3

:: في رثاء القيامة ::

   
 

التاريخ : 22/09/2016

الكاتب : وديع العبيدي   عدد القراءات : 1283

 


 

"أنا عندي كلام...  ما بعرف لمين"!- فيروز

(1)

(ألفان لا تؤلفان)..  سمعناها كثيرا ومرارا..  وربما بغير مناسبة..  ولدنا ومعنا بيانات أولية بعمر الزمن..  ألفان لا تؤلفان..  وكالعادة..  كما هي مصدر كل معلوماتنا الطبيعية والاجتماعية والدينية..  كانت الام..  هي المعلم اﻷول واﻷكبر لكل معارفنا التي لا تقبل النقض والجدل، وذلك لسبب واحد..  انها مكتشفاتنا الطفولية الاولى، ومن أهم مصدر في وجدودنا مطلقا..  (الام)!

وقد قيض لنا الامر اننا نعيش ونعايش الالفية الثانية..  التي سبق تعبيدها بعبارة (الفان لا تؤلفان)، وللحق كان العالم كله في حالة رعب لا مثيل سابق له. كنت يومها في اوربا..  وكانت دالة الخوف والقلق العالمي، هو ماذا يحدث اشبطة النت والكهرباء لو حصلت نهاية العام في الدقيقة التاسعة والخمسين بعد الساعة الحادية عشرة من منتصف ليلة الثلاثين/ الحادي والثلاثين من ديسمبر عام 1999م.

سنوات قبل الالفية كانت المانيا منشغلة بتطوير امكانيات الحفظ والتوثيق الاقراص الكبيرة المدمجة، بحيث يمكنها المحافظة على كل قواعد البيانات والمعلومات الوطنية السابقة والراهنة، في حال عادت البشرية للوجود بعد الزلزال الالفيني، وكما في ايام سومر، يبدأ التاريخ مجددا بوجود قاعدة بيانات ومعلومات موروثة. سومر ورثت حضارة العبيد التي كانت قبل الطوفان. وهكذا.

أقراص الخزن الالمانية حتئذ كانت كافية لحفظ الارشيف الالماني لمدة ثلاث سنوات على قرص واحد، ولكن الحاجة كانت لتطوير القدرة الخزنية والاستيعابية لتلك الاقراص.

كل فرد اختار ان يقضي تلك الليلة بلا حيلته..  مستسلما لكل احتمال غير محتمل..  (امي) صاحبة العبارة الحتمية اختارت ان تموت قبل الموعد بثمانية اعوام..  وليس لي..  في كل الاحوال..  من اعود اليه..  اعاتبه، اجادله، اباركه..  فيما يحتمل ان يحصل في اليوم الاول من الشهر الاول من العام (2000م).

نمت تلك الليلة متآخرا..  لم أكن انتظر تسجيل شهادتي على ما يحدث..  ولكني امضيت اللقلة مع القهوة ومواجعة مواد العدد الجديد من مجلة ضفاف التي كنت اصدرها يومذاك..  ليس ثمة قلق يراودني، فكل اعداد المجلة موثقة على اقراص مدمجة بأكثر من نوع وطريقة..  ويمكن للآتين من بعد الطوفان التعامل معها كما يحلو لهم.

لم يكن لاحتفالات الميلاد صدى او منظر تلك السنة..  في الساعة الثانية صباحا شعرت بالملل والتعب معا..  ونمت..  دون ان يخطر لي ذلك التاريخ المشؤوم.

(الفان تؤلفان وأكثر!)..  تثلثان وتربعان وتخمسان وتفقد الحكاية كل طعم ومعنى ورائحة..  وكما قال الراحل ذنون ايوب (الدنيا ماشية)..  والعبارة معناها ان الدنيا لا تقرأ ولا تكتب، لا تحسب ولا تكتب..  ولا هلاقة لها بالساعات ورقاص الزمن والتوقيت الدولي ومعدل انحراف خطوط الطول ولا هم يحزنون..  الفارغون يشعرون بالملل فيخترعون خرافات يدوخون بها ارجل البشر، ويجعلونها وصايا مقدسة ونبوءات دينية..  وثمة (مستر اكس) يتكلم معهم من وراء حجاب..

اطمأنت المانيا على حساباتها المالية وملفاتها الامنية وجداولها الاقتصادية، واستمرت الحياة كما هي بغير تعديل أو تغيير وتركت الصحافة الحديث عنه الامر..  (حديث خرافة يا ام عمرو)!

