3

:: لامات يسوع.. 6 ::

   
 

التاريخ : 17/01/2017

الكاتب : وديع العبيدي   عدد القراءات : 1054

 


 

 

[8]

يسوع لم يحقد ولم ينتقم ولم يتوعد..

"ليكن كلامكم نعم، إن كان نعم!؛ أو: لا، إن كان لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرير"- (مت 5: 37).

"ضعوا في قلوبكم، ألا تعدّوا دفاعكم مسبقا، لأني سوف أعطيكم كلاما وحكمة، لا يقدر جميع مقاوميكم، أن يردّوها أو يقاوموها!".- سلطان الكلمة

 

 

(1)

تتحرك شخصية يسوع الجليلي بين الإنسان الطبيعي الواقعي، وبين شخصية الإنسان فوق الطبيعي والواقعي.

وكان اجتماع الطبيعي وفوق الطبيعي في يسوع الإنسان، مصدر الهام للفلاسفة الإنسانيين حول آفاق تطور الشخصية البشرية، ونشوء فكرة السوبرمان خلال القرن الثامن عشر.

ساعد كون يسوع الجليلي شخصية تاريخية حقيقية، - من خلال الدلائل العلمانية والرومانية المعاصرة له، أمثال فيلو السكندري أو يوسيفوس، ممن أرّخ لجوانب من سيرته وأعماله وأفكاره وقصة وطريقة موته!-..

ساعد ذلك في منح الأمل بامكانية بلوغ الإنسان الصورة القيمية لمستقبله الراقي، المتسامي في تفكيره ومشاعره وسلوكه. وبالتالي امكانية ظهور مجمتع بشري، يعيش ويسلك، في طراز مرتقي ومتقدم جدا.

وبما ينقل مستوى حياة البشر مراتب عليا، هي صورة من الفردوس الأرضي، الذي حرّك آباء الفلسفة لتصور (جمهورية أفلاطونية) أو (مدينة فاضلة)، تثبت جدارة الإنسان في الوجود.

في ظلال هذا الأمل، اجتهد مفكرو النهضة وفلاسفة التنوير، في رسم الخطوات العملية، وترسيخ القيم الخلقية والمبادئ الاجتماعية، التي يمكن ان ترفع مستوى الفرد والاجتماع البشري، للاقتراب من تلك الصورة الحلمية الفردوسية.

من هنا يمكن فهم وادراك معنى شعار الثورة الفرنسية، التي مثلت الفأس التي قوضت قاعدة النظام القديم، ودفعت باتجاه التقدم والتمدن والحضارة، والتي نعيش اليوم أواخر ثمارها، إن لم نفلح في تغيير مجرى الواقع، ووضع حد لمعدل الانحراف المتمادي، بقيادة تحالف الدين الشرقي الاقطاعي والرأسمالية التجارية الغربية.  

وصفوا يسوع بـأنه الإنسان المثالي والسوبرمان، الإنسان البارّ، الإنسان العظيم في قصيدة لغوته، والمثال المطلق للجنس البشري.

وكان منية كثيرين. لكن من قلّدوه، اقتصروا على جوانب اخلاقية او اجتماعية محددة. وبقي يسوع علمانيا في منظور الفلسفة الاجتماعية والمثالية؛ فيما اعتبره الدينيون، فلاسفة وكليرك وعامة، شخصية دينية عصية على الاستنساخ، -بغضّ النظر عن الاشكاليات اللاهوتية-، دون ان يخطر لهم الاقتداء الشخصي به، مكتفين بترديد الجانب الشفاعي والغفراني لفكره.

بفضل شخصية يسوع، يمكن تصور تطبيق [العدل الاجتماعي]، [المساواة الكاملة]، [الحرية الكاملة]، [المؤاخاة بين أبناء الجنس/ النوع البشري]، وهذا هو الأمل/ الحلم الذي يعمر صدور البروليتاريا المستلبة، ويعزيها على احتمال الصعوبات والشقاء، لتحقيق الغد المنشود.

 لكن السؤال يبقى ملحّا.. ما المانع في اتباع خطوات يسوع، والتحلّي بفضائله الخلقية والنفسية؟.. ما يمنع الاقتداء به واعتباره طراز حياتنا الرفيعة والنقية من نجاسات النفس ودرن الواقع؟.. لماذا لا يعتمد البعض نظامَه الغذائي او الاجتماعي او الثقافي، مثلا؟..

ان الذين يتعذّرون بخوارق يسوع العصية على التقليد، انما يبرّرون انحدارهم الدنيوي، وعجزهم عن تنظيم غرائزهم الجسدية والنفسية والعاطفية.

