3

:: جبران خليل جبران هدية لبنان إلى أميركا والعالم ::

   
 

التاريخ : 01/07/2006

الكاتب : هنري زغيب   عدد القراءات : 4935

 


 

ظاهرة جبران في الولايات المتحدة بعد 75 سنة على غيابه، ما زال نابضاً في الحياة الأميركية

لا يمكن الكلام على جبران وانتشاره المذهل في العالم، من دون التوقف بإجلال عند امرأة آمنت بِه حتّى رعَته حياتياً وأدبياً، وكانت وراء البذور التي أوصلته الى ما بلغه من شهرة عالمية. امرأة اسمها ماري هاسكل.

إن لهذه المرأة فضلاً لا على الأدب اللبناني وحسب، بل على الأدب العالمي الذي نبغ فيه جبران ولا زال ينبغ كل اليوم. صحيحٌ أنها لم تكن صاحبة فضل على موهبته، لكنها كانت ذات تأثير كبير قنوات تحتاجها الموهبة دائماً لتَعْبُرَ إلى الضوء. فما قيمة موهبة تلتمع في داخل النفق؟

* * *

حين وصلَت نسخة "النبي" الأولى إلى يدَي ماري هاسكل (في سافانا يوم 2 تشرين الأول 1923) كتبَت إليه رسالةً في اليوم نفسه، جاء فيها: "هذا كتاب سيُقتَنى كواحدٍ من كنوز الأدب، في لحظات ظلمتِنا وفي لحظات ضعفِنا. سنفتحه كي نجد ذاتَنا من جديد، ونجدَ في داخلنا الأرض والسماء. هذا كتابٌ لن تستهلكه الأجيال، بل على العكس: ستتلقّفه جيلاً بعد جيل فتجد فيه جواباً عن كلّ سؤال، وسيدخل القلب أكثر فأكثر كلّما غدا الناس أكثَرَ حباً".

أعَن حُبٍّ لجبران قالت ماري هاسكل هذا الكلام، أم عن إيمان بجبران؟ ربّما الاثنان معاً. فها هي، إذ عرفت نسيج جبران في كل تفاصيل قلبه والقلم، تذكر في تلك الرسالة: "وكلّما تقدّمت السنوات، سيُحب الناس كتابَكَ أكثر، ويُحبُّونك أكثر، طويلاً طويلاً بعد أن يعود جسدُكَ إلى التراب".

كانت تعرف أنه لن يكون مجرَّد شاعر أو فنان. كانت تعرف أنه سيتحوّل إلى "ظاهرة".

وهي صدقَت في حدسها، فها جبران بعد 75 سنة على غيابه (في 10 نيسان 1931) لا يزال متوهّجاً كأنه مات أمس، كأنه مات اليوم، كأنه لم يَمت بعد، كأنه لن يَموت أبداً.

هذا الغامض كصمت الليل، عرف، وهو حَيّ، كيف يُهيِّئ خلوده بعد مماته، ويستمر لغزاً. كأنه كان يعمل دائماً على تهيئة موته، وحياتِه بعد موته.

فكيف يكون مات ذات يوم، هذا الذي ما زال يتنقّل كل يوم على شفاهنا وأقلامنا، ويشغل كل يوم آلاف القرّاء والباحثين في غير واحدة من لغات العالم، يدفع كل يوم عمّال المطابع إلى إعادة طبع مؤلّفاته فلا يفرغون من كتاب إلاّ ليبدأوا بآخَر، فلا يبلغون الأخير حتّى يكون الأول قد نفد؟

وإذا طبيعياً أن يبقى جبران حياً في وطنه الذي رصد عليه كلّ قلبه وكلّ قطرة من قلمه حتّى قال فيه "لو لم يكن لبنان وطني لما اخترت وطناً لي غير لبنان"، وإذا كان طبيعياً أن يحيا في قلوب اللبنانيين الذين ضمّهم إلى قلبه بكل حنان في مقاله "لكم لبنانكم ولي لبناني"، فهل طبيعيٌّ أن يبقى حياً إلى هذا الحد في أميركا التي تصهر الملايين من كل جنس وجنسية؟ وهل يكفي أن يكون جبران "عاش" فيها كي تكرّمه بهذا الشكل بعد 75 عاماً على غيابه؟ وهل لمجرّد أنه كان "مقيماً" فيها، يبقى "حياً" فيها إلى اليوم، هي التي عاش فيها الملايين وماتوا ولا يذكرهم اليوم أحد؟

