3

:: شعر على مقام الألم عند ندرة عبدالله اليازجي ::

   
 

التاريخ : 12/11/2016

الكاتب : عطية مسُّوح   عدد القراءات : 1536

 


 

 

على الرغم من أن الشاعر ندرة عبدالله اليازجي يكتب الشعر منذ أكثر من خمسين عاماً، فإنّه لم يُصدر مجموعة شعريّة حتّى اليوم. إنّه شاعر لا يرغب في أن يبرق اسمه في الصحف ووسائل الإعلام، بل يكتفي – في معظم الأوقات – بكتابة القصيدة، بعناية، ثمّ يقرأ، ما كتبت موهبته على مسامع أصدقائه، فيطربهم برشاقة موسيقاه، وعذوبة لغته، وعمق معانيه.

 وُلد الشاعر ندرة اليازجي عام /1945/ في بلدة مرمريتا، التي منحها موقعها على سفح جبل (السائح) جمالاً طبيعيّاً ساحراً، والتي امتازت بمكانتها الثقافية والعلميّة، فكانت من نقاط الإشعاع المبكرة في محافظة حمص. أنهى الشاعر مرحلة الدراسة الثانوية في مرمريتا، ثم حصل على الإجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق وعمل في التدريس والصحافة.

 

 يلتزم في شعره نمط (قصيدة التفعيلة). مثله في ذلك مثل معظم شعراء الستينيّات والسبعينيّات والعقود الأخيرة من القرن العشرين.

 يحمل شعره صور هواجسه الذاتيّة، لكنّه كان أيضاً، وعلى الدوام، قيثارة لآلام شعبه ووطنه. وسنقارب في بحثنا بعض قصائده التي كتبها في الأعوام الأربعة الأخيرة.

 الجانب الأشدّ إيلاماً في لوحة هذه الأعوام، هو مشهد الموت، ذلك الوحش الفاغر فمه، الذي يخترم الناس بالجملة، والذي ابتهجت لشراسته المقابر، وهي تلتهم وفود الموتى. لقد صوّر الشاعر المقابر وهي تستعجل الموتى وتسير لملاقاتهم، وقد شرّعت أبوابها لابتلاعهم:

 وسمعتُ أنّ مقابراً تمشي إلى الموتى

 تؤنّبهم على المشي الوئيد

 ومقابراً أخرى تُعِدّ ولائماً للطير

 يأتيها من الأفق البعيد

هذه المقابر الأخرى، لا وقتَ لديها كي تحتضن الموتى في أحشائها، فتكتفي بأن تلقيهم على أطرافها في العراء القاسي، تاركة أمرهم للطيور الجارحة تغتذي بجثثهم. لقد ألقت قسوة الحرب ظلالها على المقابر، وأعطتها بعض طباعها، فغدت شرسة قاسية نهمة، بل غدت تتلذّذ برؤية الطير وهي تمارس ما اعتادت ممارسته في الحروب. إنّ الشاعر يستحضر صورة الطير في شعرنا العربي القديم، وهي تجد في الحرب مصدراً للرزق الوفير، فترافق الجيوش القويّة الغازية، كما قال النابغة الذبياني:

إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم    عصائب طير  تهتدي بعصائب

وكما في قول المتنبي عارضاً الفكرة ذاتها، مضيفاً إليها القصد والإرادة، فسيف الدولة هو الذي يُجنّد الطير ويرمي بها العدوّ:

له عسكَـرا خيلٍ وطيرٍ  إذا رمى     بها عسكراً  لم يبقَ إلاّ جماجمه

ويوظّف ندرة اليازجي هذه الصورة للدلالة على فظاعة الموت المعاصر، مضيفاً معنى جديداً، وهو أنّ المقابر التي لم تعد تتّسع للموتى، تُعِدّ منهم ولائم للطير.