قال يسوع: إن آمنتم بي [صدّقتموني]، تقدرون ان تفعلوا مثلي وأكثر!..

اتباع المنهج اليسوعي، لا يهمش ميكانيكا عالم الغرائز، وانما يعطل قواعد منظومة الاقتصاد والمبادلات المادية (الطمع والاستغلال)، مع مجمل انعكاساتها الاجتماعية والتراتبية السياسية.

حتئذ، يبقى يسوع احتمالا واردا، على قارعة الانتظار، ومصدرا وحيدا للأمل والتعزية، وترصيد الخسائر. 

 

(2)

ثمة أمران في شخصية يسوع: التمايز المتفوق، ومخالفة النظام الاجتماعي والتقليد السائد. هذا الأمران، أو أحدهما يضعانه في مواجهة النظام الاجتماعي وموضع سخط سلطاته.

ولا نتوقع ان المجتمع، بله العائلة والقبيلة، تتساهل مع من يخرج عن تقاليده، أو يشجع على الخروج عليها. ولعل بعضنا، قد اختبر مثل هاته التجربة، قليلا  او كثيرا.

فسواء في الخيار الثقافي أو السياسي، او انتهاج الحداثة والتحديث، تتصدى العائلة قبل غيرها. أما يسوع فقد كان ثورة على النظام الديني والركائز الاساسية للتعامل والسلوك.

والى جانب ما يسجله الكتاب من انحياز الفقراء والمهمشين والمعوزين اليه، فإن صور المعاملة السلبية، بما فيها من قبل العائلة، غير خافية أو مخفية.

وما يهم الموضوع هنا، كيفية ردّ يسوع على معارضيه والساخرين منه.

ان كثيرا من الأسئلة والمجادلات والمواقف التي واجه بها الفريسيون والصدوقيون يسوع، لإحراجه او فضحه امام الجموع، مثل نقضه طقوسية السبت ومجالسة العشارين والخطاة، قابلها يسوع بجدية واحترام واستخدمها لتوضيح رؤيته، وردها بالمنطق والعقل.

بعضنا، على الصعيد الشخصي، اتخذنا قرارا انفعاليا بالقطيعة –مؤقتة/ دائمية- تجاه الرافضين لميولنا. وتخلل ذلك جملة من الخصومة والجدل الكيدي. ولم ينته الامر من غير ترسبات نفسية وعاطفية، تستمر حتى نهاية العمر.

وفق منطق القياس، كيف ستكون الصورة لو كان احد الطرفين، يتمتع بنفوذ اجتماعي/ اقتصادي/ سياسي/ ديني؟.. انه سيسخر نفوذه للوقيعة والانتقام من مخالفيه ومعارضيه.

وفي تراثنا المدون والشفاهي، من القصص التي يؤخذ بعضها، في باب الفخر والكبرياء. وتمثل الوحشية في الثأر في قضايا الكرامة والشرف والعقيدة، مصدر مباهاة المجتمع، وتخاذل القانون.

غالبا ما يعترينا الانفعال والغضب حيال صمت يسوع امام الساخرين منه والدعوة لهم بالغفران، او عدم رد اتهامات الكهنة.

صياغته القيمية لذلك تمثلت في مقولته: لا تردّ الشر بشر، بل بالخير!.. باركوا لاعنيكم.. صلوا من اجل من يكيدون لكم..

الحقد والانتقام والثأر والتعيير، هي إفرازات غريزية في لحظات غياب العقل/ (الرشد). وفي بعض الحالات، يعقبها ندم، عندما يمضي الزمن، ويتبخر الانفعال وحرارة المواجهة/ (الديكية والكيدية).

الصمت في حالة المواجهة المستفزة أو الانفعال، يمنح النفس فرصة استيعاب الامر، وتركه يمر، من غير تعالقات وانعكاسات مستقبلية.

في تاريخنا.. ثمة جرائم وأحداث مؤسفة حصلت جرّاء الانفعال، وعدم احتمال –بعضنا البعض-، انتهت بموت طرف وغياب الآخر في السجن، مع انعكاساتها على العائلة والمجتمع.

ومعظم العيوب والانتقادات التي تطال السياسيين –أشخاصا وأنظمة- تكون جراء تصرفاتهم الانفعالية، في خضم حرارة الموقف. ولو تركها المسؤول في لحظتها، ولم يسمح بالحديث فيها، او تطبيل الاعلام ومبالغاته، لمدة اسبوع أو شهر او عام، لكان قراره اكثر اعتدالا واقناعا ورشدا، سيما مع تدخُّل العقلاء وأهل الاختصاص والمشورة.