منذ يوم غيابه، ودّعته أميركا على الشكل اللائق. هذه الـ"هيرالد تريبيون" (في عددها الصادر صباح السبت 11 نيسان 1931) تنشر الخبر على رأس العمود الخامس من صفحتها الأولى تحت "مانشيت" من ثلاثة أسطر: "خليل جبران، الشاعر والفيلسوف، مات في السابعة والأربعين". وفي النص: "خليل جبران، الشاعر والفيلسوف والفنان اللبناني، توفي ليل أمس الجمعة في مستشفى سانت فنسنت متأثّراً بورم سرطاني خبيث في كبده. كان له من العمر سبعة وأربعون عاماً. وكان يسكن في ستوديو على الرقم 51 من الشارع العاشر غرباً. لم يكن متزوجاً. ترك شقيقة تدعى مريانا في بوسطن. وخليل جبران، لنحو ستين مليوناً من قراء العربية، هو عبقري عصره. لكن شهرته تعدّت الشرق الأوسط، رسومه عرفتها باريس ونيويورك، وكتاباته تَمّت ترجمتُها إلى اثنتي عشرة لغة. وقبل سنتين، كان احتفال بيوم ميلاده تقاطر إليه معجبون من ألمانيا وأميركا الجنوبية". وعلى الصفحة 23 من العدد نفسه نصٌّ على عمودين عن جبران الرسام والفيلسوف. وكذلك كان التكريم نفسه على الصفحة الأولى من الـ"نيويورك تايمز".

قبل أيام، اتصلتُ بالسيدة لوري دل كومون (المسؤولة عن إعادة الطبع في مؤسسة "كنوف") في نيويورك، وسألتُها عن آخر الأرقام التي لديها عن جبران. بأقل من دقيقة عادت إليّ تقول لي إن "النبي" اليوم في طبعته الـ109، ومبيعاته باتت تسعة ملايين ونصف المليون نسخة، ونستعدّ لإصدار مجموعة جبران كلّها في حلة جديدة تتفاوت طبعاتها بين التاسعة والخامسة عشرة، وفي الإعداد طبعة جديدة، هي الثانية عشرة، لكتاب باربرة يونغ "هذا الرجل من لبنان".

وأسأل دل كومون: "أما تزالون تعتبرون "النبي" أكثر كتبكم مبيعاً في تاريخ منشوراتكم؟" فتجيب بثقة تامة: "عدا كتاب المقدس، كتاب "النبي" هو الأكثر مبيعاً بين جميع دور النشر الأميركية".

لا أستغرب هذا الجواب. مراراً قرأتُهُ، ومراراً سمعتُ به حتّى من أميركيين ضالعين في الوسط الأدبي الأميركي. وخلال وجودي ست سنوات في الولايات المتحدة وتنقُّلي في جامعاتها ومؤسساتها الثقافية المختلفة، عدا عشرات المنازل التي أزورها، نادراً ما كنتُ أدخل مكاناً ولا يكون فيه "النبي".

بعض ما لاحظتُه حول تراث جبران في أميركا أن اسمه معروف، لكن "النبي" أحياناً معروف أكثر من اسمه. فقد يصدف أن أجد من لم يحفظ اسم "كاهليل جبران" (كما يلفظونه في أميركا) لصعوبة لفظ الخاء العربية، لكنني لم تجد من لم يسمع بـ"النبي" أو قرأه أو عرف عنه. سوى أن غير المعروف غالباً أن جبران... لبناني. كثيرون من الأميركيين الذين يعرفون "النبي"، ويظنون جبران أميركياً أو من الشرق الأقصى. وقليلون يعرفون تحديداً أنه من لبنان.

على أن هذا اللبناني الضالع اليوم في أميركا كما القلائل من مبدعيها، لم يبقَ على هامش الحياة العامة فيها. بل تَمّ تكريمُهُ على أعلى منبر سياسي في أميركا، وانحنى لهذا اللبناني اثنان من رؤساء أميركا: رونالد ريغن (يوم كان يتنافس على قيادة العالم هو ونظيره السوفياتي عهدئذ)، وجورج بوش الأب (حين أصبح رئيس الدولة التي باتت وحدها تحكم العالم).

