3

:: أرض «كوش» و«سعير» التوراتيَّتان.. أين تقعان؟ - رؤى ثقافية 230 ::

   
 

التاريخ : 30/10/2016

الكاتب : أ. د. عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي   عدد القراءات : 1570

 


 

 

 

رأينا في المقال السابق أن ما زعمه مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير»(1) من أن أرض (كوش) التوراتيَّة ليست في (الحبشة) بل في إقليم (عسير) لا وجه له من الصِّحَّة، حتى بالنظر إلى النصوص العربيَّة التي استشهد بها هو، والتي إنما كانت تشير إلى تهامة (زَبيد) في دولة (اليَمَن)، وشتَّان تهامة زَبيد- الواقعة جنوب غرب (صنعاء)، بزهاء 233 كيلًا- من عسير.  ثمَّ ستجده يتشبَّث- إلى ذلك الغلط القرائي الجغرافي- بإشارة توراتيَّة إلى أنه كان للكُوْشيِّين خيام وإِبل، ومن ثَمَّ فهم عرب، بحسب اعتقاده! لكن هذا يبدو أهون من التوقُّف عنده هاهنا؛ فمَن ذا قال أنْ لا خيام ولا إبل في ذلك العصر إلَّا لدى العرب؟! والنص التوراتي هو الآتي: «فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ زَارَحُ الْكُوشِيُّ بِجَيْشٍ أَلْفِ أَلْفٍ، وَبِمَرْكَبَاتٍ ثَلاَثِ مِئَةٍ، وَأَتَى إِلَى مَرِيشَةَ... فَضَرَبَ الرَّبُّ الْكُوشِيِّينَ أَمَامَ آسَا وَأَمَامَ يَهُوذَا... فَحَمَلُوا غَنِيمَةً كَثِيرَةً جِدًّا. وَضَرَبُوا جَمِيعَ المُدُنِ الَّتِي حَوْلَ جَرَارَ، لأَنَّ رُعْبَ الرَّبِّ كَانَ عَلَيْهِمْ، وَنَهَبُوا كُلَّ الْمُدُنِ لأَنَّهُ كَانَ فِيهَا نَهْبٌ كَثِيرٌ. وَضَرَبُوا أَيْضًا خِيَامَ المَاشِيَةِ وَسَاقُوا غَنَمًا كَثِيرًا وَجِمَالاً، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ.» (2) ولِـمَ لَـمْ يلفت صاحبَنا هنا إلَّا كلمتا «الخيام» و«الجِمال»؟ على أن ما في النصّ: «خِيَامَ الـمَاشِيَة»، تحديدًا. لِـمَ لَـمْ يلفته في النصّ سوى كلمتَين، مهمِلًا- إلى جانب أسماء الأماكن التي دارت فيها الأحداث- الإشارات الأخرى، في وصف ذلك الجيش المليوني العرمرم، كالإشارة إلى: «ثلاث مِئَةٍ من الـمَرْكَبات»، والإشارة إلى «الـمُدُن» التي كانت للكُوْشيِّين؟ فلَم يتساءل في المقابل: أ هذا جيش يُشبِه أن يكون جيشًا عربيًّا، له مئات من المركبات، منطلِقًا من بيئة العرب في شِبه جزيرتهم إذ ذاك؟!  لو قال إنه جيشٌ عراقيٌّ، مثلًا، لأمكن تصوُّر ذلك.

أمّا أرض (كوش)، فيشير (عبدالمنعم الحِمْيَري) إليها في قوله: «سيحون: نهر يحيط بـ(أرض كوش)، وهو نهر أذنة من الثغر الشامي، ويصب في البحر الرومي، ومخرجه من نحو ثلاثة أيام من مدينة ملطية، ويجري في بلاد الروم، وليس للمسلمين عليه إلَّا مدينة أذنة بين طرسوس والمصيصة.» وبقطع النظر عن القول في هذا الوصف الجغرافي، فإن هذا هو الوارد في كتابات الإخباريِّين العرب، وبخاصَّة اليمانيِّين منهم، والمعروف لديهم، ومنهم من اهتم بتسجيله، بنقيض ما ذكره المؤلِّف تمامًا، حين أراد حمل أرض كوش إلى (عسير). ونقل (شهاب الدِّين النويري)(3)، حول العِرق المسمَّى «كوش»، قائلًا، مثلًا: «قال المسعودي: لمَّا تفرَّق ولدُ نوح في الأرض سار ولدُ كُوش بن كَنْعان(4) نحو المغرب حتى قطعوا نيل مِصْر. ثم افترقوا فسارت طائفةٌ منهم مُيَمِّمِين المشرق، وهم النُّوبة والحَبَشة والزَّنْج. وسار فريقٌ منهم نحو المغرب، وهم أنواع كثيرة: الزغاوَة والكانِم ومَرْنَك وكَوْكَوْ والحِمَى وغانَة وغير ذلك من أنواع الأحابش والدمادِم، ثم افترق الذين يمَّموا بين المشرق والمغرب، فصارت الزَّنْج من المكمين والمسكو ودبرا وغيرهم من أنواع الزَّنْج.»