ويذكر العراقيون تبعات الانفعال العسكري عقب احتلال الفاو عام 1986، وزجّ ثلثي القطعات العراقية في محرقة/ مملحة الفاو –كما دعيت-، حتى نجاح وزير الدفاع يومئذ عدنان خيرالله في اقناع الرئيس بالعودة الى بغداد وترك الامور له. وبعد عامين تم تحرير الفاو في عملية خاطفة، في وقت قياسي ومن غير خسائر.

والانفعال هو المسؤول عن تفاصيل مجزرة الدجيل وغيرها كثير. يقابل ذلك، طابع السياسي في الصمت وعدم التعليق أو التدخل المباشر في الاشكاليات الآنية، رغم إلحاح وسائل الاعلام في ابتزاز أي تعليق.

ومنذ ظهور التويتر، صارت تعليقات الرؤساء السريعة والشخصية، جزء من نشرات الاخبار، وموضع سخرية وانتقاد المعادين. وفي رأسها: الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب وتعليقاته وتصريحاته الغرائبية على طول الخط، وما يترتب عليها من استهلاك اعلامي.

وهنا يحضرني موقف المتنيح البابا شنوده الثالث، في الاعتكاف في دير وادي النطرون لاسبوع أو أكثر، في أوقات الأزمات، تفاديا لما يصاحبها من جدل ومناقشات ساخنة، وملاحقات وسائل الاعلام.

لو نجح الافراد في كتم/ كظم انفعالاتهم الشخصية في لحظة الحدث والمواجهة، لجرى اختزال ثلاثة ارباع المشاكل والجرائم والأخطاء في يوميات العالم. ولتراجعت ايرادات الاقتصاد العالمي وأعمال البوليس والمحاكم والسجون والمستشفيات، وأحداث المواصلات الى نصف المعدل.

ان الشرور مصادر خصبة لصنع المال، كما أن المال، مصدر كل الشرور. والحكيم سيد نفسه!

 

(3)

هل الأنبياء بشر؟..

ثمة عدة اتجاهات في الجواب..

هم بشر، ولكنهم يحظون بإعلانات إلهية يترتب عليها معاملة خاصة عند الخطأ.

هم بشر، ولكن لهم حظوة –الاصطفاء- بحسب الجسد والنسل.

هم بشر، ولكن في حالة التنبوء تشملهم حماية إلهية عن الخطأ.

هم بشر ولكنهم معصومون، يتمتعون بعصمة نبوية إلهية – بحسب الجسد والنسل- عن الخطأ والرجس. 

هم بشر عاديون، يتعرّضون ويعانون ما يعانيه سواهم بالجسد والنفس والغريزة، إلا ما عفّوا أنفسهم فيه.

يذكر في هذا السياق، ان الفكر القديم، حتى عصر النهضة، كان ينسب الحكام الى مرجعية سماوية، بالجسد أو التعيين أو السلطات. وهناك كتاب لاسحق موسى الحسيني عنوانه وفحواه: (هل الأدباء بشر؟).

واقع الحال، انه لا يوجد شيء اسمه – أنبياء-، بالمعنى المسوق دينيا ونسبته لمصدر –إلهي- وانما هي [أسماء سميتموها بأنفسكم!]. وقد وصف يسوع كل من سبقوه على انهم – لصوص-، وقال أن سوف يأتي بعده –أنبياء كذبة- يدعون لأنفسهم ويتبعهم خلق كثير.

يتفادى المفسّرون الوقوف عند هاتين الاشارتين، على أهميتهما، لأن نفي واقع النبوة من قبل شخص هو: (كلمة الله)، يلغي ضمنيا نسبة الشرائع والوصايا الدينية الى مصدر إلهي/ سماوي/(مت 15: 9): "انما باطلا يتعبّدون لي، وهم يعلّمون تعاليم، ليست الا وصايا الناس"!.

وعندما يقر الكتاب نصا مفاده: الجميع زاغوا وفسدوا، وعوزهم مجد الله!.. فإن لفظ (الجميع) يتضمّن كل العائلة البشرية وبني آدم، بضمنهم الأنبياء والحكام والفلاسفة والعلماء.

لكن –الثقافة الشعبية- المتوارثة، هي المسؤولة عن القول بوجود [بشر/ أنبياء*] هم صفوة الناس، كما ان رجال الدين/ الكليروس، صفوة المجتمع. وبموجب الصفوة/ الاصطفاء/ المعصومية، فهم يتمتعون بمكانة مميزة ومعاملة خاصة وصلاحيات وحقوق فوق عادية، ليس من السماء، وانما من محيطهم الاجتماعي.