ففي 7 نيسان 1983 (خلال الاحتفالات بمئوية ولادة جبران) تأسست في واشنطن "مؤسسة جبران الوطنية" وأخذت تعمل لتخليد ذكراه على أعلى المستويات.

وفي 19 تشرين الأول 1984، خلال جلسة علنية للكونغرس الأميركي (الثامن والتسعين في تاريخ الولايات المتحدة) وكانت الجلسة برئاسة رونالد ريغن، وافق أعضاء الكونغرس بالإجماع على القرار 537/98 القاضي بمنح "مؤسسة جبران" قطعة من 8000 متر مربع على أرض الدولة في العاصمة واشنطن لوضع نصب تذكاري فيها وسط حديقة عامة يطلق عليها اسم "حديقة جبران التذكارية". وفي نص القرار الذي وقّعه الرئيس ريغن جاء حرفياً: "إن الكونغرس أعطى هذا الحق بصورة استثنائية، تقديراً لأديب كبير أغنى المكتبات الأميركية والعالمية بمؤلفاته القيّمة المترجمة إلى أكثر من خمسين لغة عالمية بلغت مبيعاتُها رقماً قياسياً، حتّى أن كتاب "النبي" وحده بيع منه حتّى اليوم 7 ملايين نسخة في الولايات المتحدة وحدها". ويومها أعطى الكونغرس مهلة خمس سنوات للمؤسسة كي تبادر إلى تأمين المبلغ المطلوب (مليون دولار) لإنْجاز التمثال وتجهيز "حديقة جبران التذكارية".

في 17 تشرين الثاني 1989، قبل يومين من انتهاء مهلة السنوات الخمس، كان حشدٌ برئاسة وزير الداخلية الأميركية مانويل لوجان يحتفل بعد ظهر ذاك الثلثاء الماطر بتدشين أرض جبران رسمياً وغرْس ثلاث شجرات أرزٍ، واحدتُها من تسعة أمتار جيء بها من غابة الأرز في بشري. وفي اليوم التالي وصل فريق لوجستي هندسي إلى قطعة الأرض (رقم 3000 على جادة ماساشوستس) مقابل السفارة البريطانية وقرب منزل نائب الرئيس الأميركي، وعند منتصف المسافة بين مسجد واشنطن الشهير وكاتدرائية واشنطن التاريخية وابتدأت ورشة العمل.

ويوم الجمعة 24 أيار 1991، وقف الرئيس جورج بوش الأب أمام المحتفلين بتدشين الحديقة يخطب فيهم عن "ذاك الرجل من لبنان".

يومها، كان في صدر المكان تمثال جبران: رأس جامح على قلق، تنساب من تحته مياه جارية في سقسقة تذكّر بسواقي بشرّي، حوله ثلاث يمامات وشلْح تفاح وإكليل من دالية عنب، خلفه نافورة مياه وسط بركة مثمّنة الأضلاع ذات أرض من حصى، حولها مَمر مستدير يلف النافورة وساحتها مغمورة بالزهر الجميل والعشب الأخضر ويظللها شجر الحور. وعلى متكأ كل واحد من المقاعد الحجرية الستة، عبارة لجبران من كتبه. نقرأ عليها: "نعيش معاً لنكتشف الجمال، كل ما عدا ذلك شكلٌ من الانتظار" ونقرأ: "نستخرج عناصركِ، أيتها الأرض، لنصنع بها مدافع وقنابل، وأنتِ من عناصرنا تخلقين الليلك والورد" ونقرأ: "الحياة بلا حرية، جسد بدون روح. والحرية بدون فكر: ضياع". ولا نكمل القراءة لأن الرئيس بوش الأب وقف حدّ التمثال المكتوب تحته: "جبران شاعر وفيلسوف" وقال: "إنه لشرف لي، وأعني ذلك من قلبي، أن يُطلب مني افتتاحُ هذه الحديقة لرجلٍ عمِلَ الكثير من أجل الشّعر، ومن خلال الشّعر عمل لنا جميعاً، من خلال إيمانه بالأخوّة ودعوتِه إلى الحب، وما هو أهَمُّ من ذلك: ولعُهُ بالسلام. إنّ شجرات الأرز التي تظلل حديقة هذا الشاعر تذكّرنا بالأشجار التي ظلَّلت مكان ميلاده في لبنان. وكلماته المنقوشة هنا على المقاعد حولنا، وهي كلمات بليغة جداً وجميلة جداً، ستكون صدى لتلك الكلمات التي زرعها في ذاكرتنا، ونظرةً شاملةً إلى العالم اليوم تُرينا العالم يتقدّم نحو رؤيا جبران للسلام، فنشعر بالحاجة إلى تجديد رسالته نحو السلام والتسامح. وقد لا تكون هذه الحاجة إلى السلام أشد إلحاحاً من الموطن الذي جاء منه جبران. وإننا سنبذل جهدنا لإعادة السلام إلى ذلك الجزء الحيوي التاريخي من العالم. وجبران نفسه كتب ذات يوم: "الحبُّ كلمة من ضوء كتبتها يد من ضوء على صفحة من ضوء". تلك اليد إنما هي يدُه، وتلك الصفحة إنما هي قلوبنا.

