3

:: ألشِّعر والشّغَف والنّشوة ::

   
 

التاريخ : 09/09/2009

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1288

 


 

ألشِّعر والشّغَف والنّشوة

إيلي مارون خليل

 

 

... وعلى الرّغم من ذلك، فالكلمةُ سِجن، وسَجن. حين يحاولُ الشّاعرُ أن "يصوغ" أحاسيسَه، عواطفه، فِكَره، رؤاه، بَيانه... يكونُ يحوك سِجنا لها، عَبْر الكلمات. يعرف ذلك. ويبقى يحاول. يريد كلَّ محاوَلةٍ، أفضلَ من سابقتها. صحيح، وضروريّ. ومن هنا أهمّيّةُ "اقترافِه" تلك المحاوَلات، "ألاقتراف" النّبيل، الجميل! يا له "خَلقًا" نفسيًّا، روحيًّا، جسديًّا، معًا، واعيًا وغير واعٍ، معًا، ومعًا "تُرى" الأمورُ، تتدفّقُ، تتسابقُ، تتناسَلُ، تتفرَّعُ، تمتدُّ، تُزهِرُ؛ ويشاؤها، الشّاعرُ، تُثمِر ثمرًا طيِّبًا، وفيرًا. وفي هذا عذابُه ولَذّتُه. تَعبُه وعَنادُه. حزنُه وشوقُه. عَدَمُ رضاه ورِضاه. وهذه "مُتعةٌ" وأيُّ "مُتعة"! بل هي "المُتعةُ الكلّيّةُ" الّتي يبحث عنها الشّاعرُ، ويُحبُّ أن يحيا، على الرّغم من كونها "مُتعةً مأسويّة"! 

 

يَسعَدُ، في هذا كلِّه، ولا يَسعَد. لا يكتفي بشيء. ألعذابُ ناقصٌ، وكذلك اللذّة. ألتَّعَب ناقصٌ، وكذلك العَناد. ألحزن ناقصٌ، وكذلك الشّوقُ، وعدَمُ الرِّضى والرِّضى، حتّى السّعادةُ وعَدَمُها. ما هو غيرُ النّاقص؟ أللاموجود! أللاموجودُ اللايُرى. أللايُحَسّ. أللايُشعَر به. حينئذٍ لا هو ناقصٌ، ولا هو مكتمل. ألفَراغ. فالشِّعرُ، هنا، وجهٌ من وجوه "المعنى"، وجهٌ من وجوه مَلء الفَراغ، ولو انّه "الفَراغُ البهيّ"! ألشِّعرُ محاوَلةٌ للاكتمال، للكمال، مع أنّها ليست كاملة، ولن تكون. جمالُها في أنّها كذلك. ألمحاوَلةٌ كاملةٌ، لكنّ النّتيجةَ ليست كاملة. هنا يكون "الشَّغَف"!

 

وما الشّغَف؟ ومَن يعرف، ما الشّغَف!؟ مَن يستطيع أن يعرفَ، فيَفهم، فيُتَرجِم، ف"يَسجن"، و..."يُسجَن"؟

 

ألشّغَفُ حالةٌ روحيّةٌ تجعل الشّاعرَ على تَواصُل تامٍّ، ودائمٍ، وإنْ غيرِ كامل، مع موضوع شغَفِه الدّائم. هو "نكهةُ" هذا التّواصُل اللامتناهي. لعبةٌ جَماليّة، فنّيّة، داخليّة، خارجيّة، معًا؛ وِجدانيّة أبدًا.

 

هو هذا "النّور" الضّئيلُ، الشّفيفُ، الغنيُّ، البهيُّ، يخترقُ الشّاعرَ صاحبَه، من أعماقه إلى أقاصيها، بخلجاته: خلجة خلجة. بنبْضاته: واحدة واحدة. بأنفاسه: نَهدة نهدة. بروحه: شهقة شهقة. كيف يتمّ له ذلك؟ أهو يدري؟ أيستطيع الشّاعرُ، أيستطيع الفنّانُ، أن يُحصيَ خلجاتِه، أو نبْضاتِه، أو نهداتِه، أو شهقاتِه؟ أيستطيع أن يسيطرَ، عمليًّا وفِعليًّا، عليها، الآن، أبدًا، كما يجب؟

 

لا! وعلى افتراض أن نعم، وهو افتراضٌ غيرُ صحيح: لماذا يفعل؟ ماذا ينتفع؟ ما دورُ هذا "الإحصاء"؟ ف"العمليّةُ" ليست إحصائيّة. إنّها اختراقيّة. ألإحصاءُ "جَمعٌ" و"تجميع": تسطيحٌ، تبليد. هذا لا شغََف فيه، إنّما فيه البرودةُ كلُّها. ما ينفي، بل يُلغي، "ناريّةَ" الشّغَفِ و"حميميّتَه". ذاتيّةُ "الشَّغوفِ"، في هذا المجال، غلَيانٌ دائمُ الفَوَران. إنّها "المَصْهَر" الدّائمُ الجهوزيّة. لا تتمُّ "محاوَلةٌ" من دون "صَهْر". هذا الصّهْرُ الحيّ المُحيي، هو ابنُ الشّغَف. ألشّغَفُ، هذا، إحساسٌ جميلٌ، بل خارقٌ، بما يتفاعل، داخل النّفْسِ الشّاعرةِ، وفيها، وحواليها. وهو ما "يحياه" الشّاعرُ، أبدًا، ويُحبُّه، أبدًا. به تكون "الحياةُ"، "الحياتان": حياةُ الشّاعرِ، وحياةُ الشِّعر.