وتملّق الحكومات للطبقة الدينية، مردُّها ابتزازٌ سياسيٌّ إعلاميٌّ سطحيّ، لكسب ولائهم ورصيدهم الشعبي، ليس الا.

 

(4)

بحسب  مدارس فلسفية، ان الحقيقة والمعنى وصورة العالم تتشكل داخل الذّهن البشري. وكل ما نعتقده حوالينا، انما هو يعتمد على طبيعة تصوراتنا ومعلوماتنا الشخصية المخزونة والمتراكمة في وعينا الباطن.

بتطبيق  هذا المبدأ على الحالة الاجتماعية الدينية، نجد ان المجتمع هو الذي يحسم القرارات والتقاليد والمبادئ العامة، من خلال اعتقاداته الغيبية وسلطة الدوغما.

وعندما يقرّ الرأي الشعبي ان –سيد حمد- رجل صالح وله كرامات، فالمخالف لهم، يقابلونه بالزراية والاستهجان. وهو ما ينطبق على اتفاقهم حول فلان النبي أو الديانة الحق أو الشريعة المقدسة أو المرجعية الفلانية. اعتبر أفلاطون ان الفلاسفة والعلماء وأهل العقل/ (الانتلجنسيا) هم بمثابة العقل في الكيان الاجتماعي، والمجتمع هو بمثابة الجسد. ويعرف أفلاطون ان الطبقة المثقفة –نخبة اقلية- قياسا لقطعات الشعب الواسعة. لذلك قارنهم بنسبة حجم الرأس الى حجم الجسد، مع العلم ان العقل – وهو أصغر من الرأس- يقود كل الجسد، ويتولى توجيهه وتصويبه.

والجسد والإنسان يموت بموت العقل، أما عندما يتعطّل الجسم، ويستمرّ العقل في يقظته ووعيه، مثل حالات الشلل الرباعي، فالإنسان يستمر في الوجود والفعل.

ان الذاكرة الثقافية والتاريخية هي بمثابة العقل الحي المتصل الوجود والفعل، رغم مضي قرون على موت الناس واندثار اجسادهم الفيزياوية.

بهذا المنظور يعتبر جلجامش وأفلاطون وأرسطو والفارابي والمتنبي والمعري وامرؤ القيس وشيكسبير وجبران واحمد شوقي احياء خالدين، لامتداد نتاجهم العقلي والفكري في الوجود والتفاعل اليومي والحضاري.

 

(5)

والسؤال هنا....

كيف تنعكس الصورة/ القياس في الحالة العربية؟..

كيف يأخذ الجسد/(المجتمع) مكان الرأس/ (العقل)؟.. ويندفع العقل الحقيقي/(النخبة المثقفة) الى هامش الدوغما وذيل الغوغاء؟..

بغض النظر عن التبريرات والمجادلات، فهذا هو سبب انحطاط الحياة والواقع العربي والاسلامي.

قد يزعم البعض ان طبقة الكيروس هم (العلماء وأهل الفكر) بحكم الإرث الوثني والتاريخي السابق للحضارة ونهضة الفكر. اقول: ان العلم ، عكس الغيب. ولا يوجد عالم مجتهد في الغيبيات، حتى لو جرى تسويغ مصطلح (علم الغيب)؟!.. من قبيل تغييب عقل المجتمع ودفعه في عربة العبودية والقطيع.

والمجتمع الطامح لتحقيق مستوى إنساني لائق، بيده وحده، - فردا او جماعة- قرار عتق نفسه، وسحب ثقته ممن استغلوه واستنزفوا دمه عبر الزمن. وليس له توجيه اللوم والمسؤولية لأيّما جهة، ثقافية او حكومية، فيما يستأنس عبوديته للاقطاع الديني.

والمؤسف، ان تصل الينا الدمقراطية، بعد فساد معناها في الغرب نفسه، وتفريغها من محتواها المدني الأوربي، وبما يجعلها (دمقراطية امريكية) تروج للغوغاء والجريمة والفساد، كما هو حال الشرق الاوسط اليوم. 

وبعدما كانت مجتمعات الشرق الاوسط الشمالية قطعت شوطا على طريق التمدن والتحديث والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، انقلبت على أعقابها الى مرحلة ما قبل الحداثة، وعادت مجالس العشيرة والطائفة وعقلية الثأر والانتقام والبغضاء المتوارثة فيما بينها، تتسيد المجتمع والدولة والثقافة والاعلام.

وبكلمة واحدة، ترتفع اليوم لغة الجسديات المبتذلة والشّرِهة على لغة العقل والفكر والذّوق والحضارة.