في هذا المنحى نفسه، وعن ذاك "الجزء الحيوي التاريخي من العالم" نفسه، كان الكاتب والناقد الأميركي كلود براغدون عام 1938 في كتابه "أكثر من حياة في واحدة" كتب عن جبران: "تنبع قوّته من مقلع كبير للحياة الروحية ما استطاع لولاها أن يكون بهذه الكونية والشمولية. أما الجمال والجلال في تلك اللغة التي بها كسا أفكاره تلك، فهما من نحته هو وابتكاره".

احتراماً لهذا الإطار بالذات الذي منه نبع جبران ونبغ، نجد منشورات "كنوف" الأميركية الشهيرة في أميركا (ناشرة جميع كتب جبران منذ التقى المؤسس ألفرد كنوف جبران ونشر له "المجنون" عام 1918) تتعمّد أن تنشر على غلافات كتب جبران الفقرة نفسُها: "خليل جبران: 1883- 1931، شاعر وفيلسوف وفنان، ولد في لبنان، الأرض التي أنبتت أنبياء وشعراء. يعتبره الملايين من أبناء العربية عبقري عصره. لكن مجده وتأثيره تخطّيا حدود الشرق الأوسط. فشِعره مترجم إلى أكثر من عشرين لغة، ورسومه ولوحاته عُرضت في كبريات عواصم العالم. أما هنا في أميركا، حيث عاش معظم حياته، فكتبه ولوحاته الساحرة معروفة ومحبوبة من ملايين الأميركيين الذين يجدون فيها صورة ذواتهم ويشعرون فيها بصدى نبض يوجِّه فيهم العقل والقلب".

هذه الكلمات القليلة والعميقة من ناشر جبران (وهو الأدرى بانتشار كتب جبران لأنه ينشرها ويعيد نشرها بدون انقطاع) لعلّها تفسّر في إيجازٍ بليغٍ سرّ انتشار جبران في أميركا، وسرّ بقائه نابضاً حياً في قلوب الأميركيين.

لذلك كتب الدكتور سهيل بشروئي (أستاذ كرسي جبران في جامعة ميريلاند): "... فيما نجد شاعراً أميركياً كبيراً مثل روبرت فروست، ظلّ عدة سنوات مجهولاً من أبناء وطنه، كان استمرار شعبية "النبي" دليلاً دامغاً على مكانته في قلوب الأميركيين وعلى صيرورة جبران جزءاً لا يتجزأ من إرث أميركا الأدبي".

وهو هذا ما دفع شاعر لبنان سعيد عقل إلى القول: "ميزة جبران: البساطة على كمية أناقة معتدلة، تزعج إذا زادت ولا تعود أناقة إذا نقُصَت، وهذا ما جعله وسوف دوماً يبقيه حياً في قلوب الأميركيين من جيل إلى جيل".

كل هذا كان استبقه جبران حين كتب في مجلة "العالم السوري" لسلُّوم مكرزل (وكان جبران ينشر فيها جديده بالإنكليزية) موجهاً كلامه إلى رفاقه اللبنانيين والعرب في أميركا: "أن تكون مواطناً صالحاً، يعني أن تقف أمام أبراج نيويورك وواشنطن وشيكاغو وسان فرنسيسكو قائلاً في قلبك: "أنا سليلُ شعب بنى دمشق وبيبلوس وصور وصيدا، وها أنا الآن هنا لأبني معكم" ("العالم السوري" - 25/4/1926).

