3

:: قُبلة إلى... أنطوني جعجع ::

   
 

التاريخ : 24/08/2009

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1428

 


 

قُبلة إلى... أنطوني جعجع

إيلي مارون خليل

 

 

ما كنت أعرفه، أنطوني جعجع، وإن كنت قرأت له سياسةً وشِعرًا. أقول: ما كنت أعرفه. لكنّي مُخطىء! معرفة الآخر لا تتمّ بالمقابَلة. تتمّ بالتّواصل. والتَّواصُلُ لا يكون، كلَّ مرّةٍ، عبر المواجهة الجسديّةِ المادّيّة. وهكذا أزعم أنّي أعرف عشرات الشّعراء والقصّاصين والرّوائيّين والمسرحيّين وكتّابَ المقالة والسّيرة... إلّم يكن المئات.. ولم أرَ لهم وجهًا، ولا رسمًا، ولا قابلتُهم، ولا حادثتُهم...

إذًا، فأنا كنت أعرفه، أنطوني جعجع، قبل أن ألتقيَه، ذات صدفةٍ جميلة، ويقدّم إليّ "قبلة على السّطر" في العام الماضي. وها كتابُه الجديد* يُطِلّ أنيقًا، مُنَوَّعًا، غنيًّا، أصيلا.

 

"شالُ الغَمام" هو، إذًا، هذا الكتاب الجديد. إنّه كتابُ شِعرٍ بِحجم القلب المُحِبّ. وهل الشِّعرُ إلاّ هذا الحُبُّ الخصيبُ المُخصِب؟ هذا الحُبُّ الحيُّ المُحيي؟ ألدّليل؟ يُهدي قلبَه، أقصد كتابَه هذا، إلى صغيرته "مَن أبهى ومَن أغنى/ معي مجدُ اللهِ/ حين تربّع إلهًا/ ومعي ينابيع/ تسكُب السَّواقي/ من دموع الغَمام...". (ص5)

 

يقسم شاعرُنا "شالَ غَمامِه" أقسامًا ثلاثة: "بَرِّيَّة البال"(7/30) وفيه وِجدانيّات عذبةٌ عُذوبةَ الأبُوّةِ المُنتظِرةِ شوقًا ملتهبًا:

عمرٌ مضى  آهِ كم شبّتْ به غُصَصٌ

 

دُمًى بـلا ولَدٍ يـا حرقةَ اللُعَبِ

بُنَيَّـتي ها أنا...  ضَمٌّ به ولـــعٌ

 

وقبلُ يَبَّسَني ضَمٌّ بلا عصبِ (9)

 

ويروحُ، الوالدُ اللهيفُ، يراقب نُمُوَّ طفلتِه، يلاحظه، فَرِحًا، قَلِقًا، رفيقًا:

... وتكبرينَ حَلاً  والـدّمعُ من عِنَبٍ

 

والخَـدُّ نيسـانُ، والرَّيحـانُ في عُلَبِ

شالُ الغَمـامِ على زَندي، وأنتِ يدي،

 

يا سَعْدَها الزَّنْدُ إذ رنَّتْ على الذّهَبِ (8)

 

ويتذكّرُ، لا من دون ألمٍ مُحْرِقٍ:

عمرٌ مضى  آه كم هـزّت يداي سُدًى!

 

 

يا مهدُ من خشبٍ.. والطّفلُ من خشبِ (11)

 

وإذ تهلُّ الطّفلةُ "يرفّ السّنى" ويتراءى، في وجهها، وجهُ الله، ويعود الشّاعرُ "ولدًا من... ولد"(12). ويشعر أنّ عمره قد بدأ، وأصبح العيد عيدًا، فلا شكّ في أنّ "أحلى الهدايا أبٌ قد عاد مولودا"(14)، ويأمل أجمل الآمال وأكثرها رقّة وحنانًا و... رجاءً:

أنـا كتِفٌ وأنتِ صِبــايَ يمشـي

 

متى أحنـي  تصير البنت بيتــا (18)

 

