3

:: خمسون عاما على جرح النكسة ::

   
 

التاريخ : 19/06/2017

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1706

 


 

 

الذين لم يعيشوا لحظات نكسة 67، سيتصورون في يونيو 2017 ولهم الحقّ في ذلك أن النكسة حدث وقع في زمن بعيد، منذ خمسين عاما، أما الذين عاشوا تلك الأيام، ساعة بساعة، ولحظة بلحظة، فإن النكسة في قرارة نفوسهم تتحرك كأنها وقعت بالأمس، أو أنها تقع اليوم، أو توشك الآن على الوقوع، فهي حدثٌ مستمرٌّ داخلَ النفس، ممزوجٌ بالمرارة والتخبُّط الأليم وعدم القدرة أو الرغبة في التصديق. كان صلاح جاهين أبلغ الجميع تعبيرا عن استمرارية اللحظة في النفوس حين قال: "ضربة صابت.. وضربة خابت.. وضربة وقفت بالشريط في وضع ثابت". في داخل من عاشوا النكسة شريط يعرض بدون توقُّف الصُّوَر ذاتِها خارج أي زمان وأي مكان، بالأبطال أنفسهم، وحتى بدرجة حرارة الجو في يونيو، وبظلال البشر المحترقة في الشوارع، وبالذّهول المراق في الأعين حينما أدركنا أننا خسرنا كل شيء. ولم تكن الخسارة في عدد الدبابات التي دُمِّرت أو الطائرات التي قُصِفت قبل أن تحلّق، أو حتى عدد الشهداء، الخسارةُ كانت أفدح من حديد السلاح ودانات المدافع، كان ذلك خسران حلم كبير أبهج الروح لحظة وانطفأ. لقد عبّرت لطيفة الزيات عن الشعور العام بمصر قبل النكسة بقولها: "كنا نثق حينذاك أن بوسعنا أن نغيّر العالم بأسره". بهذه الثّقة في قدراتنا عشنا عشر سنوات تقريبا قبل النكسة، منذ اندحار العدوان الثلاثي في 1956، حتى 1967، هي بالضبط الفترة التي تربّى فيها جيلٌ نما من العاشرة إلى العشرين وهو يستمع إلى أغنيات نجاح سلام "اليوم اليوم يوم النّصر.. عْصَرنا قلب الأعدا عَصر.. شنّوا عْلينا الحرب نْشِنّ.. عين بْعين وسنّ بْسنّ"، وأغنية محمد سلمان "لبيك إن عطش اللوا سكب الشباب له الدما"، وعبد الحليم "صحّيت الشرق بْحاله، وديانُه ويا جْباله"، كان لدينا شعور أن مصر قد غرزت كرامتها في عين العالم، ننصت إلى عبد الناصر وهو يخاطب أمريكا علنا بصوته القوي: "اللي سلوكنا مش عاجْبُه يشرب من البحر"، وتعلّمنا مجانا، وقرأنا الكتب حين كان الكتاب بقرشين، وكان تعداد الشعب نحو ثلاثين مليون وعندنا 15 مجلة ثقافية متخصّصة، ومسارح، وأكاديمية فنون، وتصنيع حتى لو كان بسيطا، وتوزيع أراضٍ على الفلاحين حتى لو كان نسبيا، وبنينا السّدِّ العالي، ورحنا نناصر الثورات في الجزائر وفلسطين واليمن وحيثما استطعنا، وفي كل ذلك كنت تشعر أن مصر قوة، وأنها مصنع كرامة وعزيمة يغلي بالمقدرة على تذليل كل الصعاب. بالطبع كان للحكم طابعه غير الديمقراطي. لكن الديمقراطية بالنسبة للشعب لم تكن أبدا في عدد الصحف، أو جلسات البرلمان، أو حق التعبير لكاتب أو آخر، على أهمية كل ذلك، لكنها كانت دوما: حق السكن والعمل والعلاج والتعليم ومستوى المعيشة، لهذا كان عبد الناصر يقول إن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تنفصل عن الديمقراطية الاجتماعية وإن "حرية التصويت من دون لقمة العيش وضمانها تفقد كل قيمة لها"، ثم جاءت قرارت التأميم لصالح الشعب، بل وشاهدنا بأعيننا ذات يوم صواريخَ القاهر والظافر تمرّ في الميادين ضمن استعراض عسكري! وكانت "قضية الديمقراطية" موضع خلاف حادّ بين المثقفين وعبد الناصر، بل كادت أن تكون الوجه الرئيسي للخلاف. وإذا قرأتَ معظم روايات نجيب محفوظ بعد "الثلاثية" ستجدُها سهاما حادّة مصوّبة إلى الطبيعة غير الديمقراطية للنظام. وبالرغم من كل ذلك فقد عشنا في ظل حلم النهضة والتصنيع واستقلال الإرادة الوطنية والكبرياء القومية، وفجأة.. في لحظات معدودة تبخّر كل شيء. أذكر أنني كنت في شرفة منزلنا في وسط البلد حين أعلن عبد الناصر عن النكسة وعن تنحّيه. ولم تمرَّ حتى دقيقةٌ على إعلانه إلا ورأيت الشوارع في السيدة زينب مغمورة بالبشر يندفعون إلى ميدان التحرير ويهتفون من دون ترتيب أو تنظيم "لا تِتْنَحّى". واندفعتُ أهبط إلى الشارع، ولم يكن أحد يصدق أننا هزمنا. أذكر أننا كنا نجوب الشوارع أنا ويحيي الطاهر عبد الله، وخليل كلفت، وأمل دنقل، ولا نقول شيئا، فقط نمشي صامتين إلى أن نتعب فنجلس عند ناصية شاي كانت في ميدان التحرير، ثم يقول أحدنا كأنه يحدث نفسه "معقول؟!". كان ثمّة شعورٌ بأن هناك خنجرًا مسمومًا قد غُرز في ظهورنا. لا شيء يقال. ولا شيء يُفعل. ولا شيء بقادر على لحم الصدع الذي ظهر. فجأة اتّضح لنا أن كلَّ قصائد صلاح عبد الصبور المتشائمة الحزينة كانت تهجس بما سيقع، أحلام الفارس القديم وغيرها، كانت تستشرف النكسة. ومع ذلك الألم اندفعنا إلى معسكرات للتدرب على القتال حين قيل لنا إنهم سيعدّون الشعب للقتال. تطوّعنا ورحت مع صديق عزيز إلى مدرسة في السيدة زينب، درّبونا على إطلاق الرصاص أسبوعا، وبعدها صرفونا. قلنا لهم: نريد أن نذهب إلى الجبهة، لكنهم كانوا يخشون الاعتماد على الناس في الحرب، لأن الناس ما إن يمسكوا بالسلاح حتى يحدّدوا مسار الكثير من المعارك، في الخارج، وفي الداخل أيضا. وكان الأشدَّ إيلامًا من الهزيمة أن تعرف أنك ممنوعٌ من مواجهة الهزيمة ومن القتال ضدَّها. لم يستعن بنا أحد، ولم تنظم صفوف المتطوعين، واقتصرت التجربة على التدرُّب على إطلاق النار.