 

(6)

 

ما يغيب، أو يجري تغييبه، أن يسوع الجليلي، لا مثيل له في تاريخ البشر، في كل جوانب الحياة والأخلاق وإجراء المعجزات/(الكرامات)، ولا مثيل له في التواضع والاتضاع والمحبة والعطف والتضحيات التي ختمها بالتضحية بجسده ونفسه، دون أن يطلب أو يأخذ لنفسه أدنى ما يحظى به أبسط الناس.

من أجلنا بذل كل ما عنده، بما فيه نفسه، جاعلا من قضية موته كفارة لذنوبنا جميعنا. ففي حياته لنا أمل وقوة وحرية، وفي موته صكَّ براءتنا من سجل أخطاء الماضي.

وبينما يقدس الناس ويتعبدون لمن يدفعهم للبغضاء والانتقام والكذب ومختلف الشرور، وكلها من مخلفات الغريزة غير المهذبة والنفس الأمّارة بالسّوء؛ فأنهم يشيحون بأذهانهم وأفكارهم عمّن يوصي بالمحبّة والتعاطف والكفّ عن الأطماع والأضرار، والانسياق وراء الشهوات والجسديات الدونية الزائلة.

فلو أنهم رغبوا -حقا-فيما ينفعهم، واتباع أفضل الخلق والناس، كان أحرى بهم اختيار واختبار يسوع: معلم الحق والحرية والمحبة والأمل، على خلافه. 

"سُئل أعرابيٌّ: أتريد أن تموت فداء عن الناس، أم يموت الناس فداء لك؟..

فقال: بل يموت الناس فداء لي!!.."- التوحيدي

 

(7)

يسوع فيلسوف راديكالي ثوري استخدم ثالوث [المعرفة- اللغة- الجدل]، لتوصيل رؤيته ونشر أفكاره، من غير عنف، ودون أن يفرضها على أحد. مجسدا اقنوم الحكمة، لمنفعة الناس، متجاوزا ذاته.

وفي تجاوزه لذاته، تجاوز مسلك الفلاسفة إلى منهج أهل القضية، استجابة لتطلعات واحتراقات كثيرين:  "هل من وليّ يضع يديه علينا نحن الاثنين؟!!"- أيوب العوصي المدياني.

نقرأ في سيرة زرادشت الفارسي أنه اعتكف سبع سنوات على قمة جبل مرتفع، متفكرا في سبب شقاء الإنسان، واعتزل جوتاما بوذا الحباة في البرية، متأملا من أين يدخل الألم حياة الإنسان؟..

الميثولوجيا الهندية تحدد منبع كل الشرّ في حياة الإنسان بكلمة واحدة: هي الطّمع!. والطّمع كائنٌ وملتَبَسٌ في كل شيء من تفاصيل نشاط الإنسان، المادية والمعنوية، الجسدية والنفسية والفكرية.

الفلسفة الإغريقية وصفت (الحكمة/ سوفيا) دواء لكل أمراض الإنسان ومفتاحا ذهبيا للحياة الراقية. واعتبرت الغنوصية ان الحلّ والعلاج يكمن في المعرفة، و(المعرفة تحرر -عقل- الإنسان!).

ويمكن القول، انه انطلاقا من هاته الأخيرة، تبلورت منظومة مؤسسات التعليم والتثقيف، ليتمكن كل فرد ان يقرأ ويفكّر ويكتب ويسأل، وينقذ نفسه من مستنقع الخرافة بالقطيع.

وقد تصوّر أحد التنويريين من القرن الثامن عشر، ان التعليم عندما ينتشر ويكون في متناول الجميع، -ما أقرّته مواثيق حقوق الإنسان والأمم المتحدة-، فأنه سوف يسهم في تحرير الناس من خرافة الدين ويضعه على أعتاب مستوى راقٍ من الحياة/[التفكير والسلوك].

 

(8)

 

أما مساهمة يسوع فتمثلت في اعتباره [الروح] مصدر الحياة والمعرفة والمحبة والحرية.

فهو لم يتّجه الى مصدر الشرور والألم، وانما نبّه للمبدأ الأساسي الذي نتج عن غيابه وتغييبه، سوء فهمه وسوء استخدامه، كل معاناة الإنسان ومظاهر الزّيغ والضّياع والاستغلال والاستعداء.

كان للمدرسة الكلبية – الفلسفة الإغريقية- موقف مبكّر وثوري في ازدراء العالم ونبذ الجسد وتكريس الإنسان حياته للتعلّم والتفكير وارتياد مراقي الحكمة.