 

والشّغَفُ، بعدُ، حصيلةُ تواصُلِ ارتعاشاتِ النّفسِ؛ خلاصةُ "عواصفِها" الملتهبةِ، أبدًا؛حصيلةُ الخُلاصات، تَواصُلُ عواصف، ارتعاشات ملتهبة. هكذا هو انفلاتُ "العواملِ" الذّاتيّة: "ثقافيّةً" و"جينيّة"، "فنيّةً" و"جماليّة"، من أجوائها الحميمةِ، المحتقَنةِ المحتقِنةِ، التّائقةِ إلى "الانفجار الخلاّق المُدَوزَن". لا يحصُل، ذلك، إلاّ بوساطةِ الشِّعرِ (أو الفنّ). فهو، انطلاقًا وتأسيسًا، "تَقَطُّرُ هذه "الخلاصاتِ/ العواصفِ/ الارتعاشاتِ الملتهبةِ، تَقَطُّرًا صافيًا مُصَفِّيًا.

 

لا يحدث هذا، إلاّ بالفرح الحزين. كيف؟ ألفرحُ لأنّ الشّاعرُ "يُنتِج" شبيهَه. فالله خَلَقَ "على صورته ومثاله". وها الشّاعرُ يساعده، مُكمِلا. والحزن؟ لأنّ الشّاعرَ نفسَه، يعلم، يقينيًّا، أنّ "خَلقَه"، العلى "صورته ومثاله"، ناقص. ويبدأ شَغَفٌ جديدٌ يتجدّد إلى ما لانهاية، وإلاّ فهو ليس الشّغَف الحقيقيّ التّامّ. لا شَغَف ناقصٌ. إمّا الشّغَفُ الكيانيُّ الحقيقيُّ، وإمّا البَلادةُ واللامبالاة. هذه لا وجود لها في عالم الشِّعرِ (الفنّ)، ولا عند المُتَلَقّي الحقيقيّ.

 

 هذان الشَّغَفُ والشّعرُ المكتوبُ به، يوصِلان، حتمًا، الآن وأبدًا، إلى النّشْوة. فما هي؟

 

إنّها "الحالة"! "حالةُ" التّحليقِ الرّوحيّ النّاعم الضّوئيّ الّذي يحمل الشّاعرَ (والمُتَلَقّي الذّوّاقةَ المثقَّف)، إلى "حالةٍ" أخرى، روحيّةٍ، هي أيضًا، تجعله في "حالة" صفاءٍ دائم، سامٍ، تُشعِرُه ب"النّعيم". إنّها "النِّعمةُ" و"النُّعمى". وهي لا تُريح. إنّها تجعل صاحبَها الّذي يحياها، دائمَ التَّوَثُّبِ والتَّحَفُّز. لكنّه "شَغوفٌ" ب"هِما". بل عاملٌ من أجله. فإنْ تحقّقَ له ذلك، كانت "المكافأةُ" الّتي يُعمَل، دومًا، وبعذابٍ لذيذٍ (عذابِ الشَّغَف ولَذّتِه)، للوصول إليها. فهل؟

 

يعرفُ، الشّاعرُ(الفنّانُ) استحالةَ هذا. ومع هذه "الحالةِ" المعرفيّةِ الصّادقةِ، الواعيةِ الهاذيةِ، الواضحةِ الغامضةِ، المُخصِبةِ المُثيرةِ، يعملُ من أجله. لكن: لماذا؟ لارتباطِه ب"الشّغَفِ" الّذي يقود إليه، بل "يوقِع" فيه.

 

هذه هي "الحالةُ" الدّائمة! "حالةُ" الشّاعرِ(الفنّان) الّذي لا يكون من دونها.

 

ف"الشّاعرُ "حالةٌ"! والمُتَلَقّي المُمَيَّز حالة! لأنّ الشِّعرَ "حالة". وكذلك "الشَّغَفُ" و"النَّشوة". إنها، جميعًا ومعًا، الآن ودائمًا، هنا وكلّ مكان، "حالة الحالات". نِعمةُ النِّعَم!

 

الاثنين 31 آب 2009  

(لونغ بيتش/كاليفورنيا)

 

حول الشِّعرِ والشّاعر

إيلي مارون خليل

 

 

                      

 

             

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.