 وإذا كانت المقابر سعيدة بكثرة روّادها، والطير فرحة بوفرة زادها، فإنّ للشجر موقفاً آخر.. لقد غاض ماء الأنهار، ولم يبق سوى الدم يسيل بغزارة، فما الذي يشربه الصفصاف وهو الذي لا يعيش إلاّ حيث يداعب الماء جذورَه وسوقه وذوائبَ أغصانه المتدلّية؟ إنّ الشاعر يصوّر الصفصاف يائساً، لا يجد متّسعاً للحياة أمامه:

 ورأيتُ رأي العين أرتالاً من الصفصافِ

 تنحر نفسها فوق الضفافْ

 ورأيتُ قاع النهر مذهولاٌ

 ويندب حظّه:

 إمّا الدماء أو الجفافْ..!

صورة الموت هذه، يعرضها الشاعر عرضاً سرديّاً غنيّاً بالصور. ويبدو لي، وربما للقارئ أيضاً، أنّ ندرة اليازجي يؤْثر طريقة العرض هذه في الكثير من قصائده، فيقدّم فكرته وكأنّه يحكي قصّة، تمتزج في عباراتها الصورة والحركة والموقف، وهذا ما يزيد الفكرة وضوحاً، ويمنح النصّ حيويّة.

 ولا يقف شاعرنا موقفاً صنميّاً من قواعد النحو العربيّ، ولا سيّما بعض القواعد التي تفتقر إلى المنطقَ، فقد يأخذ عليه نحويّ ما أنّه لم يُكرّر كلمة (إمّا) في قوله: (إمّا الدماء أو الجفاف) ! لكنّ الشاعر وجد عدم تكرارها أقلّ ثقلاً ، لا لأنّ الوزن اقتضى ذلك فقط، بل لأنّ العبارة تأتي – بغير هذا التكرار – أكثر رشاقة. وقد نظر بعض نقّادنا القدامى إلى هذه المسألة نظرة تفهُّمٍ وتساهُل، فقالوا: "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره".

 ويبدو أنّ ظاهرة الموت العبثيّ التي أصبحت على هذا النحو من الاتّساع، تحوّلت إلى هاجس يؤرّق الشاعر، ويلازم تفكيره. وهذا ما ظهر في القصيدة القصيرة التي ذيّلها الشاعر بتاريخ كتابتها (2015):

 لقد دخلتُ الآن في الفصل الأخيرِ

 من فصول هذه الروايةْ

 تعبتُ فيها غاية التعبْ

 أخاف إن تركتُها ونمتُ أنْ

 يفلتَ ذاك البطل الشرير من رقابتي

 ومثلما أماتَ معظمَ الشخوص غيلةً

 يميتُ لي حبيبتي

 تلك التي أحببتُها من أول الرواية...

 هذه القصيدة ليست نتاج خيال منفصل عن الواقع، أو معزول عن الأحداث. ولا أظنّ الشاعر يتخيّل نفسه كاتبَ روايةٍ يمسك بخيوطها ويوجّه حركات أبطالها وتصرّفاتهم، بل إنّني أعتقد بأنّ هذه الرواية رمزٌ لما يجري في الواقع، معادلٌ متخيَّلٌ له. كما أعتقد بأنّ الشاعر يدعو الناس، والمثقّفين بخاصة، إلى اليقظة والتنبُّه، والإسهام في لجم الشرّ المحدق بكلّ ما بقي من الجمال، ممثّلاً بالحبيبة.

 وتختلف هذه القصيدة عن سابقتها، إذ إنّ الشاعر لم يُعبّر بالصورة، لم يدع الفكرة تُطلّ برأسها من خلال صورة فنّية. لكنّ الاستغناء عن الصورة بوصفها رداءً جميلاً للمعنى، لا يعني أنّ القصيدة ضعفت فنّيّاً، بل أزعم أنّها قويت وتماسكت، إذ جاءت كلّها صورة فنّيّة واحدة، متكاملة، هي الحياة في صورة رواية، يخشى كاتبها خروج بطلها الشرّير من نطاق سيطرته.

