3

:: في الفنّ ::

   
 

التاريخ : 26/06/2009

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1457

 


 

في الفنّ

إيلي مارون خليل

 

 

 

إشراقةُ الفكر، هو، ولهيبُ القلب. نَشوةُ الرّوح وإيقاعُها. سرُّ الكينونةِ وجوهرُ البقاء.

 

ألفكرُ، محدودًا، يكون، ومُنطفئًا، إلَّم تُثِرْهُ إشراقةٌ تهبطُ على صاحبه، ومنه تطلع، وإلى الدَّوام تستمرّ. هذه الإشراقةُ مُمَيَّزةٌ تُمَيِّز. فيها، من الصّوفيّة، العبادةُ والمعرفة. فالفنّانُ الحقُّ، مُكَرِّسٌ ذاتَه لموهبتِه، تضجّ فيه ومنه تنبثق، مُتَأجِّجة مُشِعّة. وهو ذو القلبِ الرّافِلِ بالمحبّة والحبِّ، لا يستثني أحدًا، ولا يُشرِك. كيف؟ لا تَناقُض. إنّه الانسجامُ الكلّيُّ، والتَّناغُمُ الهادىءُ العاصفُ معًا. ألقلبُ؟ لغزُنا الأكبر، الأجمل.

 

هذه الإشراقةُ، بعيدةٌ من أن تكونَ التِماعة. ألالتماعةُ بسرعة تنوصُ، تخبو. كأنْ لم تكن. دَورُها؟ خُلَّب. وهجُها؟ كاذب. ألاشراقةُ لا إلى زوال. منارةٌ نورُها منها وفيها وإلى الأبد. لا هدْي للالتماعة. مع الالتماعة تنطفىءُ الذّات: فكرًا، وِجدانًا، أحلامًا... يفقد الإنسانُ أبهى ما هو فيه، أهمَّ ما هو له.

 

لِمَ لا نزال نقرأ القدماء؟ منذ بدء الكتابة، يُغَرْبِل الزّمنُ الأسماء. ينخل الأفكار. لِمَ لا نزال نشاهدُ الرّسومَ، نسمع الموسيقى، نتلمّس المنحوتات، نتذوّقُ الفنون، نشمّ، فيها، عَرَقَ المبدعين، نسمع صريرَ أقلامهم، ضرباتِ فرشاتهم والإزميل؟ وهذا، ألا يُقيم، فينا، مِهرجانَ الحواسّ، انتفاضةَ النّفسِ، أعراسَ الذّاكرة؟

 

لمَ لا نزال نشعر بالفنّان، من خلال كلماته، ألوانِه، أنغامِه، أشكالِه... ونحيا معه، مُتَأقلمينَ: فكرًا وأحاسيس، اتّجاهاتٍ ورؤى؟ لمَ لا يزال الفنّانُ يُفَتِّقُ، فينا، ما يرتفع بنا إلى عوالم الجَمال القصيّة، بها نُقيم، ولو هنيهاتٍ، سُعَداءَ حالمين، مُتَمَنّينَ ألاّ يزولَ ما نحن فيه، لئلاّ نسقطَ في فِخاخ الرَّتابةِ ووديانِ الصَّغائر؟

 

أليس هذا يعني أنّ الفنَّ إشراقةُ الفكرِ، ولهيبُ القلبِ، و... أرجوحةُ الأمنيات؟

 

*******‍ ‍

 

إنطلاقًا، بل تأسيسًا، أليس الفنُّ نشوةَ الرّوح وإيقاعَها!؟

 

حين تسمو الرّوحُ، تُحَلِّق بالجسد. فلا الجسدُ مادّيٌّ، ولا الرّوحُ أثيريّة. إنّهما أقنومانِ متكاملانِ، متّحدانِ، مُتَوحِّدان، بالنَّشوة مُكَلّلان، مُتَوَّجان، مُشرِقان!

 

إنّ الفنَّ يجعلُك تمتلك نفسَك، كِيانَك كلَّه: جسدًا وروحًا. يُفهِمُك كيانَك كلَّه. يَعقِدُ حبَّك لكيانِك كلِّه، وبه تتوهّج: صافيًا الصّفاءَ كلَّه، نقيًّا النّقاءَ كلَّه، خفيفًا كالنّسيم، عميقًا كالفكر، شفيفًا كالنّور.

 

هي هذه نشوةُ الرّوح، فلا صراع بينها وبين مكانِ إقامتِها: الجسد كمادّة.

 

أنْ تحيا النّشوةَ، يعني ألاّ تمتلكَكَ مادّيّتُك؛ أن تتنقّى من علائق المادّة، من شهوتك "العالميّة"، لَذّتِك... وأن تُقيمَ، عفَويًّا، وببساطةٍ متناهيةٍ في الأناقة والرَّصانة، في روحِك الجاذبةِ جسدَك "العُلْوِيَّ" إلى بهاءٍ مُتَألِّقٍ ٍدفئًا وعذوبةً وحنانًا.

 

هكذا يكون الفنُّ، لا نشوةَ الرّوحِ فحسْبُ، بل إيقاعها. نعم. للنَّشوة إيقاعُها الدّاخليُّ الحميم. مدارُها العذبُ. عالَمُها الخصبُ.

 

إنّها النّشوةُ الإيقاعيّةُ الدّائمةُ الذَّوَبانِ فيك، لأنّك "تزهد" و"تعبد" و"تعرف". هذه الرَّكائزُ/الثَّوابتُ، عندك، هي ما يجعلُك ذا النّشوةِ المُوَقَّعةِ المُوَقِّعة. ذَوَبانُ الرّوحِ بالجسدِ، تَصَفّي الجسدِ بالرّوح... هذا ما يُثيرُه الفنُّ فيك.

 

*******

 

... فالفنُّ سِرُّ الكينونةِ الإنسانيّة، جوهرُ البقاء.

 

لولا الفنُّ، ماذا بقي من حضارات؟ طموحات؟ جَمالات؟ أحلام؟ أسماء؟ ماذا بقي من قِيَم؟

 

قيمةُ الإنسانِ في قِيَمه: إيمانًا وأعمالا. أبهى الأعمال، وأكثرُها سُمُوًّا، ما صاغه الفنّانون، وما يستمرّون في صِياغته.

 

أليست هذه الكينونةُ هي الأبقى؟ في شُموخها والجَمالات؟ رؤاها والأحلام..؟

 

أليست هذه الكينونةُ هي الأجدى؟ إنسانيًّا وحضاريًّا؟ أوَليس الفنُّ تَوازُنَ الإنسانِ وتَوازيَه، فيحيا إيقاعَ الجَمال : حالةً وغايةً وفضاء؟

 

لولا الفنُّ، لَظلَّ الإنسانُ مُقفَلَ الحَواسّ، مُسَوَّرَ الرّوحِ، مُطْفأ الرّجاء.

 

حقًّا: إنّ الفنَّ خلاصةٌ إنسانيّة؛ خلاصةُ الإنسان... وعلى هذا، فالإنسانُ، بِدَوره، خُلاصةٌ فنّيّة. والإنسانُ، إذًا، كما الفنُّ، نشوةُ الرّوحِ، إيقاعُها وأرجوحةُ أحلامِها.

 

 18/3/2009

 ‍‍

 

  

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.