3

:: حبيب مسعود عشق لبنان وحُرم ترابه ::

   
 

التاريخ : 15/09/2017

الكاتب : جوزف أبي ضاهر   عدد القراءات : 2332

 


 

 

«عدتُ إلى لبنان لأرقد في ترابه... لا أريد أن يُعيدوني إليه كما أعادوا جبران».

... ومسح جبينه بكفّه، بعد أن رفع بالأخرى قبعته، وتنهّد: «ما أجملك يا لبنان».

انطبع هذا المشهد ـ الصورة في ذاكرتي منذ التقيت حبيب مسعود، لأوّل مرّة، عند الشاعر الزجلي طانيوس الحملاوي في الإذاعة اللبنانيّة.

كان رجع من الغربة، وعمره شارف على السبعين:

ـ «أفْضلُ التغرّبِ وأحلاه مرٌّ وصعب، ومرّات كثيرة موجع. لا تعرف الأعماق فيه سكينة، ولا ترضى بديمومة... ولو دامت حتّى عودة التراب إلى تراب ليس منه (...). المهاجرون، في غالبيتهم، نسوا أحلامهم على أرصفة الموانئ، ربّما قسرًا. ما استطاعوا أخذها معهم، أو لم يُسمح لهم بوزن يزيد عن وزن الأجساد المتوتّرة، الساعية إلى المجهول»... وأقفل الكلام على لقاءات وتتمّة.

 

لَحِقَ بأهله

«ناولون» السفر إلى المجهول، دَفَعهُ أهل حبيب مسعود، وهو بعد في أوّل العمر. ما شبعوا من شمّ ابنهم وضمّه، ولا هو شبع من حضورهم.

ولد حبيب سنة 1898، حسب المدوّن في سجلّ عِماد كنيسة بلدته «الخالديّة»، المجاورة لزغرتا. وكما أولاد جيله، حين بلغ سنواته الخمس، أُرسل إلى مدرسة كاهن الرعيّة. تعلّم الأبجديّة وقراءة المزامير وبعض السريانيّة لزوم المشاركة في الصلوات الكنسيّة والاحتفالات الطقسيّة.

«أما أسعد الأيام في تلك المدرسة (يقول حبيب)، يوم نكبر فنرى الخوري بجبّته الرسميّة التي كانت تبشرنا بغيبته، وغيبته تعني انفلاتنا من المدرسة التي كنّا نحسبها جحيمًا، أو على الأقل معتقلاً حربيًّا للأسرى»... غير أن ذكرى هذه المدرسة ظلّت تلازمه، وظلّ يلهج بالشكر والدعاء لها «لأنها شقّت لنا بمعولها الصغير طريق المعرفة، وأنارت بمصباحها الضئيل أذهاننا».

يوم دخل عامه التاسع، انتقل إلى بيروت ليكون في رعاية أخته زمرّد. أدخلته مدرسة الحكمة، وكانت تُعرف، يومها، بـ «مدرسة المطران»، فحظي برعاية معلّمه شبلي بك الملاّط، وكان أمر ولاية المدرسة للمطران بطرس شبلي الذي خلف المطران المؤسّس يوسف الدبس (1908).

سَعَت زمرّد لتحلّ محلّ الوالدين اللذين هاجرا إلى البرازيل، «بعد تعرّضهما لمأساة اجتمع على تمثيلها النَهَم والمَكر والاقطاعيّة، فقلبت يسرهم عسرًا، وقضت بهجرهم»، وبعد سنوات خمس (1913)، لَحِقَ حبيب بهم فلاقى صعوبات فائقة، عرفها من سبقه إلى الغربة، ومن أبرزها عدم معرفة لغة أهل «البلاد الجديدة»، ومعظم المهاجرين دخلوا اليها «باعة كشة»، يجولون في أحيائها بحثًا عن رزق يقيت الأجساد، وكسبًا للتعلّم والانخراط في المجتمع.