 تشكّل هذه القصيدة القصيرة بؤرةً جماليةً كثيفةً مضبوطة، لا يمكن للقارئ أن ينتزع عبارة أو كلمة منها، ولا يصل إلى فكرتها إلاّ مع سطرها قبل الأخير. لكنّ هذا لا يعني أنّ السطر الأخير جاء كلاماً مجانيّاً لا إضافة فيه، فقد يكون هو الذي جعل القارئ يدرك أنّ الرواية تمثّل الحياة، لأنّ حبيبة كاتبها (الشاعر) هي إحدى شخصياتها، فبغير هذه العبارة كان يمكن أن يعني انفلاتُ البطل الشرير خروجَه من الرواية وبطشه بحبيبة الشاعر الواقعية، فتضعف فكرة القصيدة الرئيسة، التي هي تَطابُقُ الرواية المتخيَّلة مع الحياة الواقعية.

 ولعلّ هذه القصيدة امتداد لقصيدة كتبها قبل ذلك بعامين، يمجّد فيها صوت الشاعر الدافئ القويّ، الساهر على جمال الحياة، الفاضح الشرّ، المتحدّي الظلام:

 اكتبْ.. فالليلة قد تمضي من

 دون صباحْ

 اكتب وتعلَّم ألاّ تستجدي من هذي الظلمة شيئا..

 فالصوت الصارخ في البرّيّة ما زال يدوّي

 والآذان المثقوبة تنتظر الدور على رفّ الإسكافيّ

 اكتب كلمات دافئة..

 فلعلّ هواء الليل البارد يخجلُ

 والعصفورَ الملتجئَ إلى الأشجار ينامْ

 الخطاب في هذه القصيدة موجّه للشاعر، أيّ شاعرٍ كان، أو لعلّ الشاعر يخاطب نفسه، يحثّها على السهر والكتابة، فقد يكون الأمل في انبلاج صبح الحياة، صبح التحرّر والانطلاق أملاً ضعيفاً، وفي هذه الظلمة ما من عزاء للنفس ومورِقٍ للأمل غير الشعر. أمّا اليأس فلا مكان له عند شاعرنا، فصوت الحق (الصارخ في البرّيّة) لم يصمت أو يضعف على مرّ الزمن، برغم فشله المتكرّر واستهتار المتنفّذين به، وآذانُ الناس التي صَمّتْ عن ذلك الصوت تبدأ بالإصغاء.. فما عليك أيّها الشاعر إلّا أن تكتب وتكتب، فكلمتك لن تذهب هباء.

 إنّ التعلّل بالأمل، والتمسّك بحقّ الصوت الصارخ في البرّيّة بأن يستمرّ، وإدراك دور الكلمة، ذلك كلّه له قيمة كبيرة في زمن لا يُسمع فيه غير صوت الرصاص.

 وينتبه الشاعر – في قصيدة أخرى – إلى ما لم ينتبه له غيره من الشعراء، وهو أثر الحرب على وحوش الجبال والوديان، أي على الطبيعة وحشاً وشجراً. ففي ذهن الشاعر لوحة ما تزال حيّة، هي لوحة ليل القرية الهادئ الذي تصدح فيه أصوات الثعالب (الواويّات)، وهي تخرج من مخابئها النهاريّة. إنّها موسيقا الليل في قرية جبليّة تزيّن محيطها غاباتُ السنديان، والصخورُ البيض والرماديّة التي تنخرها أوكارُ الوحوش، ومعظمُها الثعالبُ التي ألِفت القرى، وألِفَ أهلُ القرى أصواتَها. لقد نفرت الثعالب من أصوات الرصاص والمدافع التي عكّرت ليلها، وطغت على عذوبة عُوائها. فكيف كان ردّ فعل الشاعر؟..