فمن شاء ادِّعاء غير هذا، فليُثبته بالشواهد الصحيحة، لا بالأوهام والأهواء.

على أن لقائلٍ أن يقول إن اسم (كوش) قد ورد منسوبًا إلى مَواطن مختلفة، تارةً في (العراق)- ومعروفة هناك (حضارة كِشْ) الأكديَّة، مثلًا- وتارةً في (الشام)، وتارةً في (أفريقيا). بل إننا لنقف على نصٍّ (للنويري)(5) نفسه يقول فيه، عن قوم (ثمود): «وكانت منازلهم أوَّلًا بأرض كوش في بلاد عالِج، فانتقلوا إلى هذه البلاد لكثرة جبالها». وعالِج، حسب (البكري)(6): رملٌ يتصل بـ(الدهناء) وينقطع لدى (وادي القُرَى) و(تيماء). فكيف نفهم هذا كلَّه؟

1- «كوش»: اسم، قد يُطلَق على إنسان أو مكان، وقد يكون وصفًا. فليس إطلاقه بدليلٍ على النسبة إلى (كوش بن حام) دائمًا.

2- ليس هناك في كلّ ما تقدَّمَ- في المقال السابق وهذا- ما يدلّ على أن الأرض التوراتيَّة المسمَّاة (كوش) كانت في (عسير) أو في (زَبيد) أو غيرهما من الجزيرة العربيَّة.

3- لا يبعُد أن تسمَّى أماكن عِدَّة باسمٍ واحدٍ بالنظر إلى مَن أقام بها من الشعوب. ثمَّ ينتقل الاسم بترحُّل أهله، أو بترحُّل بعض أهله.

4- لنفترض جَدَلًا أن أرض كوش التوراتيَّة كانت في مكانٍ ما من جزيرة العرب، فإن هذا لا يدلّ على شيءٍ ذي بال من علاقة (بني إسرائيل) بجزيرة العرب؟ إلَّا كمن يأتي ليقول إن آدم وحوَّاء كانا في جزيرة العرب- حسب بعض المرويَّات- إذن فإن كلَّ الشعوب عاشت في جزيرة العرب! ذلك أن كوش- كما سبق في مقالنا السابق- يُنسب إلى (حام بن نوح).