 

(2)

لم يمر شهر على التاريخ حتى نشرت الصحافة الغربية خبرا مفاده ان قبائل الانكا في اميركا الجنوبية..  بحسب تقويمهم حددوا اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني عشر لعام الفين موعدا لنهاية العالم..  وان التقويم الروماني الغريغوري اجريت فيه تعديلات كثيرة،..  ولا يمثل التقويم الكوني الاصلي.

لابد من الذكر، ان كل جماعة قومية أو ثقافية لديها تقويم قومي خاص تؤرخ به حسب احداثها الرئيسة والمهمة، ولا يوجد تقويم مركزي أصلي أو مزور..  واننا نحن ابناء اليوم، (بلا تقويم). فالتقويم العالمي هو التقويم الروماني الشمسي المعروف.. والتقويم العربي تقويم قمري يعتمد على ظواهر الطبيعة..  والتقويم العبري - المستنسخ من التقويم الكنعاني والفرعوني- هو تقويم زراعي مائي، والعبرانيون من يمهم كانوا بدوا رحالة يتاجرون بالبهائم والعبيد والنساء والاطفال، وثمة التقويم الفارسي والتقويم الهندي وغيرها تعتمد كلها على مواسم الزراعة، وتبتدئ بشهر مارس، بدء الربيع والاستزراع وموسم الفيضان، وتنتهي بشهر فبراير، مع تأخير حوال عشرة ايام عن التقويم الميلادي، وبينها تفاصيل كثيرة.

 هل خطرت هاته الفكرة لمخترع فكرة (الفان لا تؤلفان) ليضيف اليها التقويم المعتمد في حسابه. هكذا وقع المخمن المجهول في ما وقع فيه مخترع عقيدة السبتيين/ (ادفنتست)، في حساباته لألغاز سفر دانيال ومطابقاتها مع تخمينات والغاز سفر رؤويا يوحنا.. فلا صح ذاك، وانتهى العالم والبشرية من اصله..  ولا ظهر السيد المسيح (عقيدة المجيء الثلاني) وملأ الارض عدلا وسلاما..  وكفانا به الغاز التخمينات وتجارة الميديا المعاصرة..

 

خلال ذلك آخرجت هوليود فيلما/ سلسلة أفلام عن حصول يوم القيامة، وهلعِ ترقُّبه من قبل البشر، بينها فيلم خاص عن جماعة اليونكا، الذين كانوا يفكرون بالانتحار الجماعي قبل موعد الساعة. فالمؤسسات الثلاثة التي وظفت المناسبة لخدمتها وخدمة اغراضها غير البريئة هي [الدين، الإعلام والتجارة]. وليس على الناس غير استهلاك منتجاتها المرخصة بتوقيع القداسة والدال والحقيقة المطلقة.

 

(3)

القيامة..  الحساب..  الحشر..  الساعة..  القارعة..  الواقعة..  الزلزال..  البوق..  اآخرة..  اليوم الآخر..  الكتاب..  كلها مصطلجات ذات مدلول واحد هو ذلك اليوم الاخير..  اليوم المعلوم..  الذي لا يتآخر ولا يتقدم..  والمحدد منذ الأزل.

ومن الممكن القول ان فكرة النهاية/ القيامة/ الحساب- هي فكرة مركزية في الفكر الإسلامي. والتعليم الأخلاقي اليومي يوجه كل الاعمال والانشطة لصالح ميزان الحسنات الآخروية. وكل ما يعمله الفرد مسجل ومحفوظ، (فمن عمل مقدار ذرة خيرا، يره؛ ومن عمل مقدار ذرة، شرا، يرَه) ولا يغيب شيء عن قلم المسجل العام.

فالإسلام في اصله هو من العقائد اآخروية، وهاته تطوي على منهاج اجتماعي أخلاقي، يوظف النشاط العام لخدمة الهدف الاسمى، الفوز في امتحان يوم القيامة، ونوال جنة الخلد. فقائمة الفروض اليومية (العبادات) هي ادوات مساعدة لضمان بلوغ الغاية ونوال القصد.

فالمسلم لا يهتم كثيرا بحياته الدنيوية، ولا يكترث لمستويات المعيشة، وأغراض المأكل والملبس والمظاهر العابرة والمباهج الوقتية، مفضّلاً الدين على الدنيا. وهنا يلعب مصطلح (الدين) معنى مقابلاً ومناقضا لمصطلح (الدنيا)، مع ملاحظة وحدة الاشتقاق اللغوي. فالدنيوي هو ابن الدنيا الساعي في سبلها واللاهث وراء غاياتها ومقاصدها الفانية، يفرح بمراكزها ومظاهرها. أما الديني فهو النذير حياته ومسعاه لما يقربه من الآخرة وغاية المقصد، لا يهمه ما يأكل وأين ينام، وماذا يضع على جلده، أو يتعرض له من نكد وملامات اهل الدنيا.