انطلاقاً من هاتين الشمولية والكونية، وقف يوماً ميشال حلبوتي (أحد المسؤولين في "مؤسسة جبران الأميركية" في هيوستن تكساس) خلال العمل على إعداد حديقة جبران وقال: "ولِد جبران في ظلال أرز لبنان، ولم يُبدِ أحدٌ قبله أو مثله هذه المقاربة من الحياة ومعانيها. كان يمثّل روح لبنان، وكتاباته بلغَت أعمق ما في القلب من معان روحية وعاطفية. أحَب لبنان في جموح لم يعادله إلاّ حبُّه شعبَ لبنان".

هذه الروح اللبنانية التي لم يفقدها جبران وهو في أميركا، جعلَت الأميركيين يرون فيه مسحة غريبة عنهم، أحبوها واعتنقوها، مع أن أدباءهم والفنانين والمبدعين وحتّى الأكاديميين لا يزالون يعتبرونه "دخيلاً" عليهم. وهو قد يكون عرف ذلك لكنه لم يَحِد عن إيمانه. وهذا بالضبط ما رمَت إليه شيريل أمين (مديرة لجنة جبران الأميركية) حين قالت يوم تدشين الحديقة: "هدفُنا ليس تكريم جبران فقط، بل العمل على نشر الأفكار التي زرعَها في كتبه: الأخوّة والرابط الإنساني بين جميع الشعوب. إن جبران هدية اللبنانيين إلى أميركا".

لكن هذه الكينونة بين لبنان وأميركا كلّفته الكثير من الأعصاب. ها هو يقول لماري هاسكل (في 6 آب 1912): "أنا حائر بين عالمين: لبنان وأميركا. والانتظار طويل ومرهق". وها ماري تكتب في مذكراتها (نهار 31 آب 1914): "إن تقدّم إنكليزيّة خليل مذهلة. بات يكتب نثراً إنكليزياً هو في قلب الشِّعر المنثور".

وكان لماري هاسكل فضلٌ كبير في تشجيعه لا على الكتابة بالإنكليزية مترجمة عن العربية بل على "التفكير بالإنكليزية" (رسالتها إليه في 12 كانون الثاني 1915). وهذا ما دفعَه إلى الإقدام على نشْر أول قصيدة له بالإنكليزية نفحَتْها له ماري بتشجيع عظيم، وهي مهداة إلى الفنان الأميركي الكبير ألبرت بنكهام رايدر، طبعها على ورق خاص وعدة نسَخ خاصة وأرسلها إلى الفنان الذي كان زار معرض جبران في نيويورك 14 كانون الأول 1914 وأُعجِب بإحدى لوحاته.

ومن يومها أخذ يغزو أميركا ريشةً وقلماً. وها هي الناقدة الأميركية أليس روفايل تكتب (في 3 آذار 1917): "إن جبران يقف على الخط الفاصل بين الشرق والغرب، بين الرمزية والتعبيرية، بين الرسم والنحت، بين الشّعر والنثر. إنه جديدٌ علينا".

وبعد صدور "المجنون" (25 تشرين الثاني 1918) أول كتبه بالإنكليزية، بدأتْ أوساط نيويورك تتلقَّف جبران بشغف كثير وتدعوه إلى مناسباتها الأدبية. ومن الأصداء التي قطفَها، أن النقد قدّمه للأميركيين على أنه "عبقري عصره وأنه، في الشرق الأوسط، رديف طاغور".

ويصدر "السابق" (10 تشرين الأول 1920) فتتَّسع شهرة جبران أكثر، إلى أن يبلغ قمته في "النبي" الذي يوم ظهر في 28 أيلول 1923 جعل جبران من المكرّسين.

وبين صدور "النبي" (1923) وغياب صاحبه (1931) ثماني سنوات قضاها جبران متربعاً على هالة من التقدير الأميركي جعله يوكل إلى صديقه الأرشمندريت أنطونيوس بشير ترجمة مؤلّفاته الإنكليزية، لينصرف هو إلى ترسيخ شهرته وكتاباته الأميركية مصْدِراً بالإنكليزية على التوالي "رمل وزبد" (9 أيار 1926)، "يسوع ابن الإنسان" (7 تشرين الأول 1928)، و"آلهة الأرض" 15 آذار 1931 (قبل وفاته بأقل من شهر).

