3

:: لامات يسوع.. 5 ::

   
 

التاريخ : 15/01/2017

الكاتب : وديع العبيدي   عدد القراءات : 1074

 


 

[7]

يسوع لم يتكبر ولم يفتخر ولم يعيّر..

 

(1)

تعلمنا في المدرسة معاني الكبرياء والأنفة القبلية والقومية. وفي أغراض الشعر، عرفنا الفخر والمديح والغزل والرثاء. وفي ظل تينك الثقافة الاجتماعية التي تختلط فيها الأفكار والقيم والأخلاق، نشأنا ونُسجنا على منوال من سبقنا.

فالكبرياء والفخر تتداخل في قاموس يشتمل العزة والشرف والإباء والقوة والتسلط ورفض الذل والانحناء. وعندما نشرت مجموعتي الشعرية الأولى، لم يحضرني عنوان غير (وطن الحبّ.. وطن الكبرياء).

وكانت تلك المجموعة خرجت من مأساة فقدان أخي الأصغر في ملابسات معارك الفاو/(1986م)، والتي كتبت معظم نصوصها، بالدم والدموع والنشيج المتصل حول لاجدوى الحرب، والأسئلة المستحيلة.

إلا أن مكانزمات الألم المقعر والإحباط الاجتماعي والوجودي، ما تفتأ تنقلب على ذاتها، مدفوعة باليأس وغريزة الانتصار للحياة، كما أشار لها الشاعر والناقد الحصيف فائز الحداد في قراءته لقصيدة (المفعول فاعلا) في وقت لاحق.

هكذا ظهر عنوان كتابي الأول، كما لو أنه كل ما تبقى من رثاثة لغة منقرضة. ولكون اصداراتنا المباشرة، تجري وتنطلق من نقطة ما في الباراسيكولوجي وارشيف اللاوعي المتراكم، فقد أدركت لاحقا، ان العنوان برمته، هو ترجمة لقصة جين اوستن المعروفة (الهوى والكبرياء).

وعلى رغم المفارقة والشعور بالاحباط بين سياق القصائد، والعنوان الموضوع على المدخل، فقد كانت تلك المجموعة، أجدر بعنوان مختلف!.

 

(2)

نحن لسنا احرارا، بأي معنى من معاني فكرة الحرية، والتي رسمتها ثقافة التنوير الاوربي، وليس اللغة والثقافة العربية.

ان اختبارنا الوحيد للحرية هو التمرد وممارسة العنف والتدمير.

وعندما تغيب فكرة الحرية ومعانيها، تكون العبودية هي صورة الحياة والكيان الاجتماعي.

وليست اللغة والعائلة والقبيلة والطائفة والدين والقومية والدولة، غير أُطُر عبودية مع كل انعكاساتها ومتوالياتها اللانهائية.

الحرية هي الاختيار، ولكي تكون قادرا على الاختيار، لابد أن تكون حرا بكل معنى الكلمة.

فالحرية نسبية، والنسبية تنفي الاطلاق. وطالما كانت الحرية نسبية، فثمة عبودية، حتى لو كانت نسبية. وكشوفات الفيزياء المتأخرة تؤكد ان كل شيء في الكون نسبي.

وبالتالي، فكل ما على الارض، وما يتصل بالانسان هو نسبي. وكل ما هو نسبي فهو مؤقت. وكل ما هو مؤقت هو زائل. وكل ما يزول فهو باطل، بحسب سفر الجامعة لسليمان الحكيم:

"لقد شاهدت كلّ الاشياء التي تم صنعها تحت الشمس، فإذا الجميع باطل، كملاحقة الريح!."- (جا 1: 14)

 ومعنى كلمة (باطل = زائل)، وفي لامية المعري:

(ألا كل شيء ما خلا الله باطل/ وكل عظيم لا محالة زائل)!.

إذن.. ما معنى الحياة؟.. في ظل فلسفة  النسبية والزوال!.. 

 

(3)

المعنى هو النوع. الاهتمام بالنوعية، والسعي نحو تهذيب كل شيء في متناول اليد وفي عالم الفكر والنفس والشعور، لاستحقاق معنى الجدارة.

العناية بالنوع يقتضي وعيا – حضاريا- مميزا، وتوجها سلوكيا يرى ما بعد الشيء. لكننا – كعرب- ومجتمعات شرق متوسطية، تقاطع تاريخنا مع الحضارة، وصرنا نخلط بينها وبين العدو –الأوربي-(*).

وما زلنا لليوم، نشكو من قناعاتنا المسبقة نحو للغرب والحضارة. وهذا هو مغزى اعتزازنا بالبداوة والسلفية الماضوية، بطقم مفاهيمها ووسائلها.