التطور الاجتماعي السياسي للفكر الإسلامي اتى على هاته الحيثية، ودفعها الى الظل، لانتاج قاعدة مفاهيمية ذات أرضية مغايرة تماما، ارضية مادية سياسية علمانية ملفعة بغشاوة النص الديني. والنظرة للمسلمين اليوم على صعيد عالمي، انهم اهل الثروة والسلطان، والترف ينفقون حياتهم في الملذات والمباهج، ولا يقربهم الهم أو النكد او الضيقات التي تشغل البلدان والمجتمعات والافراد في بقاع الارض. اثرياء المسلمين يملكون اغلى القصور وسلاسل الفنادق والشركات الدولية العابرة للقارات،، ولهم اسهم مشاركة في أكبر الكارتلات المالية والمادية في العالم. وهم معه يتقيدون بمظاهر التدين ومتابعة الفرائض، ولا يتآخرون في سجلات الزكاة والصدقة والمساعي الانسانية.

لقد انعكست/ تغيرت النظرة الاورؤية الغربية التقليدية للوبي اليهوي المتحكم بمالية العالم، ليصبح لوبيا عربيا اسلاميا..  في ظاهره..  وفي ذلك خدمة كبيرة لمواقع الرأسمالية الامبريالية الغربية، والمذكرة تحديدا لحالة العالم في النصف الاول من القرن العشرين، والمعتبرة احد اساب اندلاع الحرب العالمية الثانية.

فكرة القيامة والآخرة واليوم الآخر - المركزية اصلا- هي من علم الغيب، وأسرار الساعة. ومؤداها القول اﻷمأثور: (اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، واعمل لدنيال كأنك تعيش ابدا)!. ومن هاته الثغرة، تطل فكرة مدرسية آخرى في التمذهب الإسلامي هي (فكرة الوسطية)، وفيها كلام كثير، خارج هاته المداخلة. لكن في العموم، لا تجد للتخمينات مكانا في التفكير والتأليف الإسلامي. وما يفعله الآخرون، - اي اتباع الثقافات الاخهرى- هو من باب الرجم بالباطل، لانه لا احد يستقرئ علم الله، ولا الله يعلن مواعيده ﻷحد.

فنحن هنا بين أمرين: اولها ان العقيدة الإسلامية في اصلها عقيدة آخروية؛- لاحظ الفترة المكية زمنيا-؛ وثانيها: ان الاسلام يرفض اية تخمينات حسابية آخروية، او محاولة توقع واحتمال المواعيد الالهية.

(4)

شريعة موسى السيناوية ليست شريعة آخروية، ولا صلة أو اشارة لها من قريب أو بعيد بفكرة الآخرة أو القيامة.  وكما هو معروف، كانت فكرة (الوطن القومي) و-أرض الموعد- هي أساس واطار حركة موسى ومساعده يوشع وأخيه هرون وذرية هارون الكهنة وولاة بني يعقوب.  بعبارة آخرة، ان الفكرة الموسوسة قامت على اساس التطلع للحياة ولذائذها (ارض تفيض لبنا وعسلا) ومرافقاتها من مظاهر الجاه والقوة والسيادة، والتي ما زالت تتطلع اليها، ويساعدها الغرب لبلوغه حتى اليوم.

السعادة والاشقاء، البركة واللعنة، المجد والمهانة، مفاهيم ومصائر دنيوية ارضية، لا مجال لها خارجها، والاشارات اليها مؤكدة في سفر ايوب والمزامير.

