3

:: ألنِّعمة ::

   
 

التاريخ : 22/02/2009

الكاتب : إيلي مارون خليل   عدد القراءات : 1611

 


  

ألنِّعمة

إيلي مارون خليل

 

 

كانتْ أُمّي تقولُ لي ولإخوتي: نِعمةٌ أن يكونَ اللهُ في قلوبِكم. نِعمةٌ أنْ تُحِبَّ الآخَرَ. نِعمةٌ أن تحترمَ الجميعَ. نِعمةٌ أن تُساعِدَ. أن تُصادِقَ. أن تكونَ لك مثلُ هذه الضَّيعةِ بِمَن فيها، وبِما فيها.

 

وأذكرُ أنّ أُمّي، وطَوالَ اليومِ، كانتْ تُرَدِّدُ هذه الكلمةَ. يا ربِّ! أدِمْها نِعمة! نِعمةٌ هذا النَّهارُ الجديدُ. نِعمةٌ هؤلاءِ الأولاد، (وإن كنّا نُعَذِّبُها، أحيانًا). نِعمةٌ هؤلاءِ الجيران. نِعمةٌ هذا المَوسِم. وهكذا... وما كنتُ لأفهمَ، كثيرًا، هذه اللفظةَ. لكنّي كنتُ أُحِسُّ أنَّها أمرٌ مُستَحَبٌّ. أشعرُ أنَّها شيءٌ حَسَنٌ. وأنَّها ممّا يُحِبُّه الله. وأنَّها قيمة.

 

وكبرنا... صرتُ أعرفُ، إلى حَدٍّ ما، أنَّ النِّعمةَ حالةٌ من الغبطةِ، قد يُحْسَدُ الإنسانُ عليها. وأنَّها تُسْتَحَقُّ، لا توهَب. وأنَّ الإنسانَ يعملُ لِيكسِبَها. لِيَحْصُلَ عليها. لِيَتَنَعَّمَ بها. وكم يتمنّى لو تدومُ لهُ إلى ما لا نهاية.

 

وكانتْ أُمّي تقولُ لنا، في جملة ما تقولُ، إنَّ الصّحّةَ نِعمةٌ. إنَّ السَّعادةَ نِعمةٌ. وما كانتْ تقولُ إنَّ المالَ نِعمة. أو إنَّ الأملاكَ نِعمة. وما كان أبي ذا مال. ولا كان ذا أملاكٍ. وما كان ذلك من اهتماماتِهِ. ولا كان من طموحاتِهِ. وما كان يشكو. كأنَّ أُمّي تقولُ: ألقناعةُ نِعمةُ السَّعادةِ. كم كانتْ أُمّي على حقّ!

 

وحدثَ أن فهِمتُ، بعد زمنٍ، كيف هي نِعمةٌ أن يكونَ اللهُ في قلوبِنا. وكيف هي نِعمةٌ أن نُحِبَّ الآخَر. وأن نحترمَ الجميعَ. وأن نُصادِقَ. وأن ننعَمَ ببيئةٍ خَلاّبةٍ، نظيفةٍ، سليمة.

 

فأن يكونَ اللهُ في قلبي، يعني أن أكونَ صافي النَّوايا، بريئًا من كلِّ دَنَس، طاهِرَ النَّفسِ، مُساوِيًا، عادِلا، مُسالِمًا... وإلاّ، كيف يُقيمُ اللهُ في الشَّرِّ، والخُبْثِ، والدَّنَس؟ وأن أُحِبَّ الآخَرَ، يعني أن أحترِمَهُ، وأُكَرِّمَهُ، وأُقيمَهُ فيَّ بِفرح ونَشْوة. أن أُحِبَّهُ، يعني أن أعرفَ كيف أجعلُني موضوعَ حُبِّهِ، واحترامِهِ، وإكرامِه. أن أُحِبَّ وأُحَبَّ؟ إنَّها النِّعمةُ المزدَوِجة! وأن أحترِمَ الجميعَ، يعني أن أُعامِلَهم كأنّهم أهلي. أن أخدِمَهم. أُلَبّي حاجاتِهِم من دون طلَبٍ منهم. أحمِلُ الجَرَّةَ عن المرأة. أسوقُ القطيعَ الصَّغيرَ عن الشَّيخِ. أسبِقُهم إلى التَّحِيَّة. آتيهم بالأغراضِ من الدّكّانِ آنَ أولادهم ليسوا معهم. وأن أُصادِقَ، يعني أن أقسِمَ كياني اثنين: الآخَر وأنا. وأن أُعامِلَ هذا "الآخَرَ" كأنَّهُ "أنا". أن أُقيمَهُ فيَّ، وأجعلَهُ يُقيمُني فيه. فالصَّداقةُ، في بعضِ ما هي، تعني أن تكونَ، أنتَ، في ثوب آخَر. وأن يكونَ الآخَرُ ال"هو" وال"أنتَ" معًا. ولا اختِصام. بل تَكامُلٌ مُنسَجِمٌ. إنسجامٌ مُتَكامِل. وأن ننعَمَ ببيئةٍ خَلاّبةٍ، نظيفةٍ، سليمةٍ، يعني لا أن نُحافِظَ عليها فحسْبُ، إنَّما أن نُحِبَّها، أوَّلا، لِنستطيعَ المُحافَظةََ عليها بِرَغبةٍ، بشوقٍ، باهتمامٍ وِجدانيٍّ عميمٍ، حميميٍّ، صادق. فالبيئةُ النَّظيفةُ الجميلةُ، أُمٌّ ومُحامِيَةٌ وأُختٌ وصديقةٌ وحبيبةٌ وموحِيَةٌ ومُلهِمة... فهي، إذًا، الحنانُ والدّفاعُ والعطفُ والوفاءُ والحُبُّ والقصيدةُ الفَوّاحَةُ... والتُّراثُ الخَيِّرُ كلُّه! كُلُّه!

