3

:: جبران والموسيقى وضوء القمر - أزرار 557 ::

   
 

التاريخ : 26/07/2008

الكاتب : هنري زغيب   عدد القراءات : 1263

 


 

جبران والموسيقى وضوء القمر

أزرار - 557

هنري زغيب

متحف جبران الجاثم بكل مهابة في دير مار سركيس، ينضح بِهالة الذي يرقد فيه منذ 77 سنة، يَخاله البعض جُثماناً هامداً، فيما هو روح هائمة تشُعُّ من دير مار سركيس الى بْشرّي الى لبنان الى العالم.

الى هذه المهابة، دعتنا السبت الماضي لجنة جبران الوطنية الى حضور أمسية موسيقية استثنائية مع الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية، في قيادة وإعداد من مؤسسها وليد غلمية.

المناسبة: سياق احتفالات هذا العام في الذكرى 125 لولادة هذا الذي وُلد في بْشرّي ذات يوم وما زال يولد كل يوم.

الباحة تَهيَّأَت في أناقة. اسمها ذو وفاء: "ساحة ماري هاسكل". الحضور كأنهم آتون الى احتفال طقسي. والداعي الى الذبيحة الطقسية أنطوان الخوري طوق (رئيس لجنة جبران الوطنية) يستقبل ويرحّب. وكاهن المعبد وهيب كيروز (حافظ المتحف) يتفقّد جُموع المصلين الداخلين الى الهيكل.

كلمة أنطوان الخوري طوق كانت كأنها ترحِّب لا فينا بل بِجبران الجالس بيننا، معنا، إلينا. من كلماته كانت كلمة أنطوان. من مناخ جبران. من أقواله عن الموسيقى والحب والجمال. من كتاب "النبي". من "الأرواح المتمردة". من قلب جبران.

فوقنا كان القمر بْشرّاوياً على هدوء وإنصات، حتى إذا ارتفعت عصا وليد غلمية تعلن بدء الاحتفال الطقسي الموسيقي، ساد صمت بين جموع الهيكل، وأخذَت الموسيقى (هذه الحبيبة على قلب جبران) تصدح بألْحانٍ لبنانية كم رافقت جبران في صومعته النيويوركية وفي تَجواله بين أبناء الجالية اللبنانية في نيويورك وبوسطن: "ع الروزانا"، "يا غزيّل"، "عَ اليادي"، "آه يا أسمر اللون"، و"العتابا والميجانا" أيضاً حبيبتان على قلب جبران. وأغنيات بأصوات كورالية أنيقة تزيد المهابة هيبة.

في هذا الجو الموسيقي الجبراني الكثير، تَحت أشعَّة القمر السهران فوقنا في صحو ليلة صيف، توضَّحت العلاقة أكثر بين المبدع والمتلقّي وبينهما الموسيقى. وإذا كانت للمعارف الإبداعية صفة التدوين الزمني، فالموسيقى غير تدوينية، هي الوسيط بين المبدع والمتلقي. وهذا ما جعل الأمسية كأَنها مرفوعة بنا على جناح غيمة، وما جعل وليد غلمية، بعصاه، يبدو مرةً متواطئاً مع المتلقّي لإيصال المبدع، ومرة متواطئاً مع المبدع لإيصاله الى المتلقّي، ومرات متواطئاً مع المبدع والمتلقّي معاً لرفع الموسيقى الى ما يُرضي المبدع في إبداعه، وما يُرضي المتلقّي في ذائقته الموسيقية.

ومن يعرف أن يذوق هذا الجو، هذا المناخ، هذا الإطار الطبيعي الساحر الْـكأنه خارج هذا العالم السفلي مشرفاً على وادي قاديشا في هَيبة قنوبين، يفهم أكثر من قبلُ لِماذا بقي هذا الجو ضالعاً في كتابات جبران (بالعربية خصوصاً) وفي خلفيّة لوحاته (الجبال والوادي بينها)، ولماذا - وهو يرسم وجه صديقه ميخائيل نعيمة ذات عصر من 1922 - قال له: "أمنيتي يا ميشا أن أزور وادي قاديشا قبل أن أموت". لكأنه، هذا النوستالجيّ الكبير، لم يغِبْ عن بْشرّي ووادي قاديشا إلاّ بالجسد، وبقيَتْ خيالات بْشرّي والوادي وطفولتُه فيهما حيَّةً في عينيه وفكره وخياله وكلماته ولوحاته طوال عمره في ذاك البعيد النيويوركي، وظل يَحنُّ إليها جميعها حتى أوصى بشراء دير مار سركيس كي تستريح فيه رقدتُه الأخيرة، وكان له ما شاء.

تنتهي الأمسية على علْوة تلك الغيمة البشراوية في باحة المتحف. نغادر كمن يخرجون من هيكل الصلاة. تفرغ الباحة. نلتفت وراءنا مودّعين، نرى خيالَين يلوِّحان، كأنهما جبران ومعه ماري، كأنهما المصطفى ومعه الميترا تطمئننا الى أنْ... قليلاً ويولَدان مُجدداً من رحِم بْشرّي أخرى.

 

odyssee@cyberia.net.lb

 

يصدر هذا المقال في موقع "جماليا" بالتزامن مع نشره في صحيفة "النهار" البيروتية

 

 

لجبران خليل جبران

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

28/07/2008

nassabchaya@yahoo.ca

Nassab Chaya

العزيز هنري

أعجبتني نهاية مقالك للسهرة الموسيقية الرائعة في متحف جبران وكم تمنيت من  حسرة غربتي أن أكون معكم وأحس بروح جبران التي ترفرف هنالك فوق بشري كما ترفرف هنا فوق مونتريال... لهذا أقول لك يا صديقي ان جبران لن يولد مجدداً من رحم امرأة ولن تطيق روحه الانحباس بجسد بشري مرة ثانية. جبران قد أتم مهمته على الارض ولن يعود لعذابات الجسد، سيبقى روحا خالدة ترفرف فوق رأسي وراسك وفوق رأس كل جبراني آمن واتبع كلماته.  روح جبران أسمى من العودة الى هذه الارض التي تزداد تلوثاً وحقداً وحروباً من فعل الانسان. اتتذكر كلماته وما قاله عن روحه؟ إليك هذا النص باللغة الفرنسية تؤكد لنا ان روح جبران لن تعود الى الارض... لقد أصبح من ضوء ونور والعالم كله له ومعه.

Je suis un étranger dans ce monde....

Je suis un poète qui versifie la prose de la vie, et qui compose en prose ce que la vie versifie

Pour cette raison, je suis un étranger, et je resterai un étranger jusqu'au moment où les ailesblanches et fraternelles de la mort me ramèneront chez moi dans mon beau pays.

Là, où habitent la lumière, la paix et la compréhension, j'attendrai les autres étrangers qui seront sauvés de ce monde mesquin et sombre par le piège amical du temps.


Il y a une poignée d'آmes dans ce monde  qui paraissent ne pas appartenir à cette terre,

mais qui ont dû déviées de leur trajectoire sur le chemin
vers une autre planète, un autre monde

GIBRAN


 

   
 

.