3

:: انتظــار - قصة قصيرة ::

   
 

التاريخ : 30/03/2009

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1480

 


 

انتظــار

قصة قصيرة

د. أحمد الخميسي

 

    لم يعد أحد يذكر كيف أو متى بالضبط بدأ ذلك؟ حكايات كثيرة ترددت فيما بعد، أما الحقيقة فلا يعلمها أحد، لأن للحقيقة عشرات أو مئات الأعين، واستخلاصها صعب. قال البعض إن رجلاً نحيفاً يناهز الخمسين خرج ذات صباح من منزله بشبرا بقميص مفتوح وبيده حقيبة سفر متوسطة، سار مسافة في اتجاه الميدان نحو محلات السمك، وتوقف هناك بالحقيبة بذقن نابتة ووجه شارد يزر عينيه متلفتاً بتعب يميناً ويساراً. وأخيراً مضى بتنهيدة إذعان إلي الرصيف فأنزل الحقيبة وجلس. ظل جالساً حتى أعتمت وأخذت المحلات حوله تطفئ أنوارها وتغلق أبوابها بالتدريج. حينئذ دنا منه صاحب مخبز وسأله بفضول عن سر جلسته هنا طيلة اليوم ؟. فغمغم تائها "أنتظر". ألحَّ الرجل بمزيد من الفضول "خيراً.. ماذا تنتظر؟". حاول أن يتذكر أو يعرف ما الذي كان ينتظره طيلة اليوم ثم رفع رأسه قائلا "أنتظر وخلاص"، ثم أطرق برأسه بين يديه وأضاف "نعم" بصوت خفيض.         

   على مدى يومين لاحظ سكان البيوت المجاورة وجوده، وقال أحدهم لزوجته وهما واقفان في شرفة يرسلان نظرة إلى الرجل: "لابد أن أولاد الحرام سرقوا محفظته". في اليوم الرابع أمر صاحب المخبز أن يخرجوا له ثلاثة أرغفة كل صباح، وتبعه صاحب محل الكشري بطبق في الظهيرة، ثم أخذ يتلقى بواقي سمك وسلاطة زبائن مطعم آخر على امتداد اليوم. 

    رمضان الطويل الشهير في المنطقة بالصايع، لأنه يدعي أنه قادر على إصلاح أي شيء من شاشة تلفزيون أو فرامل السيارات إلى تسليك الأحواض المسدودة، لاحظ في ذهابه ومجيئه الرجل الجالس في صمت، وحدّق في صحون الطعام، مرة والثانية، ولبد للرجل، قبع بالقرب منه على الرصيف، مثل الكابوريا، ركبتاه بارزتان في الهواء ويداه تبلغان كل ما يلوح أمامه في الفراغ، يحشو فمه بقطعة سمك أو حفنة أرز ويقول لمن يستفسر عن الرجل الجالس الصامت "هذا حبيبي.. بركة". أما الرجل فلم يكن يعير اهتماماً لشيء حتى للأوراق النقدية القليلة التي يسقطها له عابرون، كان يتلفت حوله فقط، ينهض من وقت لآخر إلى حافة الرصيف، يضيق عينيه متطلعاً بعيداً، ويرجع إلى مكانه متنهدا.

    على صيحات رمضان "حبيبي يا بركة" جاءت أم محمد في جلباب أسود قصيرة نحيفة كبوصة، تجر بدن ابنها العملاق الغائب عن وعيه، مددت بدن الولد على الأرض ثم تربعت قربه وجعلت رأسه بوجهه الشاب النضر مغلق العينين على فخذها، وراحت تمسح على جبينه طيلة الوقت وهي تزفر "الفرج".