«صحيح أن القَدَر، وأنا أؤمن به، وصلوات أهلي فتحوا أمامي باب البحر لأهاجر، قبل أن تندلع نار الحرب العالميّة الأولى، وتذيق أهلنا، خصوصًا، وأهل الشرق عمومًا، الويل والعذاب والموت شنقًا، أو جوعًا... ومَن شُرّد من أعلامنا، لم يكن أفضل حالاً ولو بقي حيًّا... هذا القَدَرُ خصّني ببعض طموح لأحتمل ما احتملت، قبل أن أذق طعم الأمان والنجاح».

 

حضور أدبي وصحافة

سنوات قليلة في الأرض الجديدة كانت كافية، ليتمكّن الفتى حبيب من تحقيق بعض الحضور الأدبي بين المهاجرين اللبنانيّين والعرب.

أولى الخطوات: تأسيسه مع مواطنه أنطون سليم سعد جريدة «الأنيس» (1916)، ثم تولّيه التحرير في صحيفة «الجديد» لتوفيق ضعون والياس فرحات (1919)، فجريدة «النهضة اللبنانيّة» (1918) التي تسلّم رئاسة تحريرها «لتكون لسان حال ـ النهضة ـ تبثّ أفكارها، وتعبّر عن آمالها وأمانيها.

قام بمهمته خير قيام، نحو عامين، توقّفت بعدها الجريدة عن الصدور، فانصرف إلى الاتّجار بالحرير، وعلى رغم لين ملمس هذه البضاعة، كانت عليه كأفاعي عنترة، فالتمس الرزق من غير بابها.

وصف مسعود (في هذه المرحلة) الأديب المغترب بأنه: «الأديب الضائع الذي أفنى عمره من أجل قومه ولغته فما أصاب سوى افتئات المقيمين وإهمال المغتربين. أنشأ الصحف وأصدر الكتب واعتلى المنابر وعمَّر المحافل فعاش مهملاً ومات معدمًا. حمل لواء العربيّة في ديار غربته وناضل في سبيل عصبيته فما ظفر بغير البلغة (!). واكب قوافل عشيرته النازحة فكان حاديها ورسولها ولسانها وبشيرها ومؤاسيها، مستشهدًا كل يوم في سبيل لغة لا تكفي له حتّى الكفن».

سنة 1931 تعاون مسعود مع نسيبه شبل مسعود لاصدار كتاب «جبران حيًّا وميتًا»، فجاءَ سِفرًا نفيسًا في زهاء أربعمائة صفحة، مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق صقيل، ومزدانًا بالرسوم والخطوط، ضمّ بين دفّتيه خير ما قاله جبران، وما قيل فيه، وفي سبيل ترويجه قام برحلتين إلى جمهوريّتي الأرجنتين والأورغواي، استمرّتا حتّى مستهل سنة 1933».

 

العصبة الأندلسيّة

مثّلت «العصبة الأندلسيّة» في أميركا الجنوبيّة دور النهضة الخلاّقة الذي مثلته «الرابطة القلميّة» في أميركا الجنوبيّة... ولتأسيس «العصبة» حكاية رواها واضع فكرتها الشاعر شكرالله الجرّ:

«... لمّا كان العدد الأكبر من أدباء الضاد اتخذ من سان باولو المدينة الصناعيّة العظمى مركزًا لأعماله، فكّرت في إنشاء جامعة أدبيّة تضمّ أقلام كبار كتّابنا فيها. استشرت أخي عقل فحبّذ الفكرة وشجعها. ولدى وصولي إلى المدينة اتصلت باخواني الأدباء عارضًا عليهم الفكرة، وما نجنيه أدبيًا واجتماعيًّا من اتحادنا في عصبة، أو جمعيّة، تعمل لمجد الأدب وكرامة الأدب.

«ولمّا تعذّر في الجلسة التأسيسيّة اجتماع معظم الأدباء، ممن كان يهمنا ادماجهم بعصبتنا، اكتفينا بمن لبّى الدعوة منهم، يومذاك، وهم الأساتذة: ميشال بك معلوف، نظير زيتون، الشيخ حبيب مسعود، اسكندر كرباج، نصر سمعان، داود شكور، يوسف البعيني، حسني غراب، يوسف أسعد غانم، أنطون سليم سعد وشكرالله الجرّ كاتب هذه السطور.

