3

:: قوَّةُ صخرة؟ أَو هشاشةُ حَصاة؟ - أَزرار - 996 ::

   
 

التاريخ : 01/07/2017

الكاتب : هنري زغيب   عدد القراءات : 1986

 


 

فرغتُ ليلة أَمس من قراءة كتاب جاك لانغ "معارك اللوفر الكبير"، وفيه مراحل المشروع متخطِّـيًا معارِضيه ومناوِئيه، منتهيًا إِلى ما هو عليه اليوم من جمال وجلال يُــتَــوّجُ جبينه الـهَرَم المهيب.

 

       لستُ هنا لأَطرح مضمونَ الكتاب نصوصًا وصوَرًا، بل نقطةً رئيسة لفتتني في مطلع المقدمة، روى فيه المؤلف أَنّ فرنسوا ميتّران، بعد أَيام قليلة على تسلُّمه الحُكم (أَيار 1981) وتشكيلِه حكومتَه الأُولى، استدعى إِلى الإِليزيه جاك لانغ، وكان عيَّنه وزيرًا للثقافة، وطلب إِليه الإِسراع الفوريّ في أَمرين: وضْع لائحة بمشاريع ثقافية كبيرة للعاصمة باريس تكون هندسيًّا ورمزيًّا ذات جدوى ثقافية وفكرية، ووضْع لائحة أُخرى لإِنشاء مراكز ثقافية وفنية في كل البلاد، تكون "مناهل حياة ومعرفة" كما عبّر عنها الرئيس.

       وحين بعد أَسابيع عاد الوزير المثقَّف جاك لانغ حاملًا إِلى الرئيس لائحتَين، كان سرور ميتران كبيرًا، وأَشار بِإِصبعه إِلى مشروع توسيع "اللوفر" وقال كما في حُلم بعيد: "سنجعله أَكبر وأَجمل متحف في العالم". وراح الرئيس يدعم وزير الثقافة بقوّة وصلابة كي يُنجز تلك المشاريع، وبسرعةٍ وافق على رفع ميزانية وزارة الثقافة من 0،07% ، إلى 1% من موازنة الدولة.  

 

       هكذا إِذًا: كان في رأْس أَفكار الرئيس إِنشاءُ أَعمالٍ ثقافية يَعرف أَنها هي الباقية بعد انقضاء ولايته. وهو هذا ما يحصل دائمًا: تحفةٌ فنية واحدة في ولايةِ رئيسٍ تخلّد ذكراه في بلاده وفي العالم. والواقف اليوم أَمام "مركز بومبيدو" لا يذكر كم وزارةً شكّل هذا الأَخير بل يذكر أَن جورج بومبيدو وضع "أَنطولوجيا الشعر الفرنسي" (1974 في 550 صفحة)، وأَنه كان نصير المثقّفين والأُدباء والفنانين في عهده.

       تحفةٌ فنية واحدة في عهد حاكم، يسقط أَمامها ذِكْرُ أَيٍّ من إِنجازاته السياسية العابرة. ليس كافيًا أَن يكرِّم المبدعين في قصره، ولا أَن يستقبلهم في عشاء أَو إِفطار، ولا أَن يُرسل مُـمثلًا عنه (وزيرًا أَو مستشارًا) يقلِّد المبدع نيشانًا، أَو يضع في مأْتمه وسامًا على تابوته. هذا خبر عابر يمضي زائلًا مع انقضاء نشرات الأَخبار وانطواء الجرائد بعد قراءتها.

       الأَهمُّ أَن يحقّق إِنجازًا ثقافيًّا واحدًا، واحدًا فقط، يكلّف الدولة مرةً واحدةً ويروح يعود عليها بمردودٍ دائم، مادي ومعنوي وتذكاري، وقد لا تبلغ تكاليفُه ميزانية عشرة كيلومترات من أُوتوستراد يلزمها كلَّ فترةٍ تأْهيلٌ بأَضعاف كلفتها الأُولى.

       الإِبداع في أَيِّ بلدٍ، يلزمه حاكمٌ ذو رؤْية ثقافية ثابتة تكون أَبعد من السياسة العابرة.

السياسةُ حَصاةٌ يَـجرفُها نهر الأَيام. الثقافة صخرةٌ لا يَـجرفها أَعتى الأَنهار.

وعلى الحاكم اختيارُ أَن يكون في قُوَّةِ صخرة، أَو في هشاشةِ حصاة.

  

 

*

يتم نشرُ هذا المقال بالتزامن مع نشره في صحيفة النهار

 

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.