تلك السنوات الثماني كانت حافلة بتوسيع شبكة معارفه الأميركية: دعاه الناشر الهندي الأميركي سيد حسين إلى المشاركة في تأسيس مجلة "الشرق الجديد" (نيسان 1925) فلبى، داخلاً في حلقات الأدباء والفنانين الأميركيين. وفي العدد الأول كتب حسين في افتتاحية العدد: "لا نجد اليوم أكثر إخلاصاً وصدقاً وأكثر تمثيلاً للشرق في الغرب من خليل جبران".

ويوم دعاه إخوانه في "الرابطة القلمية" (5 كانون الثاني 1929) إلى حفلة تكريم في القاعة الكبرى لفندق ماك آلْبِن في نيويورك عشية عيد ميلاده، لم يكونوا يكرّمون شاعراً لبنانياً هو عميدهم، بل كانوا يكرّمون فيه أديباً عالمياً.

وفي 7 آذار 1930 تكتب الشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال إلى صديقتها إيديلا بورنيل (رئيسة تحرير مجلة "النخل" المكسيكية): "ثمة شخص واحد أودّ زيارة النيويورك من أجل أن أتعرّف عليه: خليل جبران".

عصر الثلثاء 14 نيسان 1931، حين كان المشيّعون في كنيسة سيّدة الأرز في بوسطن يُلقون على جبران النظرة الأخيرة، كانوا يعرفون أنه لم يغادرهم.

ومساء الأربعاء 29 نيسان 1931، في الحفلة التأبينية التي أقامها شارل فليشر في قاعة متحف زوريخ (نيويورك)، استهلّ خطابه مستشهداً بكلام جبران في "رمل وزبد": "رُبَّ مأتم بين الناس هو عرس بين الملائكة". وخطباء ذلك الاحتفال: كلود براغدون، سيد حسين، ميخائيل نعيمة، باربرة يونغ، شددوا على أنهم لا يحتفلون بإنسان مضى، بل بإنسان حي بينهم.

والذين اجتمعوا صباح الخميس 23 تموز 1931 على رصيف مرفأ بروفيدنس (ولاية رود آيلاند المحاذية لنيويورك) يودّعون جثمان جبران (على متن الباخرة سينايا التابعة لخطوط فابر البحرية كي تحمله من أميركا إلى مرفأ بيروت ومن هناك يأخذ طريقه إلى مثواه الأخير في بشري) كانوا يعرفون أنّ الذي غادر أميركا لم يكن جبران بل جثمانه. أما روحه في قلمه وريشته وتأثيره فباقية جميعها إلى سنوات طويلة.

وها انقضت حتّى الآن 75 سنة على ذاك الغياب الأخير، وهو يتجدّد شروقاً مع كل فجر جديد، لا في أرضه الصغيرة التي تتفيأ ظلال الأرز، بل في هذه الأميركا الواسعة الشرهة إلى تذويب ملايين الوجوه والأسماء، تتحول فيها إلى أرقام مجهولة ومنسية.

إلاّ هو: ما زال فيها مشعّاً على أجيالها الأميركية جيلاً بعد جيل، حاملاً لبنانه في أميركا، وزارعاً روح الشرق في جسد الغرب، وباقياً في الأفكار والقلوب والمراجع اسماً لا يزول.

من هنا أنه، في الولايات المتحدة، لم يعد رجلاً، مجرد رجل. صار ظاهرة. ظاهرة "أميركية" من لبنان.

ظاهرة الذي، في الحادية عشرة إلاّ خمس دقائق من ليل الجمعة 31 نيسان 1931، في الغرفة 301 من الطبقة الثالثة في مستشفى "سانت فنسنت" في نيويورك، لم ينطفئْ منه سوى لهاث الجسد.

أما لهاث الروح فباقٍ ينفث شعلة الحياة في كلمات ذاك الذي لم يَمت يوم مات. وكيف يكون مات ذات يوم، وهو الذي يضيء أحاديثنا وكتاباتنا كل يوم؟

بالضغط هنا يمكنكم الاستمتاع بألبوم يضم بعضاً من لوحات العبقري الفنان جبران خليل جبران

واللوحات منقولة من الموقع

www.kahlil.org

إضغط للوصول إلى صفحة اللوحات في موقع جماليا

 

 
   
 

التعليقات : 1

.

06/02/2009

saadoun1980@yahoo.com

سعدون حمادي الحسني

تحية عميقة بالاحترام للأستاذ الأجمل هنري زغيب، وأطلب منه طلب متواضع، أن يزوّدني بإيميل الأستاذ الجبراني سهيل بشروئي.


 

   
 

.