 سألعن ساعتي الواقفةْ

 وأمضي أقابل هذا المساءْ

 وأرفع دعوى على كلّ من (طفّش) الواوياتِ

 التي أصبحت – منذ كنّا وكانت وكان الغناء الشجيّ –

 رفيقةَ أحلامنا التائهاتِ

 بليل الجبال النديّ

 لقد تأخّرت (الواويات) عن موعد إطلاق ترانيمها العذبة، فكأنّ عقرب الساعة توقّف، وكأن الزمن تجمّد، فبدأ الشاعر قصيدته بأن لعن ذلك التوقّف.. وتوجّه إلى مساء القرية الذي يحيا في ذهنه، شاكياً له ما أصاب الثعالب فنفّرها ولجَمَ أفواهها، وحرمها حقّها في الغناء:

 لأنّ لها الحق في رفعها الصوتَ

 أكثر من أيّ ديك يعيش على المكرماتْ

 ومن بينها مكرمات القمامةْ

 وتلفت نظر القارئ هذه المقارنة بين حقّ الديك في الصياح وحق بنات آوى في العواء، فلماذا اختار الشاعر الديك؟ أيكون الدافع هو أنّ الديك حيوان داجن يعيش مع الناس ويغتذي ما يقدمون له من بقايا ما يأكلون؟ بينما تحصل (الواويات) على طعامها بجهدها وبحثها الدؤوب؟ أم إنّ وجه الاختلاف هو أنّ الديك يقضي الكثير من وقته بين القمامة ويرفع رأسه ويصيح معتزّاً بما نقره من الفضلات القذرة، وهذا ما عبّر عنه المثل الشعبيّ (كل ديك على مزبلته صيّاح)، بينما تعيش الواويات بين الأشجار والصخور، فتتنفّس أنقى هواء، وتبارك الليل بابتهالاتها وأناشيدها؟ أيريد الشاعر من القارئ أن يستنتج أنّ الحرب، كلّ حرب، تستبعد ما هو طبيعيّ وجميل، وتُبقي القبيح والطفيليّ؟ للشاعر أن يقول ما يريد، وللقارئ الحقّ في أن يتساءل ويستنتج.

 ولا يكتفي الشاعر باستنكار ما حدث، ورفع الصوت في وجهه، بل إنّه سيسعى إلى تصحيح الأمر، وإعادة (الواويات) إلى ما كانت عليه:

 سأمضي إلى الأودية

 وأصعد نجو الجبالْ

 وأُرجعها كلّها لو قدرتُ

 لعلّ بذلك يرجع لليل بعض المهابةْ

 وبعض الجمال.

 وتستمر قيثارة الألم، بين يدَيْ ندرة اليازجي، بعزف ألحانها، التي تصوّر ما حلّ بالوطن، بعبارة شجيّة جارحة، افتتح بها قصيدة أخرى:

 دمشق تئنّ وتنتحب الغوطتان..

 وترصد هذه القصيدة موقف القوى العظمى المراوغة والماكرة، تجاه الأزمة/ الكارثة التي تحلّ بالوطن، فيعرض لنا حُلماً غريباً، أبطاله في أعلى علّيّين، يتنادون، ويصخبون، و.. لكنّهم لا يفعلون شيئاً.

 ويُفيق الشاعر ويخرج من حلمه، ويستعيد قدرته، ويعود إلى الواقع على صهوة عبارات شعريّة مُحكمة الصوغ، حافلة بالصور التي يأخذ بعضها بيَد بعض، فترسم لوحة مغادرة الحلم والعودة إلى الواقع:

 قفزتُ من الحلم أعدو

 كمهر تفلّت من قبضة السارقين

 رميتُ القناع.. وطوّحتُ بالقدَر الكاتمِ الصوتِ

 عبّأتُ من نتف الحلم أشرعتي التالفةْ،،

 وطرتُ إلى الأرض يسكنني أملٌ وانتظارْ..