 

*******

 

والآنَ، هذا السّؤالُ: هل كانت أُمّي تعرفُ ما جاءَ في القاموسِ، حَوْلَ هذه اللفظة؟ ما كانت أُمّي تعرف القراءةَ، ولا الكتابة! فمِن أين "مفهومُها" للنِّعمة؟ من حُبِّها لنا. من خبرتِها. من أخلاقِها. من تربيةِ والدَيها "الأمِّيَّيْن". أما كانتِ "الأمِّيَّةُ" أسمى من "معرفة" اليوم؟

 

إليكَ، قارئي، بعضَ ما جاء في القاموس:"نَعَمَ نَعْمَةً ومَنْعَمًا الرَّجلُ: رفهَ //ونَعَمَ عيشُهُ: طابَ ولانَ واتَّسَع. والنَّعْمَةُ: اسم المَرّة//التَّمَتُّع والتَّنَعُّم//نَعمَةُ العيش: رَغدُهُ وغضارتُه. وجاء، بعدُ: ألنُّعمةُ و النِّعمةُ: المَسَرَّة. الحالة الّتي يستلذُّها الإنسان. وجاء: النُّعْمى: اليدُ البيضاءُ الصّالِحةُ... وجاءَ... وجاءَ...

 

تفاسيرُها، أُمّي، على المَعاني/القِيَم، ولم تُعِرِ المَعاني المادِّيَّةَ كبيرَ اهتِمام. كانت تعرِفُ أنَّ قِيَمَ الرّوحِ أسمى، أرقى، أهَمَّ... أنَّ قِيَمَ الرّوحِ هي الّتي تَجعلُ الإنسانَ أخًا للإنسانِ، وصديقًا، وحبيبًا، بما في هذه الألفاظِ من مَعانٍ. أنَّ قِيَمَ الرّوحِ تُبقي الإنسانَ، ترتقي بهِ، تُقيمُهُ في جِوار المِثالِ.أنَّ قِيَمَ الرّوحِ تؤقلِمُ المرءَ مع نفسِه، مع مجتمعِه، مع بيئتِه، مع فضائه... فلا يُدَنِّسُ ولا يُدَنَّس.

وكانت تعرِفُ، أُمّي، أنَّ النِّعمةَ حياةٌ، أكثرُ منها مَعنى. أنَّ النِّعمةَ ليست أمرًا نظريًّا، إنّها عمَليَّةٌ، تطبيقيَّةٌ. أنتَ، إن عرفتَ النِّعمةَ، في أبعادِها كلِّها، وحاضَرْتَ فيها، وعلَّمْتَها، وبها بَشَّرْتَ... ولم تَحْيَ بما عرفتَ وحاضَرتَ وعَلَّمتَ وبشَّرتَ... فما النَّفعُ؟ ألأصَحُّ: ما نفعُكَ، أنتَ، إن كنتَ لا تعمَلُ بما تعلَم ؟ بل: أأنتَ تعرِفُ حقًّا؟ لا فَصْلَ، يا هذا، بين "عِلمٍ" و"عَمَل"، بين "نَظَرٍ" و"تطبيق". إنَّهما، معًا، ماهيَّةُ الحياة. إحتِفالٌ بالحياة!

 

تكونُ النِّعمةُ نعمةً حينَ يَعيها المرءُ، حين يَفهمُها، يُمارِسُها، بِها يُخْصِبُ ذاتَهُ: فِكرًا، عاطِفةً، تَصَوُّراتٍ، رؤًى... وبِذا يُخْصِبُ الآخَرينَ. فالنِّعمةُ أن تعِمَّ، أن  تنتشرَ، أن تُشرِقَ في الآخَرِ: فِكرًا، عاطِفةً، تَصَّوُّراتٍ، رؤًى... ألنِّعمةُ أن تُمارَسَ، أن تُحْيا! ألم تكن، هذه، تعاليمُ أُمّي وعيشُنا في قريتِنا الجبليّةِ الجميلةِ، النَّظيفةِ؟ ألَم نكنْ نؤمنُ باللهِ ونعملُ بإيمانِنا: محبَّةََ قريبٍ، مُساعَدةَ جيرانٍ، إحتِرامَ الجميع، صداقةَ آخَرين، مُمارَسةَ  قِيَمٍ..؟ أليست، هذه، نِعمة !؟                

إذًا، فالنِّعمةُ موجودة. لكنْ: هل تُعطى؟ إنَّها تُسْتَحَقُّ! كيف؟ بالعملِ. مَن يَستحِقُّها؟ العامِل بِها. ألمُصْغي، المُحِبُّ، الواثِقُ، الرّاغِبُ...