وقد هجر سقراط مدينته وعائلته، وعاش متشرّدا متسكّعا في شوارع أثينا، يبيت ليله داخل كارتون. وجرى انتقاد أفلاطون لأنه كان ينعم بحياة ارستقراطية مرفّهة لا تنسجم مع أفكاره ومع جوهر الفلسفة.

وفي التسعينيات عرض التلفزيون النمساوي برنامجا عن استاذ جامعة ايطالي، حذا حذو سقراط. فبعد انتهاء عمله في الجامعة، لا يعود الى عائلته وانما الى حشية على الرصيف، يحتضن فيها كتبه حتى الصباح.

وفي فرنسا ظهرت الفلسفة الشعبية/ (الفلسفة التبسيطية)، على يد اساتذة فرنسين، أخرجوا الفلسفة والعلم من رواق الجامعة والأكاديما، الى الشارع وقدموها بمستوى يناسب الافهام غير الأكاديمية.

وهو اتجاه/ تيار آخذ في التوسع والانتشار على ايدي المثقفين التنويريين غير الرسميين، ورفع مستويات تفكير ووعي البسطاء.

 

(9)

في هذا السياق ايضا، تشهد ظاهرة الهومليس (Homeless) –اتخاذ الشارع والفضاء الطلق مكان حياة طبيعية واقامة ومبيت- توسّعا مضطّردا في البلدان الغربية.

وتؤكد الأبحاث الاجتماعية، ان نسبة متزايدة من الهومليس، اختاروا طراز حياتهم بمحض إرادتهم وليس بسبب ظروف اجتماعية أو اقتصادية، ولا بسبب  اختلال عقلي او نفسي.

ومن وقت لآخر، يقوم بعض الفنانين والمثقفين ببادرة -معايشة-، لقضاء بضعة ايام وليال على طريقة الهومليس. ويذكر ان الامير هاري نفسه، شارك في هاته المبادرة، تعاطفا مع سكان الارصفة.

وكان الهومليس يتّخذون من الأنفاق فنادق منتظمة ومستقرة لمبيتهم. ولكنه، لسبب غير معروف، قامت حكومة توني بلير في وقتها، بإلغاء ظاهرة الأنفاق داخل المدن، وحرمت قطاع الهومليس من بعض التّرف، لتجعلهم تحت رحمة الظروف الجوية والتغيرات المناخية رغم أنفهم.

وفي ايام عيد الميلاد الجاري، قضى احد الهومليس نحبه مطعونا بسكين في وسط لندن وفي ظروف غامضة(*). وفي العموم، لا يشكل الهومليس فئة سيئة من البشر.

ويتمتّع كثير منهم بمستوى ثقافي أو منهج فكري ويطرحون أسئلة جادة حول الوجود والحياة أو الدين والسياسة أو الأنظمة والتقاليد الاجتماعية، تلك الأسئلة التي يفضل كثيرون الهروب منها واعتبارها ترفا فكريا.

نمو ظاهرة الهومليس والكآبة والتشرّد والانتحار وانهيار العائلة، مظاهر ونتائج متنوعة ومتفاوتة الدرجة، للقنوط من الحياة والضغوطات الاقتصادية وفساد الأنظمة الراسمالية السائدة التي لا همّ لها، غير مزيد من ابتزاز المال وتأمين الإجراءات الأمنية لحماية وجودها.

يردّد كثيرون مقولات بليغة، منها: الأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقرا!، وهو منهج تعمل عليه كل البلدان والمنظومات الاقتصادية والاجتماعية، دون تفكّر في عواقبه.

وبعدما كان الاوربي يصف الحياة السياسية بكلمة [Shit, Scheise] في العقود الماضية، فأنها مجرد [Game, Gamble] في نظره اليوم، وقد اعترف دونالد ترامب نفسه بذلك خلال حملته الانتخابية الأخيرة.

 

(10)

في النصف الثاني من القرن العشرين، حاول بعض الفلاسفة إحياء فكرة الأمل والشجاعة من أجل الوجود والمستقبل. بينما شكل التحول الرأسمالي الى مرحلة الامبريالية الوحشية وما بعد الحداثة، هزيمة نكراء للعقل الخير والفكر التنويري الإنساني، لرّد عجلة التطور للخلف.

وذلك بترويج التخلف/ (ثقافة التسطيح والبوب كولتشر)، والعبودية الدينية والاقتصادية، وتفريغ مفاهيم العلم والثقافة والحداثة والتمدّن والدمقراطية والرقي، من معانيها الحقيقية، لتوظيفها لصالح هيمنة النزعة الاستهلاكية وصنع المال [making money] بالارتباط مع الطمع والتبذير والأنانية المتوحشة.