 لا يعود الشاعر من حلمه إذاً، عودةَ اليائس المخذول، غير القادر على الفعل، بل عودة القويّ المفعم بالأمل، الذي سيفعل ما يستطيع، كي يقتنع العالم بأنّ النار المشتعلة قد تلتهمهم، وأنّ الدم المنساح سيصل إلى وجوههم:

...... يسكنني أملٌ وانتظار

 بأن يتعلّم من هم يقيمون في شاهقِ الكون

 – لمّا تسيل الدماء على وجههم

 والجنانُ التي أُتخِمت بالذي يشتهونْ

 تصير يباباً وقفراً

 وأطفال آلهة العرش تبكي على كسرة

 من رغيف –

 بأن الدماء على أيّ مصطبة أو جدار تسيل

 تطير إليهم بلا أجنحة...

 ويتجاوز شاعرنا الكلام عمّا يجري، أي تصوير الواقع، إلى تلمّس أسباب وصولنا إلى ما نحن عليه. ويفعل ذلك – بطبيعة الحال – بروح الشاعر ووجدانه وأدواته، لا بأدوات الباحث وعلمه وعقله. ويدلّه وجدانه القوميّ والإنساني، وجدانه الذي يُنعشه عبق التاريخ ويطعنه قبحُ الواقع، على ذلك السبب العميق، يقول في قصيدة أخرى:

 لأنّا وضعنا على الرفّ ما كان يصحبنا

 من شجاعة ذاك الزمانْ

 وخُنّا الأمانةَ

 بعنا مواضي السيوف التي أتلفت عمرنا بالحفاظ عليها

 ولم ننتبه لبقايا الصدأ

 التخلّي عن الأصالة إذاً، هو ما وجده الشاعر جوهر المأساة، وهو ما جعل مجتمعنا هشّاً ضعيفاً.. فهل في هذا التعليل نزعة ماضوية؟ هل يشي للقارئ بأن أثر العنجهيّة القوميّة التي طبعت معظم خطابنا العربيّ منذ أواسط القرن العشرين ما يزال مستمراً في وعي الشاعر أو في لاوعيه؟ قد يستنتج بعض القرّاء مثل هذا الاستنتاج، ولكن مهلاً، ولا تتسرّعنّ بحكمك أيّها القارئ، فلعلّ الشاعر ينظر إلى الأصالة في حركتها التاريخية، ويراها في تلك السلسلة من النضال والقيم والثقافة والانفتاح، التي وُجدت على الدوام مقابل التخاذل والعدميّة والجهل والانغلاق!.. ولعلّه لا يجدها فقط في ذلك الماضي البعيد الذي اعتدنا على التغنّي به وبأمجاده، لدرجة أنّنا صرنا نستغني به عن الحاضر، ويُعمي أعين الكثيرين منّا عن عجزنا الواقعيّ.. ولعلّ الشاعر يجد الأصالة في تلك النزعة النهضويّة التي غمرت أرواح العرب في العصر الحديث، منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، ولا سيّما في مصر وبلاد الشام والعراق، تلك النزعة التي تجلّت في الثقافة والسياسة والتعليم والاقتصاد، وفي الموقف من حقوق المرأة وحرّيّتها، وغير ذلك، ولكنّها تجلّتْ بخاصّة في حركة حوار فكريّ وثقافي حرّ.. الأصالة التي نرى أنّ الشاعر يعنيها هي هذه، ولقد تعثّرت، بل انقطعت حركتها منذ أواسط القرن العشرين، وهو ما توحي به عبارة: (وضَعْنا على الرفّ) التي افتتح بها القصيدة.

 وتأتي، بعد تلك العبارات، عبارة شعريّة قد تتعدّد دلالاتها، وقد يفهمها القارئ وفق ثقافته، أو وفق ميله وهواه:

 ولم ننتبه لبقايا الصدأ...

فأيّ صدأ هذا الذي يقصده؟ أهي الجوانب السلبيّة من تراثنا، وقد ظلّت عالقة في عقولنا، تتحكّم ببعضها تحكّماً، وتؤثّر في بعضها تأثيراً؟ أم نقاط الضعف في تجربتنا السياسيّة، نحن عرب هذا الزمن، نقاط الضعف التي حالت بيننا وبين بناء الدولة الحديثة؟ أم لأنّ جرثومة الأنانية أصابت سلوك أُوْلي الأمر منّا، فعملوا لذواتهم لا لمجتمعاته ؟.. الصدأ متعدّد الأشكال، والنتيجة واحدة، والشاعر يترك لنا أن نفكّر في الأمر.. كما نشاء.