    عندما طال بقاء الأربعة على الرصيف ضاق أحد أصحاب المحلات بالمشهد وقال في اليوم الخامس إنها "غرزة" فتحرك الرجل بحقيبته إلى الرصيف المقابل ومن خلفه رمضان وأم محمد يجرجران بدن الولد العملاق، وهناك نزلوا تحت جذع شجرة ضخم مبتور، وثبت رمضان ما بين أعلى الجذع وجدار خرابة خلفهم كرتونة طويلة، فصارت مظلة يقف تحتها ويصفق بكفيه صائحا في الرائح والقادم "الفرج".

    بعض سكان المنطقة كان يتمهل أثناء مروره أمام الأربعة ويسأل من باب الدهشة أو السخرية عما يفعله الرجل هنا؟ وما الذي ينتظره ؟. رمضان الذي لا يتوقف عن الكلام عادة، كان يلزم الصمت ناظراً هو الآخر إلى الرجل باستفسار، أما الرجل فيتلمس حقيبته ويقول بنبرة حائرة "أنتظر".

    اليوم، ساعة الظهيرة، توقف أمامهم عامل مفصول حديثاً بعينين حمراوين وشعر قليل هائش، دخل تحت المظلة وسأل عن الحكاية بالتفصيل، فرك عينيه ثم واصل طريقه إلى بيته. وقبيل الثانية فجراً أيقظته كوابيس من نومه، ووجد نفسه جائعاً فدخل إلى المطبخ وهو يفكر أنه هو الآخر ينتظر شيئاً ما، قد لا يعرفه لكنه ينتظر، قلّب الفكرة في رأسه، ثم خرج من بيته مع النور الذي انتشر في السماء واتجه إلى الرجل ومكث قربه ولم يفارقه.

    تجاوز عدد الجالسين على الرصيف عشرين شخصاً، بعد أن انضمت إليهم أم فؤاد المجنونة التي تسأل طيلة الوقت برقبة مذعورة "أين فؤاد"؟ وفي مساء اليوم السابع لاحت عربة شرطة على رأس الشارع، واقتربت من الحشد الصغير ولفظت من جوفها كومة جنود فرقوا بعصيهم الثلة فتناثر أفرادها وقوفاً في منتصف الشارع يحملون أشياءهم وهم يسترقون النظر إلى الرجل الذي وقف هو الآخر شارداً لحظات، سار بعدها ببطء صوب نفق غير بعيد، ومن خلفه مضى موكب بشري يجرجر بقج الملابس ومواقد الشاي والمواعين والأغطية وبدنَ الولد بملامحه النضرة وعينيه  المغمضتين.  

  اخترق الموكب النفق زاحفاً، يدب في صمت، بأمل، نحو المجهول. من دبدبة الأقدام وصداها المتخبط كنشيد في بطن النفق أحسّ رمضان الصايع بالأسى، وأن المسألة لا يمكن أن تكون صحون الطعام التي تأتيه من دون جهد، وشعر لأول مرة في حياته بأن شيئاً ما لابد أن يقع، تتبدل بعده حياة الجميع.

    بعيداً عن القاهرة على أطراف الطريق الزراعي استراح الجميع في أرض خلاء فسيحة، ورقدوا في أماكنهم كيفما اتفق، وفي الصباح تأملوا المكان حولهم واستقروا فيه. ثلاث ليال امتد حبل الحكايات بينهم، ودفق كل منهم قصته للآخرين مَرَّةً كالوجع، ومَرَّةً كالأمنية، مرة في حكاية آروى التي حاولت الانتحار، ومرة في حكاية بكر الذي واصل تعليمه، حكايات كثيرة صغيرة تبادلوها وهم ينشرون ملابسهم على حبال بين الأشجار، أو وهم يطهون الطعام، وأطفال البعضِ منهم يزحفون بين أقدامهم. فيما ندر كانت تنشب بينهم شجارات عنيفة بسبب مزحة، أو ماعون وضعه أحدهم في مكان ولم يجده، وسرعان ما يهدأ الشجار. البعض كان ينسحب عائداً إلى المدينة، لكن صفوف الوافدين كانت تواصل تدفقها، أناسٌ من كل ناحية، يأتون، يضعون حقائبهم، ويقصون حكاياتهم، وأخبار المليارات التي تسرق هناك، والحرائق المدبرة التي تلتهم الوثائق والتاريخ والمباني العريقة، العبارات التي تغرق في البحر بمن فيها، والجميلات اللواتي يقتلهن رجال الأعمال العشاق لحظة الغضب، القطارات المغلقة على الموت، وانفجارات المظاليم في قرع الطبول الأعمى. وحينما تتراخي أذرعهم بجوارهم ولا يعود لديهم ما يقصونه يقف رمضان الطويل ضاربا بمغارف كفيه في الهواء صائحاً "الفرج".  