في هذا السياق، وفي أجواء اليأس من الوجود والتقدم، واستحالة تحسين معنى الحياة، عادت الافكار الدينية، للانتشار وتقديم نفسها في (صورة المخلص) واعتبار (الشريعة) بديلا للقانون (The Law)"**"

ونظرا لكون الارتداد للفكر الديني الغيبي العبودي، ارتدادا للفكر الاقطاعي العبودي؛ تأتي هاته القراءة التجديدية لفكر يسوع من منظور فلسفي تنويري، باعتباره المصدر الاعلى والأشمل لكشف (زيف الديانة والكهانة)، وتظهير الحياة والعلاقات البشرية مما يشينها وينحط بها عن اتجاه الارتفاع.

الحل هو العقل، حجر الفلاسفة، تصويب آليات التفكير والمنطق واعتماد البحث والاختبار والمعرفة المقارنة، ونبذ عقلية التسليم والمطلق وتبعية القطيع لأي كان. الانتقال في الفكر والفهم والقراءة من السطحي والقشري الى الجوهر والمغزى المحرك العملي الفاعل.

لقد ورثنا عقلية التوصيف الظاهرية، وقدّسنا جمال الوجه والبشرة الملساء، والقمر الدائري، دون اختبار، او تمعّن بما وراءها، واكتشاف الحقيقة الداخلية للمرأة والزواج والعلاقة الاجتماعية وعقيدة الدين والحزب ومؤسسات الدولة وبهارج التحديث الهشّة.

في رواية (اسم الوردة) لامبرتو ايكو، يكلّم المعلم راهب الدير المسؤول عن المطبخ، والمتحرق بجمال امرأة من القرية، قائلا: انه ليس مولّعا بها، وانما بلون بشرتها ونعومة ملمسها، لكنه لو نظر ابعد من ذلك تحت السطح، ورأى العقد الدموية وطبقات الدهون، فسيشعر بالقرف ولا يقترب منها.

فالجمال اكثر من سطح وقشرة، واكثر من عطر اصطناعي يستر روائح طبيعية منفرة. والعالم اكثر مما نراه، واكثر من مجرد الحوّاء الخارجية والمعاني الحرفية المباشرة لما هو اعمق من السطح ودلالة الحرف المعجمية.

عندما اراد دافنشي رسم صورة يسوع، اختار اجمل شخص في المدينة، وجعله موديل الصورة الشائعة في العالم لليوم. وعندما اراد رسم صورة يهوذا، اختار أبشع شخص في المدينة. –هذا طبعا حسب فلسفة ارسطو ورؤيته للجمال-*.

وهذا يشمل جملة المصوّرات الدينية اللغوية والفنية، ومنها فنون البلاغة والبديع والمديح، والإسراف في المبالغة والتكرار لترسيخ الاسم والرمز وتدجين العقل وتعطيله.

 

 

(11)

من هنا أهمية حاجة مجتمعات الشرق الاوسط الى ثورة ثقافية اجتماعية، تقلع الجذور وتغير القواعد، وتؤسّس لعقلية واقعية مستقبلية عملية تطورية جديدة، تضع حدا للغة المديح والفخر والرثاء والنواح والكبرياء الجوفاء.

على كل شخصٍ الردُّ على من يبيعه كلاما رخيصا حول أي شيء سماوي أو أرضي، تاريخي أو معاصر، أن يطالبه بالبرهان والاختبار الملموس، والمعطيات المادية الشخصية.

هاته هي الخطوة الاولى لردّ بضاعة تجّار الأوهام والخرافات والدَّجل الديني والسياسي والأكاديمي. الخطوة الأولى هي فضح الكذب والرياء، وأولوية الصّمت عليهما، إلا حسب الضرورة.

إذن: الصدق في الحديث، والحجّة المنطقية في الخبر، والاختبار الشخصي الملموس للتصديق!

 

(12)

"قبل الانكسار يكون الكبرياء،

وقبل السقوط غطرسة النفس.

اتّضاع الروح خير من

اقتسام الغنيمة مع المتكبرين(..)

البطيءُ الغضِبُ خيرٌ  

من  المحارب العاتي،

والضابطُ أهواءَ نفسِه

خيرٌ من قاهر البدن!"- (أم 16: 18- 19، 32)

 

 

(13)

"لو كنت أتكلم بلغات الناس والملائكة،

وليس عندي محبة، لما

كنت الا نحاسا يطنّ،

وصنجا يرنّ.

