3

:: حبر وملح - منصور الرحباني: مضى الى صاحبه ::

   
 

التاريخ : 22/02/2009

الكاتب : زاهي وهبي   عدد القراءات : 2250

 


  

حبر وملح - منصور الرحباني: مضى الى صاحبه

زاهي وهبي

 

لم يترك منصور الرحباني لنا الكثير لنقوله عنه. قال كل شيء تقريباً شأنه في ذلك شأن كل الكبار الذين تتسع رؤاهم ويجيدون التعبير عنها مهما ضاقت اللغة أو العِبارة.

تضيق بيَّ اللغة كلما هممت بالكتابة عنه، ربما لهذا السبب انتظرت قليلاً حتى خفّت زحمة الحبر والكلمات، ومهما قيل فيه ليس كثيراً، عرفته جيداً وحاورته مراراً على الملأ، وجلست اليه مراراً بعيداً عن الأضواء، أصغيت الى قصائده وآرائه في غرفته الصغيرة المتواضعة في انطلياس، يجلس متثاقلاً وراء مكتبه ويسحب أوراقاً ودفاتر من درجه ويقرأ. بشغفٍ يقرأ، بفرح يقرأ، كطفلٍ يقرأ، وكل قصيدة يلقيها كأنها القصيدة الأولى، وكل فكرة يرميها في ملعب سامعه كفيلة بفتح نقاش لا ينتهي، خصوصاً حول تلك المسائل التي لم تكن تفارق تفكيره في الآونة الأخيرة والتي تتعلق تحديداً بما كان يسميه «الغامض» والماوراء والمابعد، والموت الذي ظل حاضراً بقوة في شعره وفي نثره، وهو الذي خاطبه في كتاب «القصور المائية» بقوله: «أيها الموت، أنت الصاحب الوحيد الذي سيبقى معي».

أقول لم يترك منصور الرحباني لنا الكثير لنقوله لأن «كل شي انْحكى/ اقعود نتشمس ونسكت سوا/ الضو أصفى من الحقيقة/ والسكوتْ أوسع من العلم/ من كل شي انْكتبْ/ يا اْبني السكوت موصول بالغامض البعدو ما انْعَرف/ بكل الهدير الْـ ما انكَشَفْ» (من كتابه «بحّار الشتي»)، ومع ذلك لا يجد مَن عرف «النصف الآخر» من الأخوين الرحباني إلا أن يقول شيئاً أو يحاول قول شيء لا ليضيف جديداً الى كبير غاب جسداً وظل شعراً ونثراً وحبراً متوهجاً، بل ليضيف الى ذاته معرفةً جديدة بمن تُشكّل معرفتهم بذاتها مكسباً وزاداً للأيام الآتية. خصوصاً وأن منصور الرحباني لم يكن يحتاج الرحيل ليأتيه الرثاء والتكريم وهو القائل في «قصوره المائية» مخاطباً نصفه الذي سبقه الى أعلى «يا عاصي، كل هالتكريم اللي صار من أجل العطاء اللي انعطى، وانت بتعرف انو باسم الأخوين انعطى، حتى التشييع اللي صار، هوي تشييع الأخوين، لهالسبب أنا لمّا بْموت، مش لازم حدا يكرّمني لأني أخذت مكافأتي وصار لازم روح بهدوء مثل العامل اللي قبض بنهاية الأسبوع ورايح بكمال فرحو».

في «عاميته» كما في «فصحاه»، في شعره كما في مسرحه ظل منصور الرحباني مسكوناً بالهواجس والأسئلة الكبرى من دون أن تغيب عنه في المقابل هموم الكائن البشري اليومية، ولذا رأيناه يستدعي سقراط والمتنبي وجبران ويتعامل معهم بوصفهم أنداداً ونظراء، يُسقط منهم ومن إبداعاتهم على حاضرنا، ويعطي منه ومن إبداعه الى إرثهم، أو يقول على ألسنتهم، ما لا يريد قوله صراحة بلسانه، وهو الذي مهما نأى ومهما أوغل في مساءلة «الغامض» لم يستطع لحظة أن يكون في منأى عن لبنان الذي يصعب تخيله بلا «الأخوين الرحباني» وما أعطياه لوطنهما حتى رفعاه الى مرتبة الحلم والاستحالة.

لم يترك لنا الكثير لنقوله، ومع ذلك لدينا الكثير، لأنه ترك فينا الكثير، ومن هذا الذي تركه فينا نستطيع أن نقرأ ونستنتج ونقول، لكن مهما قلنا تظل اللغة ناقصة وقاصرة في حضرة الكبار أمثال منصور وعاصي اللذين كلما أمعنا في الغياب ازدادا في الحضور، «تقترب النهاية، تصرخ الأبواق، يا فرح الوصول، يا نهاية الرواية، فلنتحد بالضوء، بالدوائر المشعَّة، فلنتحد بفرح الحضور، المجد والذروة في الحضور، والمجد والذروة في النهاية...».

 


 


 

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

22/02/2009

shawki1@optusnet.com.au

شوقي مسلماني

لأنّه ترك فينا الكثير

أصاب الشاعر زاهي وهبي

 


 

   
 

.