فيما بعد تم اعتقالي في مظاهرات الطلاب في فبراير 1968 التي قامت دعمًا لمطالب عمال حلوان بتشديد الأحكام على قادة الطيران المسؤولين عن النكسة، وظللتُ في المعتقل نحو ثلاث سنوات لمجرد المشاركة في مظاهرة. كانت النكسة حدّا فاصلا بين عهدين، ودفعت الكثيرين إلى التشاؤم، وكتب أمل دنقل أنه "خلف كل قيصر يوجد قيصر جديد" وأنه ما من أمل، وتلاشت الصيحة والشعور بأن "بوسعنا أن نغيّر العالم بأسره"، وكان شعور يوسف إدريس بالتشاؤم أسبق حين كتب "الفرافير" (1964) و"المهزلة الأرضية" (1966) وغيرها من الأعمال التي أبرزت أنه فقد الثقة في كل حلم، وفي كل إمكانية في التغيير، واختفت الروح التي كتب بها "جمهورية فرحات" و"البطل". وظهرت كالفطر وغطّت كلَّ شيء قصصُ الضباب والحيرة والضَّياع والرّغبة في تحطيم كل الأشكال الأدبية ليس بهدف خلق شكل جديد، لكن فقط لتدمير ما تبقى من الحلم بحيث لا يعود شيءٌ يذكّر المرء بما كان. وبوفاة عبد الناصر فتح وحش النكسة شدقيه وابتلع الخيط الواهي الأخير، ثم دشّن توفيق الحكيم حملة تحطيم الماضي بحلوه ومرة حين كتب كتابه "عودة الوعي"، ومن بعده خرجت من تحت الأرض كل الأقلام التي دعت إلى التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وإلى ذلك السلام الذي لن يعم سوى إسرائيل، وإلى إزاحة القضية الفلسطينية بعيدا عن اهتمام مصر، وإلآ الانفتاح الاقتصادي، وهلمّ جرا. كلّا. لم يمرَّ على النكسة خمسون عاما، ولا يوما، ولا لحظة، لقد وقعت بالأمس، وهي تقع اليوم، أو توشك الآن على الوقوع، ومازال مرُّها يسري داخل النفس ممزوجا بذلك التخبُّط الأليم وعدم القدرة أو الرغبة في التصديق. وأشعر الآن وأنا أكتب هذه السطور بخنجر الهزيمة المغروز في ظهري، وبالطعنة التي لم يلتئم جرحُها. العجيب أنني حين أتأمّل حياتي الطويلة وما انطوت عليه من جراح شخصية، وفراق الأحبّة، وموت الأقرباء، أجد أن كلَّ تلك الجراح قد التأمت، ولم يبق سوى ندوبها، أما أيام النكسة فتظلُّ نازفة في الروح. لابدَّ إذن أنها أمرٌ ضخم، أكبر من أن يزول بسهولة، ربما لأنها عجنتني والوطن في بقعة دم واحدة.      

 

 أحمد الخميسي. كاتب مصري

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.