فبينما يجتهد الغرب ويتطور بالعقل والبحث العلمي، يركز العرب والشرقأوسطيون على عنصر الكم والتنافس في التراكم، سواء في سباق الكثافة السكانية بين البلدان أو أعداد الدول والاحزاب والطوائف الدينية.

العقل هو جوهر الحضارة، فيما الجسد/ الكم هو مركز اللاحضارة، وسلاحها لعدم الانقراض.

ولابد من الاعتراف، ان هزيمة التنمية والحداثة الوطنية، تمثلت في نقطة واحدة، هي فشل النظام العربي في تخطيط الاسرة وتحديد النسل، وعدم حظره نظام تعدد الزوجات ذي الإرث العبودي.

فما انتصر فيه الغرب بالعقل وحركة التنوير، وأنجزته الثورة الثقافية في الصين، هو ما فشل فيه العرب تاريخيا وراهنّا. وهو ما يتمثل  بإيجاز، في مسألة التحكُّم بالجسد [فاطمة المرنيسي: هل أنتم محصّنون ضد الحريم].

 

 

(4)

تركيز يسوع على الحرية، له ركيزتان في الوجود والواقع السائد.

في مستوى الوجود، كان انغماس الناس في بحر الغرائز والحاجات والأهواء والرغبات، بمثابة تعزية ذاتية، وهروب من مقاساة المعيشة، ونكد النظام الاجتماعي الطبقي القائم على الاستغلال والعبودية. 

وعندما ظهرت شريعة العبرانيين، اعتمدت على معطيات البيئة والنظام الاجتماعي السائد في حوض المتوسط قبل الميلاد، والذي كان ينقسم بين نوعين من العبودية، العبودية الزراعية المرتبطة بالأرض، والعبودية التجارية القائمة على النخاسة والاتّجار بالرقيق.

فأضفي الطابع الديني على مظاهر الاستغلال والتمايز الطبقي والعبودية من جهة، وتجذير العبودية والتمايز والتراتبية العرقية وربطها بالسماوي والمقدس.

ربط النظام الاجتماعي العبودي والعنصري بعامل الدين والمقدس، منحه صفتين لازمتين: الشرعية، والديمومة العصية على التغيير أو الالغاء. وهو المأزق الذي حشر الفكر الديني نفسه فيه، بغير مبرر.

فالدين، من هذا المنظور، عائق عويص في طريق تحرير العقلية وحرية الانسان، عندما يصور النظام الاجتماعي السائد بوصفه النظام الأمثل الذي وضعه (اله السماء).

وفي قصة استلام لوحي الحجر في سفر الخروج، يتكرر تعبير، انها مكتوبة بـ –أصبع- يهوه. وفي القرآن، يتم تكرار انه –كلام الله-. ومن يستطيع الغاء حرف كتبه – اصبع- الاله، او لفظه بفمه.      

الدين - العبودية -الجسد- الكم: متلازمة فكرية، وطقم كامل. ومن يقبله، يقبله بالكامل، ومن يرفضه، يرفضه كله، بغير انتقائية ومراوغة ومراءاة.

 

(5)

في هذا المفترق الخطير، يجتهد الكليرك المسيحي، في تفسير عبارات محددة بعينها، وحصرها في زاوية تفسير لا تقبل القسمة والمساومة.

ومن هاتيك العبارات: اثنتان: الاولى: (ما جئتُ لأنقض، بل لأكمل)!، والثانية: (السماء والأرض يزولان، وحرف واحد لا يزول)!.

ورد النصان في اطار الموعظة على الجبل: (مت 5: 17، 18).

والرد عليها وارد عقليا وعمليا، كما احاول إيجازه..

أولا: استخدام الفاظ نقض- الغاء- زوال، هي بمعنى واحد، ينفي صفة الديمومة والأبدية. ولماذا يطرق يسوع تلك الفكرة، ان لم تكن متحققة، أو قيد التحقيق، ومن غير مهماز في صلب الواقع.

لا احد يفرض شيئا او فكرة على يسوع، وهو لا يتطرق لأمر غير موجود. والسؤال المطروح هنا، ما هي مناسبة النص، وكيف دخلت في السياق؟..

ثانيا: تأكيد يسوع على أنه: لا يمكن وضع الخمر الجديدة في زقٍّ قديم، لأن الزقّ سينفجر ولن يحتمل الخمرة الجديدة. والخمر/ نبيذ الكرمة له مرموزية لاهوتية متَّفق عليها من قبل الجميع، في الدلالة على دم يسوع.

ثالثا: لعنه شجرة التين، لأنها لا تثمر/ (مت 21: 19)، والتين كما متعارف، يرمز للعهد القديم.