فسّر حبيب مسعود معنى تسمية «العصبة بالأندلسيّة»:

«إنه التيمّن بالتراث الغالي الذي تركه العرب في الأندلس، والإشارة إلى الابتعاد عن التطرف الذي اتسمت به «الرابطة القلميّة» في الشمال، مع أن الشبه بعيد جدًا بين الأندلس القديمة والأندلس الجديدة. فالعرب دخلوا الأندلس فاتحين ونشروا هيبتهم وحموا بسيوفهم مؤسساتهم ولغتهم فدرج الأدب والعلم في ظلال أعلامهم وزها الشعر في خمائل مجدهم. أما نحن فقد دخلنا أرض كولومبس مسترزقين طالبين عطفًا وسائلين عدلاً. فلا يبرر تسمية بيئتنا بالأندلسيّة إلاّ اعتبارنا أن نشر الأدب العربي في البلد الغريب وفي الأميّين من قومنا هو فتح مبين. وان الانصراف إلى الأدب هو نوع من الاستشهاد».

بعد انطلاقة «العصبة» كُلّف حبيب مسعود بإصدار مجلّة تحمل اسمها، يتولى إدارتها ورئاسة تحريرها، فصدرت «العصبة» مجلّة أدب وفن (1934).

 

«ما أجملك يا لبنان»

بعد عقود ثلاثة وسنوات ست، عاد حبيب مسعود، إلى لبنان ممثلاً صحافة المهجر الأميركي الجنوبي في مؤتمر الأونيسكو، الذي تولى رئاسته طيلة انعقاده في بيروت وزير التربية والخارجيّة حميد فرنجيه، وافتتحه رئيس الجمهورية اللبنانيّة الشيخ بشاره الخوري بكلمة جاء فيها:

«ليس لي أن امتدح البلد الذي شرّفني برئاسته الأولى، ولكني أستطيع أن أقدّمه لكم مستوفيًا شروط التربة الخصبة حيث تينع حنطة الزرّاع.

«ان لبنان هو صديق الحقيقة، انه تلك الأرض المختارة، أرض التفاهم والتسامح والحرّيات والطوائف العديدة التي يتألف منها وتمتاز بسعيها المتواصل لتعزيز التفاهم فيما بينها، ولأن تفي بحقوق بعضها بعضًا بعدل متبادل، ولأن تتواصل بمحبّة صحيحة، وقد يكون في المثل الذي تجتهد بتقديمه قدوة حسنة للمفتدين».

انتهى المؤتمر، وبقي مسعود في لبنان سنة كاملة متجولاً في مدنه وقراه، ملبّيًا الدعوات لإلقاء محاضرات في الأدب اللبناني والمهجري وأوضاع المغتربين «فالمغترب اللبناني في البرازيل يختلف عن مواطنه المغترب في بلدان أخرى، بأنه استمر على صلة بوطنه».

هذه المحاضرات وغيرها من الكتابات والانطباعات والذكريات جمعها حبيب مسعود وعاد بها إلى مُغتربه ليصدرها سنة 1952 في كتاب عن منشورات مجلّته «العصبة الأندلسيّة» ، حمل عنوان: «ما أجملك يا لبنان». اعتُبر من أجمل ما كُتب في أدب الرحلات، وختمه بكلمة فيها:

«أغادر لبنان واشغافي عليه اليوم أكثر منه بالأمس، غير أني لا أنفكّ مؤمنًا به وبرسالته.

«ان للعناية سرًّا في صونه، فهي التي صانته على مرّ العصور، وأنقذته مرارًا من بين أشداق الفاتحين وبراثن الطامعين، وهي التي تصونه اليوم، وتنقذه غدًا، ليظلّ أداة تفاهم بين الشرق والغرب.

«حفظ الله لبنان بعناصره المتحدة، وأراني مرّة أخرى وجهه الجميل».