وثانٍ "نَقْشٌ علو ضُلوع السَّماء"(32/46)، وفيه معاتَبات لاهية، ومُعابَثات طريفة، ومُجانَبات عفويّة، كلُّها إلى الله، بوجهه، وفي حِماه. مؤمنٌ هو، لكنّه موجوعٌ. ألإيمانُ لا يمنع الوجع، قد يزيدُه. يُعَمِّقُه. ثمَّ يُزهرُ الوجع... شِعرًا بالألم والرَّجاء، معًا، ينعجن:

ربّـاهُ عدلَك مرّةً... مـا أظلمك          لا أنتَ ربّي بعـدُ أو أنا خـادمكْ

خفقـوا وما وُلِـدوا.. جنيـنٌ بعد آخـرـ بعد آخـر.. آه مـا أقسى دمكْ

لم يبقَ عندي ما يطيبُ وتشتهـي        دعني قليلاً علَّني لا أرجمكْ...! (33)

 

وكان قد ضجَّ به التَّساؤلُ، ألَحَّ، هام، عذَّبَ، صلبَ، يومًا في إثر آخر، إلّم يكن نهدةً في إثر نهدة... ها الأملُ بمولود هلَّ، أهو صبيٌّ أم هو بنتٌ؟ ألأهَمّ أنّه سيصير أبًا أو... نبيًّا:

قل لي، ولو دلَعًا،  مَن أنتَ لو سألوا

 

بنـتٌ، صبـيٌّ، وشِعرٌ قبلُ ما كُتِبـا

أكـادُ أهربُ من عمـري  إلى زمنٍ

 

أصيرُ فيه نبيًّا  أو أصيرُ... أبا (32)

 

       ومن بحر الأحزان يحاول الانبعاث، وفيه يبقى الأمل حاضرًا، ولو ضبابًا، يستسلم، يقدِّم آلامَه إلى "سيِّده":

سيِّـدي يسـوعُ إليك جروحي     والمساميرُ ههنا وعـروقـي (44)

 

ويسأله أن "خذ يدي"(44) كأب يحنو على طفله.

 

وثالث هو "قليلٌ من عينيكِ"(48/92) وفيه سبعٌ وعشرون قصيدةً للحبيبة، تحكي حُبًّا، وكلُّ حبٍّ جميل. فمرّة شوقٌ، ومرّةً حنينٌ، مرّةً شكٌّ، ومرّةً يقين، حينًا تأكيدٌ، وحينًا تساؤلٌ، حينًا فرحٌ، وحينًا اغتمامٌ، ويتنتقّل بين صَحْو وسكر، صحوٍ ومطر... ويستمرُّ الحُبُّ سيِّدَ القلب والمشاعر، ملءَ الألفاظ والتّعابير، مُشرِقَ الصُّوَر والآفاق... مؤثِّرًا موحيًا!

 

تبقى الإشارةُ إلى لغة الكتاب. إنّها اللغة العذوبة، اللغة الحيّة، النّابضة، الهادئة. ألتّراكيب، إجمالا، موجَزة وخارجة عن المألوف في الكثير منها. ألصّور لافتة، بعضُها بعيدٌ، حيٌّ، يُحَرِّك، في القارىء، انفعالات دفينة.

 

إلاّ أنّني أسأل الشّاعر: لِمَ لم تُطْلِق الألف في آخر كثير من الأبيات(34/35) مثلا؟ و(42 و52) وسواها من صفحات عديدة؟ ولِمَ صيغة الرّفع بعد الشّرط (25) ولِمَ النَّصْبُ بديل الضَّمِّ:"أنا خادمَك"؟ و"أرجمَك"؟(33)؟ ولِمَ تكرار "هاتِهِ" بدل هاتيه؟ (49/50).

 

 

"شالُ الغَمامِ" كتابُ شِعرٍ جميلٌ، أصيلٌ، في هذا الزّمن حيثُ السّهولةُ إسهال في الكتابة، إلى أيّ نوعٍ انتمت! إنّه علامةٌ مميَّزة، ويستحقّ أن يُقرأ ويُحفَظَ في المكتبات...

* شال الغَمام / شِعر/ 96 صفحة/ إصدار خاصّ / 2009

3/5/2009

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.