أعمق الأعماق، تَحْديدًا وتحليلا واستنتاجًا. ذلك كلُّه، من أجل إنسانيّةٍ أكثرَ رُقِيًّا، أعمقَ أبْعادًا، أبْعَدَ آفاقا.

 

تبقى مَسْألةُ الحُرِّيَّة.

 

أن تَتَمَتَّعَ بالحُرِّيَّةِ، هو أن تُشْرِعَ روحَكَ على كلِّ مَدى، ما بعدَ أيِّ مَدار، كلَّ آنٍ، وأينما كان. هو أن تُقْلِعَ مع الرِّياح، في كلِّ اتِّجاه، ما بعدَ أيِّ أفق، زارِعًا فِكْرَك، ناثِرًا عاطفتَك، فاتِحًا نوافذَ خيالِك، مُلَوِّنًا صُوَرَكَ بألوان الحياة: عميقةً، هادرةً، غنيَّةً، خَصبة. هو أن تقتحمَ ما تريدُ، أن لا رقابةَ تردع، لا سلطةَ تمنع، لا وصايةَ، في عوالمِكَ، تسطع.

 

ألجرأةُ، الالتزامُ، الحُرِّيَّة.. ثُلاثيُّ الإبداعِ الرَّصينُ المُحَفِّزُ، العاصِفُ فيكَ هوًى/هَوَسًا ؛ ألمُقْلِقُ، المؤلِمُ، الخالِق ؛ ألدّافِقُ، المُهَنْدِسُ، الصّائغ.. كيف لا، والكتابةُ تَنَفُّسٌ صِحّيٌّ عاصفٌ، حالِمٌ، راءٍ..؟ كيف لا، والكتابةُ عِشْقٌ وعاشِقٌ ومعشوق..؟

******

 

أن تكتُبَ، هو أن تحيا حياةً أنتَ تشاؤها! تبتغيها وتُخَطِّطُ لها، بكلِّ ما فيك من غبطةٍ وعزم. كتابةٌ بها تَحْلُمُ، وإليها تَتوقُ، وفيها تستغرِقُ، بكُلِّيَّتِكَ، واعيةً وغيرَ واعيةٍ، في الآن عينِه! كتابةٌ كلماتُها نبْضُ قلبِكَ دفّاقًا، تعابيرُها نحْتُ ذَوْقِكَ مُتَوَقِّدًا، روابِطُها التقاطُ أنفاسِكَ حارَّةً، علاماتُ وَقْفِها لُهاثُكَ مُلْتَهِبًا.. كتابةٌ تَفيضُ بكَ، وبها، أنتَ، تَفيضُ كائنًا سَوِيًّا، مُرتاحًا، مُسالِمًا، مُضيئا..

*******

 

أن تكتُبَ، هو أن تَتحَرَّرَ وتُحَرِّرَ!

 

أن تَتَحَرَّرَ، يعني أن تسترسِلَ في زوايا نفْسِكَ ونفَسِك، في خَبايا وِجْدانِكَ، في خَفايا ذِهنِكَ، في تَلافيفِ دِماغِكَ، في ألغازِ ذاتِك، كُلِّها، في المسافاتِ الخبيئةِ فيك.. مُشْرِعًا فكرَكَ، قلبَكَ، والحَواسّ.. على كلِّ احتمال..

 

أن تسترسِلَ، هكذا ودائمًا، فأنتَ تضعُ نفْسَكَ، كامِلَةً، في مَهَبِّ رياحِ الاحتمالات: إحتمالاتِ الصِّراع، إحتمالاتِ التَّشَفّي، إحتمالاتِ المُواجَهة، التَّعَدّي، التَّحَدّي، الانقلاب..

 

هكذا ودائمًا، أنتَ تجعلُ كِيانَكَ، كلَّهُ، عاريًا وفي عُرْيٍ موهِجٍ، موحٍ.. أنتَ تسلُخُ، عنكَ، نسيجَكَ الاجتماعيَّ، البيئيَّ، الطَّبَقيَّ، الدّينيَّ، السّياسيَّ.. الّذي أُريدَ لكَ، أُشيعَ عنكَ، حُسِبْتَ عليه، أُغْرِقْتَ فيه.. وأنتَ قد لا تشاء!

 

فالإنسانُ لا يَقدِرُ على أن يكونَ ما هو. ما يريد. ما يحلُم.. ألإنسانُ يُخْلَعُ عليه ما يُرادُ له. ما يُحْسَبُ أنّه فيه وعليه. ألآخَرُ يُلْبِسُكَ ما يشاؤه هو لك. وما يشاؤه قد لا يناسبُك. يُناسِبُه هو. فتحيا، في باطِنِكَ، صِراعًا غريبًا. أنتَ تحيا حياتَيْن: واحدةٌ لك، حقيقيّةٌ تُحِبُّها وتستلهمُها وترتاحُ فيها وإليها؛ وثانيةٌ هي الّتي يشاؤها، لك، الآخَرون. وتقضي عمرَك مُزدَوِجًا، هاربًا من الشّيْءِ، واقعًا فيه! تقضي عمرَكَ تصارعُ ذاتَيْكَ، مُشَلَّعًا، مُخَلَّعًا، مُفَكَّكًا، مُرْتَبِكا.. لا تستقرُّ على حالٍ، ولا تسعَدُ في حال!

