3

:: في الثقافة واللغة!- رؤى ثقافية 246 ::

   
 

التاريخ : 24/02/2017

الكاتب : أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي   عدد القراءات : 1454

 


 

 

-1-

 

 

 

واهمٌ من يُحسِن الظنَّ بمَن يرفع اليوم شعارات برَّاقة في التحضُّر والحُريَّة.  ذلك أن المجتمع الذي يقوم على قوانين معلنة، تنطلق من مبادئ الحق، والحُريَّة، والعدل، وقبول التنوُّع، والمساوة، وتكافؤ الفُرَص، هو المجتمع المؤهَّل للخروج عن المجتمع العشائري، الناهض على المغالبة.  في هذا المجتمع الأخير فإن مَن امتلك القوّة صار الحقّ معه، وباتت له الكلمة الفصل، ومن ثمَّ فلا قِيْمة لقِيْمة إنسانيَّة أو حضاريَّة تتعارض مع مصالحه.  في واقع مثل ذاك يُصبح التلميذ أستاذ أستاذه الذي ربّاه وعلّمه، والمرؤوس رئيس رئيسه، وصغير القوم كبيرهم، لا لتفوقه، ولكن لأنه ينتمي إلى هذه الفئة، أو إلى تلك العشيرة، أو هاتيك القبيلة.  

والمتأمّل في عالمنا المعاصر، يلمح أن الإنسان البدائي القَبَلي ما زال هو السلطان في الشرق والغرب.  غير أن المجتمعات التي ذاقت الأمرَّين من ذلك الواقع الهمجي، جعلت القوانين عِنانًا دون تغوّل الوحش داخل الإنسان.  أمّا في المجتمعات الأخرى، التي ما زالت تحكمها عقليّة "القبضايات"، فقبائل متناحرة، يومها كأمسها، سوى أنها في يومها تُلبس الباطل لبوس الحقّ، بعباءات من التشريعات والأنظمة والقوانين المصطنعة لمآرب تتغيّر بتغيّرها.  ومجتمعات كهذه سيظلّ يأكل قويّها الضعيف، وغالبها المغلوب؛ من حيث هي لا تعدو غابات حديثة، لا تأخذ من التحضّر سوى قشوره دون اللباب.  على أنها في سبيلها إلى الانقراض، أو في سبيلها لتبقى على مسرح العالم الهزلي، فُرجة للعالمين، وعبرة لمن يعتبر.  ولا أمل في نهوض مجتمعات كهذه، فضلًا عن منافستها في عمران الكون، ما لم تشهد تغييرات جذريَّة في بنياتها العقلية ورؤاها القيمية والحضاريَّة.  وهو ما يبقَى حُلم المخلصين، وأمل النابهين.

في مجتمعات ترسف في ماضيها، يقف عادةً أفراد القبيلة صفًّا واحدًا، كالبنيان المرصوص، منافحين عن ذمار القبيلة وتقاليدها، بلا وعيٍ تارةً، أو بلا حسٍّ نقديٍّ، وتارةً نفاقًا وانتفاعًا.  ويصبح مريد الإصلاح، وناقد الحال، خائنَين، يُنعتان بأقذع الأوصاف.  إذ مَن لا يمدح القبيلة، فليس منها، ومَن لا يدسّ رأسه في الرِّمال، مصفِّقًا للسَّراب، لاعنًا النور، منكرًا عيوب نفسه وأهله، فليحتمل الشتم والهتك، والتصفية المعنويَّة، وربما الجسديَّة.  ومعظم دَور الإعلام اليوم، وأربابه في العالم الثالث، ما برح على هذا المسرح، باثًّا خطابه "الديماغوجي" البائس.  لكن هذا الضرب من الإعلام إعلام منكفئ على أوراقه الصفراء، لم يفهم بعد أن العصر قد تغيّر، وأن الإعلام البديل قد خلع الأقنعة، وأن خطاب الأمس بات نكتة اليوم. 

 

-2-

وكثيرًا ما يتناهى إلى أسماعنا في هذا السياق الترنّم على أوتار "الخصوصيّات"، والاحتجاج عليها أحيانًا بالدِّين، أو إلباسها جبّة الدِّين.  على الرغم من أن الدِّين القيّم لا يؤمن بالخصوصيّات، بل هو دينٌ لله وحده، إلى الناس كافّة، كلّ الناس في معياره إخوة متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود: "يسعى بذمّتهم أدناهم". 

على أن الخصوصيّة الصحيحة التي يمكن أن تكون بنائيّة، هي كتلك الخصوصيّة اليابانيّة، على سبيل الشاهد، المنفتحة والمتطوّرة.  من حيث إن الخصوصيَّة اليابانيَّة ما زالت تتمسّك بمروحتها، وعيدان أرزها، وأزيائها، ولغتها، دون أن تجعل ذلك معيقًا دون تواصلها الحضاري مع العالم.  فهي تلتزم بالجوهريّ من شخصيّتها، مع تطويعه للحياة والاستمرار، أو حتى تطويعه للموت، إن لزم الحال، وفق الظاهرة اليابانيَّة النازعة إلى الانتحار!

أذكر- مثلاً- في أكثر من سياق أنني شهِدتُ كيف أن الياباني يُصِرّ على استعمال لغته، مع أنه لا يجهل اللغة الإنجليزية.  وفي إحدى المناسبات كنت في جَمع مع شخصيّات يابانيّة وعربيّة، فكان العربيّ كعادته يسارع إلى المخاطبة بالإنجليزية فلا يجيبه الياباني بالإنجليزية، وإنما يردّ بلغته، ليقوم المترجم بنقل ما قال إلى العربيَّة، مع أنه قد يفوق إتقانًا الإنجليزية مخاطِبَه العربي.  وتلك عُقدة عربيّة، بامتياز، (أعني: اللغات الأجنبيَّة، ولاسيما الإنجليزية).  وذات يوم كنتُ ضمن وفد إلى (الاتّحاد الأوربي)، فأحضروا لنا من المترجمين والمترجمات ما قدّروا الاحتياج إليه.  غير أنهم دهشوا حين وجدوا "رَبْعَنا" لا يحبُّون أن يتحدّثوا باللغة العربيّة بل بالإنجليزيّة.  فكان الأمر لا يخلو من طرافة "شيزوفرينيَّة".  يحدث هذا، مع أننا لا نكفّ عن التغني بأن اللغة العربية لغتنا الرسمية، وبالرغم من التعميمات تترَى بذلك، وأنها وسعت كتاب الله لفظًا وغاية، إلى نهاية سيلنا العَرِم من الشعارات.  فأُمتنا كغيرها لا تخلو من استشعارٍ نظريٍّ بأن اللغة هي الإنسان، وهي تراث أُمَّةٍ وثقافتها وهويّتها، حين تضيع تضيع معها تلك الأُمّة والثقافة والهويّة، وحين تتضعضع تزلزل وجود الناطقين بها.(1)  إلّا أننا حين التطبيق نفشل، أو نتلجلج، أو نختلف.  ولهذه العقدة حكاية وتاريخ طويل في عصرنا الحديث. 

وهكذا يتبدَّى أننا كثيرًا ما نترك من الخصوصيّات أركانها البانية والمشكِّلة للهويّة الوطنيّة والقوميّة، فيما قد نصطف في المقابل للمنافحة عن القشور منها والتمسّك بالضار.

 

(1)  حول اللغة، وخطورة معناها في حياة الأُمم، يمكن أن تتابع حلقة نقاش مع (نعوم تشومسكي)، على موقع "اليوتيوب":

https://www.youtube.com/watch?v=pEnEfEWWpOw

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.