رابعا: أين هي تطبيقات وصايا سفر الخروج وتثنية اليوم؟.. اين هي قوافل الذبائح اليومية والاسبوعية والدورية، ذبيحة صباحية وذبيحة مسائية، وهل ثمة جماعة يهودية أو غير يهودية تلتزم بها؟.. واقع الحال ان شريعة موسى انتهت في زمنها. ووصايا الانبياء – اشعيا وارميا وميخا- تحديدا، تعيد النظر الى الوصايا نظرة جوهرية انسانية، وتنزع عنها كل الشكليات والطقوس الميتة.

 

(6)

من أجل هذا صَلَب الكهنوت التاريخي يسوع!.. ومن أجل هذا يعيد الكهنوت المعاصر صَلْب يسوع، ويسوّغ تغييبه، ليستمر في نفوذه الاقطاعي الديني. هذا النفوذ الذي لم يقتصر على ما يوصف بالكنائس التقليدية، وانما وجد طريقه وتغلغل في ما يوصف بالكنائس الاصلاحية/ المُصلَحة او البروتستانتية التي تجاوزت في ترفها الدنيوي كل ما سبق، وافترضت لاهوتا مدرسيا وتعليما نظريا أجوف، لا يتجاوز نطاق –أحد الكنيسة-.

لكن الملفت ايضا، امام افتضاح الفساد الديني والاجتماعي، تصاعد الاصوات من داخل الكنائس ومن صفوف الكليرك، ليس البروتستانت، بل الكاثوليك والأرثوكس ايضا، في التنديد ببعض المظاهر، ونفي اعتبار (المسيحية) ديانة، أو طقوس جامدة، وزيادة ترديد مفردات [الحرية، النعمة، الروح القدس] ، دون تغيير واقعي أو جوهري في النظام والطقس والتعليم السائد.

من هذا المنظور، ظهرت دعوات وموجات من الدعاة والمصلحين عقب سقوط بيزنطه، مع اختلاف اتجاهاتها واغراضها. بعض تلك  الحركات كان يستند للتنافس والاختلاف وعوامل البلدانية والثقافة.

وما جرى بين بطرس وبولس، وبين اليهود المتطرفين واتباع الطريق، وصولا الى اريوس واسكندروس، والارثوذكس والكاثوليك، بين الاسكندرية وأنطاكية، ثم روما وكونستانتينوبل، استمرت مظاهره وتشياته باختلاف الزمن والاشخاص، مستندة للصراعات والاطماع الشخصية، اكثر من شيء آخر.

واليوم حيث تتردّد مزاعم نهضة روحية،  وتنتشر ظاهرة الوعّاظ الفضائيين والكنائس الفضائية، تحتدم مظاهر المنافسة والصراع داخل المسيحية، مدفوعة بعوامل الجسد والغيرة والغرور والشهرة والطمع، مما يزيد من مظاهر الارتباك وبلبلة الأذهان والحياة الروحية.

مما يعيد الى الاذهان مواقف الفريسيين والصدوقيين نحو يسوع، وكأن التاريخ يتكرر.

يسوع لم يؤسس ديانة أو سلطة كهنوت، ولم يعين ألوان الثياب الكهنوتية ومراتب الكليرك الهيراركية، المتشبهة بالبلاط الروماني وثياب الأباطرة. يسوع قاد ثورة ثقافية ووضع منهاجا فكريا/ روحيا، لحل كل إشكالات النفس والجسد البشري، ويطلقه من تبعية العادات والأغلال الاجتماعية والاقتصادية. ولابد من إعادة قراءة يسوع، خارج الإرث الديني العبودي المتوارث.

 

 

(7)

الحياة هي الحرية..

الحرية هي الوجود..

الوجود هو الشجاعة..

الحرية والشجاعة والوجود هي الأمل..

ولا حياة بلا امل..!

 

(8)

تعرفون الحقّ، والحقّ يحرركم..(يو 8: 32)

إن حرركم الابن، فبالأحرى تكونون أحرارا. (يو 8: 36).

من ينظر بالتدقيق

في القانون الكامل، قانون الحرية،

ويواظب على ذلك، يكون

كمن يعمل بالكلمة،

 ويكون مبارَكا في كلّ ما يعمله!..(يع 1: 25)

ان المسيح قد حررنا،

وأطلقنا في سبيل الحرية.