 وكما توحي كلمة (الصدأ) بدلالات متعدّدة، توحي كلمة (فأرة) في العبارات الشعريّة التالية:

 لأنّا هجرنا عشيقاتنا الفاتنات

 وراودْنا في السرّ فأرة جيراننا

 وكتبنا عليها

 اشترينا لها خاتماً من حديد

 ولم ترض تلك البغيّة إلاّ بإسوارة من ذهب

 لأنّا رضينا بدور الذنب

 استطال بجبهتنا ألف قَرن وقرنٍ

 وأضحت تُجاوز في طولها كلّ ما ربّنا قد وهبْ

 إنّ فأرة الجيران التي استبدلناها بعشيقاتنا الفاتنات تحكّمت بنا واستبدّت وفرضت إرادتها. فمن هي هذه الفأرة التي راودناها على نفسها فراودتنا على كلّ شيء؟ لم تقبلْ منّا خاتم الحديد، فرضخنا وقدّمنا لها الذهب.. أهي رمز للحكّام العرب الذين رضينا بهم بدائل لصورة الحاكم الذي نطمح إليه؟ الصورة التي رسمناها في أذهاننا ونحن نسعى إلى النهوض؟ لعلّ الشاعر يرمز بالعشيقات الفاتنات إلى صورة الحاكم كما هي في الذهن، وبالفأرة إلى صور الحكام العرب الذين رضخت الشعوب لإراداتهم، وسكتت عن مفاسدهم وأطماعهم مجسّدة بالذهب.. أمّا النتيجة فكانت أنّ الشعب أصبح قطيعاً يُقاد من قرونه.

 يقرأ القارئ هذا النص، فيجده جميلاً، فكرة وإحساساً وبناء فنّيّاً. فما مصدر هذا الجمال؟

 يقوم النصّ على السرد العمليّ إذا صحّت التسمية، لا على السرد الوصفي، وأقصد بالسرد العمليّ السردَ الذي يرصد الفعل، ولا يكتفي بالوصف. فإذا تجاوزنا كلمة (لأنّا) التي يبدأ بها النصّ وكل مقطع من مقاطعه، فإنّنا نجد سرداً لما فعلناه، كما في: (وضعنا على الرف – خنّا الأمانة – بعنا مواضي السيوف – لم ننتبه...) ، لكنّ كلمة (لأنّا) حوّلت هذا السرد العمليّ إلى سرد سببيّ إذا صحّت التسمية أيضاً، فقد تتابع السرد العمليّ وتصاعدت إيقاعاته، إلى أن جاءت النتيجة: (استطال بجبهتنا)... فعَرْضُ الشاعرِ الفكرة على طريقة السبب والنتيجة، هو الخصيصة الأولى التي يتحلّى بها هذا النصّ. أمّا الخصيصة الثانية فهي تتجلّى ببناء الصورة، فالصورة الكبيرة لا تأتي مركّبة من مجموعة صور متتابعة تتابعاً وظيفياً، بل تأتي حصيلة تلك العبارات السرديّة التي أشرنا إليها. فالقارئ لا يجد صوراً ذات أهمّيّة في عبارات المقطعين الأوّل والثاني، باستثناء بعض الكنايات العاديّة، مثل: (بقايا الصدأ – عشيقاتنا الفاتنات – فأرة جيراننا – خاتم حديد وإسوارة ذهب).. لكنّ العبارات السرديّة المتتابعة أسهمت في رسم لوحة، أو صورة كبيرة، هي صورة الشعب وقد أضحى قطيعاً يُقاد من قرونه الطويلة.