والحديث في اي فكرة أو عقيدة أو مصطلح، لا غنى فيه عن التشخيص والتدرج والتمرحل الزمني والفكري. وثمة، القول بشريعة موسى، يقصد منه الاسفار الاولية المعروفة بهذا الاسم، والمتعلقة فكريا وجغرافيا بشبه جزيرة سيناء، وشخصيا، تتعلق بموسى وحده كبطل ورمز وموجه لتلك المرحلة. والاسفار المقصودة كتابيا - دائرة المعارف الكتابية- بالموسوية هي الاسفار الخمسة الاولى من الكتاب، وتدعى كذلك بالتوراة، ولكني اضيف اليها عمليا ومرحليا سفر يوسع بن نون، المكمل لمشروع موسى في عبور نهر الاردن الى ارض كنعان، بحسب لغة التوراة. وهاته الاسفار/ الكتب هي: [تكوين، خروج، لاويين، عدد، تثنية، يوشع]. وغذا اضيف سفر يوشع للمجموعة الموسوية، فأني اقلل من صلة سفر التكوين بها، واعزلها منفردة، اسوة ببعض علماء الكتاب ودارسيه الاوربيين. فلا وجود أو ذكر أو صلة لموسى بسفر التكوين ومرحلته، ولا وجود أو دور أو اشارة مباشرة للمدعو (يهوه) في سفر المخطوطات الاصلية لسفر التكوين. وفي كل هاته لا ذكر أو اشارة او توجد لمفهوم القيامة والآخرة.

ينقسم تاريخ اسفار التناخ وما يدعى بشريعة العبرانيين. الى ثلاثة مراحل تدرجية زمنيا وسياسيا:

1-  مرحلة عسكرية مرتبطة سيناء ورموزها موسى ويهوه ويوشع (هوشع). ومشروعها قيادة العبرانيين الى مكان يكون وطنا قوميا لهم، على اساس مبرر ديني.

2-  مرحلة سياسية وتتمثل بنشأة السلطة الذاتية وقيام المملكة انتهاء بزوال أثرها وتشتتها بما يدعى السبي او الشتات.

3-  مرحلة دينية، ارتبطت بفساد الحياة السياسية والاجتماعية والديني للعبرانيين، وظهور انبياء لقيادة الاصلاح الاجتماعي وانذار الناس بمآل سلوكهم، وتنحصر عمليا بين القرنين الثامن والرابع ما قبل الميلاد.

هذا التمرحل الزمني رافقه تدرج وتطور فكري اجتماعي وديني وسياسي، تجاوز فيها عصر الانبياء الكثير من تشريعات موسى وتوصياته، والدالة الرئيسة عليها هي نسف فكرة الاضرحة والقرابين (اريد رحمة لا ذبيحة)، وان الرب يكره رائحة مُحْرَقات بني اسرائيل، وهو الخطاب الانذري والاصلاحي التجديدي لكل من اشعياء وارميا تحديدا. والمرحلة النبوية الاخيرة هاته، ستكون تمهيدا لظهور يسوع المسيح الذي يستكمل خدمة شعار الرحمة والعطف ومساعدة الضعفاء والارامل والخطاة والتضحية بنفسه في سبيلهم (الراعي الصالح هو من يبذل نفسه من اجل الخراف!). فلا اضرحة ولا كهنة ولا قرابين ولا طقوس بالمسيح ومن بعده. ويعرف قارئ اسفار (خروج ولاوي وعدد وتثنية) انها تصب في غالبها على انواع الذبائح وانواع الخرفان والثيران والتيوس والحمام لانتاج الاقطاع الكهنوتي البغيض شكلا ومضمونا.

اين وردت فكرة (الآخرة) في كتاب التناخ المعروف بالعهد القديم عند المسيحيين، وردت في سفر ملاخي، ورودا تأويليا تحت مسمى (يوم الرب)/ (يوم غضب الرب)، وكما يلي: [فهوذا يأتي اليوم المتّقد كالتنور، وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشا، ويحرقهم اليوم الآتي، قال رب الجنود، فلا يبقي لهم أصلا ولا فرعا. ولكم أيها المتّقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها، فتخرجون وتنشأون كعجول الصيرة]/ (مل 4: 1- 2).

علما ان هذا الخطاب، اسوة بالخطاب النبوي والديني العبراني، يركز ويتجه للعبرانيين مخالفي الشريعة اصلا، ولا يشمل التوجه الاممي، كما يظهر لاحقا في الخطاب المسيحي والإسلامي.

 

(5)

قد يسأل القارئ خلل ذلك، عن طوفان نوح وفناء سدوم وانذار الكتاب العبراني لأقوام مصر وبابل وآشور وآرام وكنعان وادوم، وما تضمنته من صور شعرية فظيعة، اليست تلك من خيالات فكرة القيامة الموعودة؟..