فاثبتوا إذن، ولا تعودوا

الى الارتباك بنير العبودية..(غل 5: 1)

انما الى الحرية دُعيتم،

أيها الأخوة،

ولكن لا تتّخذوا من الحرية،

ذريعة لإرضاء الجسد،

بل بالمحبة كونوا في خدمة

بعضكم البعض.. (غل 5: 13)

 

(9)

[المحبة- النور- الحرية] ثلاثة أسس تقوم عليها فلسفة يسوع الاجتماعية الوجودية، والثلاثة بمعنى واحد. ويقابلها ثلاث مفردات: [كراهة- ظلمة- عبودية]، والثلاثة متداخلة ومترادفة في معنى واحد.

تلحق بالثلاثة الأولى، مفردات أخرى تشكل إطارا لها مثل: [الروح- البرّ- الأبدية]، وكلها في معنى واحد. يقابلها ثلاث مفردات: [موت- إثم- زوال]، والثلاثة متداخلة ومترادفة في معنى واحد.

 ان جوهر فكرة الحرية اليسوعية تتلخص وتبتدئ بالحرية من عبودية الغريزة وحاجات الجسد والرغبات والأهواء. فالحرية تستند الى شجاعة المرء، في التغلب والتحكم في جسده ورغباته وانفعالاته، ومنه ينتقل الى اطار المجتمع المحيط به. حيث يرتبط الايمان بالقيم، والقيم بالسلوك الفكري والشعوري في مجال التطبيق اليومي الخاص والعام.

 

(10)

 

"هذه الثلاثة باقية: الايمان والرجاء والمحبة، ولكني اقول لكم، أعظمها هي المحبة!"- (1كو 13: 13)

ويلخص بولس الطرسوسي قراءته للقيم اليسوعية تحت عنوان (ثمر الروح القدس): "أما ثمر الروح فهو: المحبة والفرح والسلام وطول البال واللطف والصلاح والأمانة والوداعة وضبط النفس.

وليس من قانون يمنع هذه الفضائل.

فالذين في المسيح،

قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات.

إذا كنا نحيا بالروح،

فلنسلك ايضا بالروح.

لا نكن طامحين الى المجد الباطل،

يستفز بعضنا بعضا،

ويحسد أحدنا الآخر.!"-(غل 5: 22- 26).

"لتكن المحبة بلا رياء..

انفروا من الشرّ..

والتصقوا بالخير..

أحبّوا بعضكم بعضا محبة أخوية..

مفضلين بعضكم على أنفسكم في الكرامة..

لا تتكاسلوا في الاجتهاد..

بل كونوا ملتهبين في الروح..

خدّاما أنقياء للكلمة..

فرحين بالرجاء الذي فيكم..

صابرين في الضيق..

مواظبين على الصلاة بالروح..

متعاونين في سدّ حاجات أخوتكم..

مداومين على إضافة الغرباء..

باركوا الذين يضطهدونكم..

باركوا.. ولا تلعنوا..

افرحوا مع الفرحين..

ابكوا مع الباكين..

كونوا متوافقين فيما بينكم..

لا تهتموا بالأمور العالمية..

بل سايروا ذوي المراكز البسيطة

لا تكونوا حكماء في نظر أنفسكم..

لا تقابلوا شرّا بشرّ..

اجتهدوا في تقديم ما هو حسن..

وفيما يتعلق بكم، بحسب قدرتكم..

لا تنتقموا لأنفسكم، أيها الأحباء..

بل، عيشوا في سلام مع الجميع..

ان جاع عدوّك، فأطعمه..

وان عطش، فأسقِه..

لا تدع الشرّ يغلبك..

بل أغلب الشرّ بالخير.!"- (رو 12: 9- 21)

"أننا بالروح واحد..

قد تعمّنا جميعا لنصير

جسدا واحدا..

سواء كنا يهودا أو يونانيين..

عبيدا أم احرارا..

وقد سقينا جميعا من الروح الواحد."- (1كو 12: 13)

 

ومجال تطبيق أي من الفضائل المذكورة،

يقتضي ان يكون المرء حرا، صادقا وشجاعا،

ازاء كل نظام اجتماعي أو فكري أو جسد نفسي.

 

* "لا يفتخر أحد بالشرّ!"- (1كو 3: 21)

* " المحبة لا تتفاخر ولا تتكبر."- (1كو 13: 4)

* ميول الحركات الوطنية والانظمة الجمهورية العربية للمعسكر الاشتراكي في القرن العشرين، تعود في جانب كبير منها لمشاعر العداء التاريخي نحو الغرب، ودوره في الاحتلال الكولونيالي لمنطقة الشرق الاوسط. ويمكن القول ان النظرة العربية الى المسيحية، كانت جزء من تلك المشاعر، والربط بين المسيحية والامبراطورية الرومانية قديما واوربا الاستعمارية/ الصليبية بعدها، متغافلين هوية يسوع الجليلي الفلسطيني. 

 

لامات يسوع.. 4

وديع العبيدي

 

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.