عاد حبيب مسعود إلى البرازيل متابعًا نشاطه الأدبي والصحافي في غير موقع واتجاه. «آخذًا على عاتقه تعزيز الأدب العربي وتآخي الأدباء، وتعزيز ورفع مستوى العقليّة العربيّة، ومكافحة التعصّب، ونقض التقاليد التي تنافي روح العصر (...) ومتخوّفًا من ضياع اللغة العربيّة في المهاجر: فليس الفضل أن تصون لغتك وأنت قابع في دارك، بين عشيرتك، كالفضل في أن تصونها وتحصّنها وتشقى من أجلها في بلاد غريبة عنك لسانًا وعادة وعرفًا».

بعد توقّف مجلّة «العصبة الأندلسيّة» لأسباب اختصرها مسعود بأنها «ماديّة»، تولّى رئاسة تحرير مجلّة «المراحل» التي كانت تصدرها مريانا دعبول فاخوري في سان باولو باللغتين العربيّة والبرتغاليّة.

 

رغبة لم تكتمل

«... لبنانيًّا رَحلتُ، ولبنانيًّا عُدتُ. عربيَّ اللسان ذهبتُ، وعربيَّ اللسان رجعتُ، مؤمنًا بروحانيّة شرقيّة هاجرتُ، ومؤمنًا بها قفلتُ، حملتُ لبنان في قلبي، والعربيّة على لساني وقلمي، فأديتُ ما استطعت رسالتي للبنان وللفصحى».

كتب ذلك، وأقفل باب الهجرة... وجهته لبنان ليحقق رغبة بالبقاء فيه حتّى الغياب فيضمّه تراب بلدته.

عاد حبيب مسعود سنة 1966 «تلبية لرغبة لجنة جبران الوطنيّة التي استقدمتني من البرازيل لرعاية تراث جبران الأدبي والفنّي. وإعادة طبع المجموعة التي أصدرتها في سان باولو بعد وفاة جبران بعام، فكان لرأيها تجاوب في نفسي اقتضى جهدًا وعكفًا كانت حصيلتها الطبعة الجديدة التي تزدان بما أضفتُ إليها من موادَّ خلت منها الطبعة الأولى، كالفصول التي اقتطفتها من كتابي «التائه» و«حديقة النبي» اللذين لم يُنشرا إلا بعد أن طُوي مؤلفهما، وقد نقلهما إلى العربيّة الأستاذ عبد اللطيف شراره، وفصل «بين جبران ومي» وهو مؤلف من بضع رسائل تبادلها جبران ومي، وبعض آراء في جبران وقعت عليها في غضون العقود الثلاثة الأخيرة... وهكذا جُمع الرأي العالمي والأدب العربي فيه».

صدر الكتاب، واحتفل به مع أصدقاء ورجال أدب وفكر، وأكمل دوره وحضوره الخافت قليلاً حتّى سنة 1976، حين اشتدت الحرب على لبنان من داخل ومن خارج.

... ولم يغيّر موقعه. ظلّ على تمسّكه بوحدة الأرض والناس على رغم حزن شديد أصابه ممّا رأى وسمع.

آخر مرّة التقيت به في «إذاعة لبنان»، سمعته يردّد بحزن أبياتًا لصديقه الشاعر الياس فرحات:

بالأمس كنت إذا لقيت مفاخرًا       فأخــّــرته  متشــــــامخًا اتبسّـــــــم

إن قال ممّن أنت؟ طرتُ حماسة    وحدّجته  بلواحــظ تتضـــــــــــرّم

وأجبته: - من أمّـــــة جبـّــــــــــــــــارة       تفنى إذا غُزيت ولا تستسلم

فإذا سُئلتُ اليوم غالبني الحيا       فسترتُ وجهي وانثنيت اتمتم

ماذا أقول  وفي الفــــــؤاد مــرارة       منها يسيل على اللسان العلقم

 

بعد ذلك التاريخ، لم يعد حبيب مسعود موجودًا.

خُطف، اختفى، قتل، عُذّب... انتهى كلّ شيء ولم يحظَ بكمشة من تراب بلدته يضمّه. 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.