 

ألمُصْغي يَفهم ويهتمُّ بِمسؤؤليَّة. ألمُحِبُّ يَتَشَوَّقُ ويُقدِمُ بِمسؤؤليَّة. ألواثِقُ يَقْوى ويَجرؤ بِمسؤؤليَّة. ألرّاغِبُ، صِدقًا، "يعرِفُ" و"يُمارِسُ" معرفتَه. ولا يتراجع!

 

نِعمةٌ أن تُصبِحَ النِّعمةُ عامَّة. عند الأفرادِ، وفيهم. عند العائلاتِ، وفيها. عند المجتمعاتِ، وفيها... ألسِّياسَةُ الرّؤيويَّةُ، الصّادِقةُ، نِعمة. ألتِّجارةُ الضَّميريَّةُ، العادِلةُ، نِعمة. ألصِّناعةُ المُتَطَوِّرةُ، المُطَوِّرةُ، نِعمة. ألتّربيةُ الواعيةُ، ناحِتَةُ الأجيالِ، نِعمة. ألزِّراعةُ الصُّحِّيَّةُ، النّظيفةُ، نِعمة. ألوظيفةُ/الخِدمةُ، نعمة. ألعِلمُ نِعمة. ألفَنُّ نِعمة. ألفلسفةُ نِعمة. ألثَّقافةُ نِعمة. والنِّعمةُ أن تحيا النِّعمة، فتكونَ، لكَ، نَمَطَ حياةٍ، فتُصْبِحَ مُغتَبِطًا، آمِلا، سعيدًا، راجيًا، حُرًّا...

                      

ألنِّعمةُ ثورةُ حُبٍّ، خَيرٍ، جَمالٍ، من أجل الحُبِّ، الخيرِ، الجَمال... لذلك هي رِسالةُ اللهِ في الإنسانِ، لِحُبِّ اللهِ والإنسانِ، وخَيرِهِما وجَمالِهِما... إلى الأبد!

                                                                 

       الخميس 5/2/2009

      

 

 

 
   
 

التعليقات : 5

.

25/02/2009

حبيب حبيب

لسنا بحاجة إلى إثبات

أهلاً بك 

أكثِر   

 


.

23/02/2009

إيلي

أخي حبيب حبيب!

ونعمة أن تكون عيناك وقعتا على مقالتي المتواضعة هذه. حقًّا لقد شعرتُ بأنّك أخٌ لي لم تلِدْه أُمّي.

 لكن يبدو أنّ تربيتَك تربيتي، ما يعني أنّ أُمَّ كلينا شقيقة للأخرى. حديثك عن كسرة الخبز أشعلني حنينًا إلى ذلك الزّمان...  وهي عادةٌ أفخر بممارستِها... وسأبقى...

 مع تحيّاتي

 


.

23/02/2009

حبيب حبيب

... أستاذ أيلي

عندما هممت بكتابة هذه الكلمات وقعت عيني على ما كتبته السيّدة سوزان، وهو الكلام المحبّ الذي دوّنته هنا، فعلاً.. نعمة الكلام.. ورقيّه وهدوءه.

 هي الدنيا ليست إلاّ مجموعة أخيار وأشرار، الإنسانية يجب أن تجنح إن صحّ التعبير إلى الأخيار.

 حضرتني أمثولة تربوية كانت عادة رائعة نشربها مع حليب تربيتنا: (التقاط قطعة خبز عن الأرض وتقبيلها ووضعها في مكان مرتفع بعيد عن دنس الدنيا)،

مشهد صلاة ونعمة واحترام

ووقت ترى شخصاً يفعلها لا ّبد أنه سيكون أخاك ويعرف ما هي النّعمة.

شكراً لحضورك على شكلها.

 


.

23/02/2009

إيلي

... ونعمةٌ كبرى أن يقرأنا أحدٌ في هذه الأيّام المالحة الكئيبة السّوداء...

هذا وإنّ أُمَّهاتِنا قدّيسات الأرض كلّ زمان! أشكر ذوقك الرّهيف وفكرك النّيّر.. وإلى اللقاء، دائمًا، فإنّ منبر جماليا أتاح لي مثل هذه المناسبةالطّيّبة

 


.

23/02/2009

سوزان ضوّ

أستاذ إيلي

هذه الدراسة والتفسيرات التي تضمّنتها هي أيضاً نعمة.

لا تحتاج الأمّهات إلى تعلّم القراءة والكتابة، ولا إلى قواميس،

في قلوبهنّ قواميس للمحبّة تتضمّن كلمات لم تتعرّف إليها اللّغة بعد.

شكراً للمعلومات القيّمة التي أثريتنا بها.

 


 

   
 

.