 وفي هذه القصيدة لا يقع الشاعر بما يقع فيه الكثيرون. بمعنى أنه لا يدين الحكام ويبرّئ الشعوب، بل إنّه يُحمّل الشعب جزءاً من المسؤولية، على الأقل لأنه رضي بدور التابع السلبي، مستخدماً للتعبير عن ذلك كلمة جارحة هي (الذنب). ويتّضح تحميل الشعب مسؤوليّة تدهور أحواله، والكوارث التي تنزل به، من استخدام الشاعر الضمير (نا) الدالّ على جماعة المتكلمين، والدالّ هنا على من يتحدّث الشاعر عنهم بوصفه واحداً منهم، أي الناس، الشعب.

أمّا القصيدة الأخيرة من قصائد ندرة اليازجي التي نتناولها، فهي التي تحمل عنوان (نداء إلى الشاعر بدوي الجبل) وهي مكتوبة في أوائل عام/ 2012/، أي قبل كتابة القصائد التي تحدّثنا عنها.

 

 لعلّ ما دفع الشاعرَ إلى استحضار شخصيّة بدوي الجبل، بكلّ ما تُمثّله من قيم وطنيّة وأخلاقيّة وإنسانيّة، هو الفكرة التي عبّر عنها أبو فراس الحمداني بحكمته الموجزة: (وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر). وبدءاً من العبارة التي يستهلّ بها الشاعر القصيدة يلوح موقف الإجلال تجاه هذا الشاعر الشامخ في وجدان المثقفين العرب، وبخاصّة وجدان السوريين الذين لطّخ الدم كرامتهم الوطنيّة، وهدم الدمار عزّتهم:

 لطَيفكَ يحسن أن ننحني الآن

 يا شامخاً

 شاخصاً من عُلاك إلينا..

 وتسألنا: ما الذي تفعلون؟

يُجسّد هذا السؤال الاستنكاريّ موقفَ الماضي القريب، ماضي النضال الوطنيّ من أجل استقلال الوطن وتحرّره، ماضي الوحدة الوطنيّة التي كانت رافعة المنجزات، موقفَ ماضي النهوض من هذا الحاضر الأسود الكريه الذي صنعناه.

 ويصوّر الشاعر طيف البدويّ الشامخ، وهو ينظر بعين دامعة، إلى الوطن الذي يتمزّق بين أيدينا. لكنّ الشاعر يلمح في دمعة البدوي، لا الحزن فقط، بل الخوف أيضاً، الخوف على مصير وطن بَنت عزّته الأجيالُ، ومن أهمها جيل البدوي. خوف البدويّ هذا، يدفع الشاعرَ، والناس إلى التساؤل عن المصير:

 لِطَيفك والدمعةِ الواقفة

 بجفنَيك... والخائفة

 على وطن العزّ والكبرياء

 يحقّ علينا الخشوع

 وأن نسأل النفسَ والبعضَ منّا

 إلى أين أنتم بنا ذاهبون؟

 يأتي بعد ذلك مقطع طويل، يُذكّرنا فيه الشاعر بقصيدة البدوي الوجدانيّة الرائعة، التي تتجوّل أبياتها في الربوع السورية، ومطلعها:

سلي الجمرَ هل غالى وجُنَّ وعذّبا كـفـرتُ به  حتّى يشـــــــوق  ويعْذبــــــا

ويختتم الشاعر قصيدته مؤكّداً للبدويّ حاجتنا إليه في هذا الظرف، حاجتنا إلى قيثارة تغنّي وطناً جريحاً وتمسح الدم عن جبهته:

 نحبّك يا بدويّ

 نحبّك يا شاعر الوطن الشاعريّ

 نحبّك يا درّة الجبل العلويّ

 ونعرف أنّك في القبّة العالية

 تصارع كابوسنا الدمويّ

 ونحتاجك الآن مثل احتياج الغريقْ

 هذا الحنين إلى بدويّ الجبل، ليس حنيناً إلى الماضي، بل هو تطلُّعٌ إلى المستقبل، هو أملٌ بقدر ما هو ألم... وهكذا الشاعر، يعرف كيف يستنبت الألم أملاً.

 


 [AF1]

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.