ولو كانت لي موهبة النبوءة،

وكت عالما

بجميع الأسرار والعلم كله،

وكان عندي كل الايمان

حتى أنقل الجبال،

وليس عندي محبّة،

فلست أساوي شيئا.

ولو قدّمت كل أموالي للفقراء،

وجسدي للحرق،

وليس عندي محبّة،

لما كنت أنفع شيئا.

المحبّة تصبر طويلا.

المحبّة لطيفة.

المحبّة لا تحسد.

المحبّة لا تتفاخر

المحبّة لا تتكبر.

المحبّة لا تتصرّف بغير لياقة.

المحبّة لا تسعى لمصلحتها الخاصة.

المحبّة لا تُستَفزّ سريعا،

ولا تنسب الشرّ لأحد.

المحبّة لا تفرح بالظلم،

لا تشمت، ولا تعير،

بل تفرح بالحقّ.

المحبّة تستر كل شيء.

المحبّة تصدّق كل شيء.

المحبّة ترجو كل خير.

المحبّة تتحمل وتحتمل كل شيء.

المحبّة لا تزول ابدا.

وهذه الثلاثة باقية:

الايمان والرجاء والمحبّة،

ولكن أعظمها هي المحبّة!."- (1كو 13: 1- 8، 13)

!

* الاصل في كلمة [prophet] هي معرفة "المستقبل"[prophasize]، ويصف (عب 1: 1) ان الاعلانات المستقبلية قبل يسوع كانت جزئية/ وقتية. وفي الثقافة العربية يوصف قراءة المستقبل بال(عرافة) التي نهى عنها الاسلام. وفي القاموس كلمة (نبي) مشتقة من الفعل – نبا- وهو ارتفع من الأرض وتميز عن بقية الادم.

* "ان كثيرين سيأتون باسمي قائلين أني أنا  هو المسيح، فيضلون كثيرين. وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. (!) ويظهر من الأنبياء الدجالين ويضللون كثيرين(!) وسوف يبرز أكثر من مسيح دجال ونبي دجال، ويقدمون آيات وأعاجيب، ليضللوا حتى المختارين، لو استطاعوا!"- (مت 24: 5- 6، 11، 24)

* (سيد حمد): قبر تم كشفه وترميمه في قاطع الرصافة من بغداد في السبعينيات، عقب رواج دعاية انها لرجل صالح، ومن يومه صار له مقام يتردّد عليه الزوار يوميا. وتنتشر هذه المظاهر بشكل مسرف في عراق اليوم، حتى ان بعضها يشوه صورة الشارع او ضفاف الأنهار. ولكل ضريح ومقام خدمة كهنوت تبتز جيوب البسطاء وعقولهم.

* نشرت جريدة [London Evening Standard] البريطانية في عددها المصادف ليوم الثلاثاء الثالث من يناير 2017م، خبرين يتعلقان بالهومليس، أحدهما: مقال على الصفحة التاسعة، كتبه [Barney Davis] عن مقتل [Gus Brown] البالغ من العمر (32 عاما) صبيحة السابع والعشرين من ديسمبر 2016م في مكان قريب من الأسواق والمحلات. والقتيل من سكان برمنغهام، كان يعيش مع والدته حتى وفاتها، التي شكلت له صدمة لم يستطع البقاء في البيت بعدها، وصار يعيش في طرقات مركز مدينة برمنغهام ويبيت فيها. وقد حضر الى لندن لقضاء أعياد الكرسمس في العاصمة [Trafalgar Square]. وعرف بكونه [inspirational street preacher] يساعد الهومليس ويعلمهم كيفية حماية انفسهم واتقاء ظروف الطقس البارد.وفي نفس العدد من الجريدة، على الصفحة التاسعة والعشرين كتب [Ed Cumming] تقريرا عن قرار كل من الفنانين [DJ Sara Cox and comedian Joe Lycett] معايشة الهومليس ودعوة سكان لندن للمشاركة في المبادرة لجمع تبرعات خيرية للهومليس من الفئة العمرية [16- 25]. ويذكر التقرير ان (31%) من الشباب الهومليس في لندن ينامون في أماكن غير آمنة. وأن (30 ألفا) يواجهون مخاطر التحوّل الى هومليس لأسباب عائلية او صحية أو إشكالات بلدية لعدم تقديم المساعدة اللازمة لهم.     

** كلمة (شريعة) في العربية مشتقة من أصول هندية، وكلمة (قانون) من أصول إغريقية قديمة.

الفكر الديني عموما يستند على طروحات ارسطو في الحواس والظاهراتية والمنطق وغير ذلك.

 

 

لامات يسوع.. 5

وديع العبيدي

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.