*******

 

أن تُحَرِّرَ، يعني أن تعي مسؤوليَّةَ كَوْنِكَ مُثَقَّفًا، رائدًا، قادرًا.. لا يأسِرُكَ سجنٌ، لا يُغلَقُ عليكَ بابٌ، لا تُُكَبَّلُ وراء أسوار..

 

مسؤوليَّتُكَ الواعيةُ، تَحُضُّكَ على الكتابة. وإلاّ لِمَ أنتَ مسؤول!؟ عَمَّن، أنتَ مسؤول ؟ عَمَّ ؟ حَتّامَ ؟ ما معنى المسؤوليّة، ولا ممارَسةَ مسؤولة؟

 

وثقافتُكَ تستمدُّ قيمتَها، أهمِّيَّتَها، دَورَها، كَينونتَها.. من نسجِها أمامَ الجميع، كلماتٍ مُضيئةً، تعابيرَ مُوَقَّعَةً، صُوَرًا موحِيَةً، فِكَرًا شخصيَّةً، جديدةً، عميقةً، مُبْتَكَرة.. عاطفةً قويَّةً، صادِقةً، غنيَّةً، خِصبة.. خيالاً خَلاّقًا، مؤثِّرًا فاتحًا آفاقًا جديدةً، مُزَهِّرةً، يانعة.. ما قيمةُ ثقافتِكَ إنْ هي بقيت، فيكَ، مُخْتَزَنة، ولم ترَ النّورَ، ولم يقرأْها أحد.. لِتُثيرَ، فيه، احتجاجًا أو رفضًا، لِتُشيعَ، فيه، سرورًا أو قبولا؟..

 

وريادتُك.. إنْ هي إلاّ استِباق. فرحُ الاستباق. حديثٌ عن جديدٍ لم يحدث بعد. وحين يتحقَّقُ، تَكسَبُ صِفَةَ الرِّيادةِ/النُّبوءة! ريادتُكَ، هذه، ميزةٌ فيكَ ولك. قدرةٌ. لا يتميَّزُ بها السِّياسيُّ.. وهو يسيرُ، بالشَّعبِ وبالبلدِ، إلى.. مَصالحِه! وأنتَ تسيرُ إلى مصلحةِ الشَّعبِ والبلد.. شَتّانَ!

 

وقدرتُكَ؟.. إنّها حُلمُكَ/رَغبتُكَ/عَزْمُكَ وأنتَ في "مَعمَعة" عملِك. في ساحِ كتابتِك. أنتَ تُنَفِّذُ؟ فأنتَ، إذًا، ذو قدرة. لا قدرةَ من دون تنفيذ. لا أهَمِّيَّةَ لشيءٍ لا يحصُل. ألإرادةُ اقتِرانٌ زاهٍ بالعمل! وإلاّ.. كيف تكونُ إرادة!؟

*******

 

أن تكتُبَ.. هو أن تُفَكِّرَ عاليًا، وبلا خوف ٍ من أيِّ.. من أيَّةِ.. فلا قمعَ من خارجٍ أو داخلٍ.. إنّما استسلامٌ تامٌّ، كُلِّيٌّ، واعٍ، غيرُ واعٍ.. ولا تَوَقُّف.. حتّى الاندفاقةِ الأخيرة.. هل من أخيرة!؟

الأربعاء 12/11/2008

 

 

 
   
 

التعليقات : 4

.

08/10/2009

إيلي

إهتمامك بالموقع، واحترامك له، كما تنويهك بمقالتي... أمورٌ تسعِدني.

أرجو أن يستمرّ التّواصُل؛ حقًّا إنّ الكتابة حوارٌ دائم، وعبر الأجيال، لا ينتهي، خصوصًا أنّه راقٍ!


.

07/10/2009

amal n

اقول إني أحترم هذا الموقع لتنوّعه وغناه. وإني أنوّه هنا بمقال الأستاذ ايلي مارون خليل لعمقه وجدّته وطريقة سبك أسلوبه المميّز دائماً.

مع المحبة والاحترام


.

05/10/2009

إيلي

أشكر مرورَكِ المثقَّف، سيّدتي الأديبة سوزانّ، مثل هذه الالتفاتة العَطِرة، تغمر بالنّور، بالنّبض، بالحياة... تدفع، بعد، إلى كتابات تالية لانهائيّة...

مع محبّتي


.

04/10/2009

سوزان ضوّ صايغ

لا

لا أخيرة في الكتابة

فالأوراق البيضاء مساحات مشرّعة على رغبة دفينة بالوصول إلى الآخر

والأقلام الممتلئة  سفينة دائمة الجهوزية للإبحار صوب موانئ لم تُسْتكشف بعد.

تحليل جميل جداً يلقي الضوء على أصدق ما يمكننا القيام به في رحلتنا القصيرة عبر الزمن.

مع محبتي

سوزان


 

   
 

.