هذا، وما ينفكّ المؤلِّف يُردِّد- جَوْقِـيًّا- تُـرَّهات أستاذه (كمال الصليبي)، بما فيها الزعم أن (عسير) هي: (سعير) التوراتيَّة!(7) ولا أدلَّة لديهما، إِنْ هُما إلَّا يَخرُصان، ما لهما به من عِلْمٍ، إلَّا اتِّباعَ الظَّن. وقد أسلفنا القول إن اسم عسير ليس بالاسم القديم في الاستعمال العربي، حسب الوثائق بين أيدينا. ونُضيف هنا أن الاسم المتداول قديمًا هو (جُرَش)، لا عسير. ولعلّ أقدم مَن نعثر لديه على إشارة إلى عسير هو (الهمداني)(8)، في حديثه عن «جُرش وأحوازها». قائلًا: «جُرش رأس وادي (بِيشة)، ويُصالي قصبة جُرَش أوطان (حَزيمة) من (عَنْز)، ثمَّ يُواطن حزيمة من شاميّها (عَسِير)، قبائل من عَنْز. وعسير يمانيَّة تنزَّرت، ودخلت في عَنْز. فأوطان عسير إلى رأس (تيَّة)، وهي عقبة من أشراف (تِهامة). وهي: (أَبْها)- وبها قبر (ذي القرنين)، فيما يقال، عُثِر عليه على رأس ثلاث مئة من تاريخ الهجرة(9)- والدّارة، والفُتيحا، واللَّصْبَة، والملحة، وطبَب، وأتانة، وعبل، والمغْوَث، وجُرَشَة، والحدَبة. هذه أودية عسير كلّها.» وذَكَر من مَواطن عسير المعروفة بأسمائها اليوم: (تَنْدَحَة). قال: «هي العين من أودية جُرَش، وفيها أعناب وآبار، وساكنه بنو أُسامة، من الأزد، ورأيت بعضهم ينجذب إلى (شهران) العريضة... و(القَرْعا) لـ(شَيْبَة) من عَنْز، ولهم قرية كبيرة ذات مسجدٍ جامع، يقال لها: (المَسْقَى)، وهم مسالمون للعواسج(10)... و(تَمْنِيَة) يسكنها (بنو مالك) من عَنْز... ورأس العقبة لـ(بني النُّعمان)، وهي (عقبة ضُلَع).» ومن هذا يظهر أن عسيرًا كانت جزءًا من (مِخْلاف جُرَش)، وأن جُرَش كان الاسم الجامع للمنطقة.(11) وذلك ما نجده في النصوص القديمة، حيث الإشارة إلى جُرَش وأهل جُرَش، لا إلى عسير. وعليه، فإن اسم عسير ليس بالقديم جِدًّا في الاستعمال.  أمَّا عن الشطح الخرافي في إلصاق اسم «سعير» التوراتي باسم عسير، فاضحك ولا حرج!

[للحديث بقيَّة]

 

(1) مُنَى، زياد، (1994)، جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير، (لندن: رياض الرَّيِّس)، 105.

(2) العهد القديم، أخبار الملوك الثاني، الإصحاح 14: 9- 15.

(3) (2004)، نهاية الأرب في فنون الأدب، تحقيق: يوسف الطويل وعلي محمَّد هاشم (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 15: 223.

(4) حسب (العهد القديم، سِفر التكوين، 10: 6)، فإن (كوش) أخو (كنعان بن نوح)، لا ابنه.

(5) نهاية الأرب، 13: 66.

(6) انظر: (1983)، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، تحقيق: مصطفى السقّا (بيروت: عالم الكتب)، 913- 914.

(7) انظر: مُنَى، 107، 130.

(8) (1974)، صِفة جزيرة العرب، تحقيق: محمَّد بن علي الأكوع الحوالي (الرِّياض: دار اليمامة)، 255- 257.

(9) بقي هذا القبر إلى العصر الحديث، وكان عليه مزار. وهدمَه الإخوان، أتباع الدعوة الوهابيَّة. (انظر: حمزة، فؤاد، (1968)، في بلاد عسير، (الرِّياض: مكتبة النصر)، 95).

(10) العواسج: يُطلق عليهم اليوم «العواشز»، في (وادي ابن هشبل). و(ابن هشبل): من جدود (العواسج/ العواشز). (وانظر حاشية (محمَّد بن علي الأكوع الحوالي)، على «صفة جزيرة العرب»، 255/ (2)).

(11) ثَمَّةَ آثار لـ(جُرَش) بمحافظة (أحد رُفَيْدة)، على بُعد 15 كيلًا جنوب مدينة (خميس امْشَيْط). والمأمول أن تُسفِر التنقيبات القائمة عن كشفٍ عِلْميٍّ حول جُرَش والمنطقة عامَّة، ثمَّ أن تحظى الآثار بالصيانة والدراسة، لا كالمألوف من تعامل العرب المزري مع تاريخهم وآثارهم!

(*)  تنبيه: ورد في المقال السابق قول (ابن المجاور) عن (تهامة): "وتسمَّى في المهجم: اليَمَن...".  وكذا كتبتُها.  فعدَّلها مصحِّح "الراي" إلى: "وتسمَّى في المعجم: اليَمَن!"  والصواب "المَهْجَم"، اسم مدينة يَمَنيَّة مشهورة، كانت تُعَدُّ عاصمة تهامة الشَّماليَّة.

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.