 يوماً بعد آخر بزغت في الأرض أعشاب ذات رائحة حلوة مُرَّة. أمسك سويلم الفلاح بواحدة منها وقربها من أنفه وقال: عتر، ويوماً بعد آخر عبدت أقدام تلك الكتلة البشرية المتنامية طرقاً ضيقة بين الأعشاب، وأصبح من الصعب على عابر يتطلع إليهم من بعيد أن يميزهم عن غيرهم أو أن يرى في الليل سقف الأمنيات الصغيرة المشتبكة فوقهم كفروع شجر تندى من تنفسهم.

    عصْرَ اليوم تلبدت السماء بالسحب ثم أخذت ترعد وتصب سيول أمطار غزيرة لم تتوقف إلا آخر الليل. وعلى ضوء الفجر الشاحب شاهدوا برك المياه الصغيرة الراقدة تروي الأرض، وامتلأ الجو برائحة الأعشاب الرطبة، ولاحت وجوه البعض غارقة في مرارة عميقة، وارتفعت درجة حرارة بدن العملاق، فدثروه ببطانية انتزعها رمضان من أحدهم. وساد الصمت بينهم حتى انتشل فكري التّمرجي قدمه من بركة ماء، وتساءل بيأس عن جدوى ومعنى وجودهم هنا؟. لم ينطق أحد بكلمة، كانوا جميعاً يفكرون فيما قاله فكري. وفي صمت نهضت من مكانها مدرّسة شابة نحيفة وشاحبة للغاية كانت تعتصر بيدها كتاباً طيلة الوقت، وبحركة عصبية غطت رأسها بوشاح وسعلت ملتفتة إلى أحدهم، فوقف شاب كان قد تعرف بها هنا ولازمها حتى ظن الجميع أنهما سيحتفلان بعرسهما عما قريب. تجنب الشاب النظر إلى عيون الآخرين ولحق بها وهي تبتعد بساقين مرتعشتين. وشملت إبراهيم العامل المفصول رعدة، فاتجه إلى مرتفع، ووقف مبتلاً منفعلاً يخاطب الجمع المستنزف: "كان كل منا ينتظر وحده، لكننا الآن معاً قوةٌ من الآمال، وقوةٌ من اليأس الصلب، ومن بقائنا معاً سنتعرف على وجه العالم الجديد، سنتعرف إلى ملامحه حين يخرج إلى النور، كما تعرف الأم طفلها فقط عندما تراه".

      الرجل الذي لم يعرف أحدٌ اسمَه، ولا قصته، نهض من مكانه، ومد بصره مأخوذاً بموج رؤوس البشر وهو يهتز في حقول بلا نهاية، فانحنى على الأرض ببطء وتناول فرع شجرة اتجه به إلى المرتفع وغرسه في الطين ثم عقد على طرفه خرقة صغيرة تطلع الحشد الصامت إليها وهي ترفرف بتراخٍ، ثم وهي تخفق في الريح بكل قوتها، علَماً على الطين الذي يختلج في انتظار.

...

 أحمد الخميسي. كاتب مصري - Ahmad_alkhamisi@yahoo.com

 

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

16/04/2009

nancy.haifa@live.com

خولة

لماذا لم تكملوا القصّة؟ أودّ قراءة النّهاية.                 

مع ذلك، شكراً على القصّة.

 


 

   
 

.