من امثلة ذلك الرعب الموقوت في سفر صفنيا: [ كلمة الرب التي صارت الى صفنيا بن كوشي بن جدليا بن امريا بن حزقيا في ايام يوشيا بن امون ملك يهوذا. نزعا انزع الكل عن وجه الارض يقول الرب. انزع الانسان والحيوان انزع طيور السماء وسمك البحر والمعاثر مع الاشرار واقطع الانسان عن وجه الارض يقول الرب. وامد يدي على يهوذا وعلى كل سكان اورشليم واقطع من هذا المكان بقية البعل اسم الكماريم مع الكهنة. والساجدين على السطوح لجند السماء والساجدين الحالفين بالرب والحالفين بملكوم. والمرتدين من وراء والرب والذين لم يطلبوا الرب ولا سألوا عنه. اسكت قدام السيد الرب لان يوم الرب قريب لان الرب قد اعدّ ذبيحة قدس مدعويه. ويكون في يوم ذبيحة الرب اني اعاقب الرؤساء وبني الملك وجميع اللابسين لباسا غريبا. وفي ذلك اليوم اعاقب كل الذين يقفزون من فوق العتبة الذين يملأون بيت سيدهم ظلما وغشا. ويكون في ذلك اليوم يقول الرب صوت صراخ من باب السمك وولولة من القسم الثاني وكسر عظيم من الاكام. ولْوِلوا يا سكان مكتيش لان كل شعب كنعان باد انقطع كل الحاملين الفضة. ويكون في ذلك الوقت اني أفتش اورشليم بالسرج واعاقب الرجال الجامدين على دروبهم القائلين في قلوبهم ان الرب لا يحسن ولا يسيء. فتكون ثروتهم غنيمة وبيوتهم خرابا ويبنون بيوتا ولا يسكنونها ويغرسون كروما ولا يشربون خمرها. قريب يوم الرب العظيم قريب وسريع جدا صوت يوم الرب يصرخ حينئذ الجبار مرا. ذلك اليوم يوم سخط يوم ضيق وشدة يوم خراب ودمار يوم ظلام وقتام يوم سحاب وضباب. يوم بوق وهتاف على المدن المحصنة وعلى الشرف الرفيعة. واضايق الناس فيمشون كالعمي لانهم اخطأوا الى الرب فيسفح دمهم كالتراب ولحمهم كالجلة. لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع انقاذهم في يوم غضب الرب بل بنار غيرته تؤكل الارض كلها لانه يصنع فناء باغتا لكل سكان الارض]/ (صف 1: 1- 18).

فقد كان صفنيا من انبياء المملكة الجنوبية التي تضم سبطين فقط من اولا يعقوب ابن اسحق ابن ابن ابراهيم، وهما: سبطا يهوذا ابن يعقوب وبنيانين ابن يوسف ابن يعقوب. وكان يوشيا ملك يهوذا من اكثر الملوك ومن النادرين في اصلاحاته الدينية ونزاهته، ومع ذلك ارتكب اخطاء وخطايا فظيعة، وفي ايامه يبرز اعنف خطاب يجمع الانذار والتهديد الذي لا يبقي ولا يذر.

ونقرأ ايضا نصا لحبقوق يتميز بلغته التهديدية وانذاره المبطن، ولكنه لا يخرج في اصله عن مخاطبة بني قومه بالتحديد: [ الوحي الذي رآه حبقوق النبي. حتى متى يا رب ادعو وانت لا تسمع اصرخ اليك من الظلم وانت لا تخلص. لِمَ ترُيني اثما وتبصر جورا وقدامي اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها. لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم بتة لان الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجا. انظروا بين الامم وابصروا وتحيروا حيرة لأني عامل عملا في ايامكم لا تصدقون به ان اخبر به. فهاأنذا مقيم الكلدانيين الأمة المرة القاحمة السالكة في رحاب الارض لتملك مساكن ليست لها. هي هائلة ومخوفة من قبل نفسها يخرج حكمها وجلالها. وخيلها اسرع من النمور واحد من ذئاب المساء وفرسانها ينتشرون وفرسانها يأتون من بعيد ويطيرون كالنسر المسرع الى الأكل. يأتون كلهم للظلم، منظر وجوههم الى قدام ويُجمعون سبيا كالرمل. وهي تسخر من الملوك والرؤساء ضحكة لها وتضحك على كل حصن وتكوم التراب وتأخذه. ثم تتعدى روحها فتعبر وتأثم هذه قوتها إلهها. الست انت منذ الأزل يا رب الهي قدوسي لا نموت يا رب للحكم جعلتها ويا صخر للتأديب اسستها. عيناك اطهر من ان تنظرا الشر ولا تستطيع النظر الى الجور فلم تنظر الى الناهبين وتصمت حين يبلع الشرير من هو أبرُّ منه. وتجعل الناس كسمك البحر كدبابات لا سلطان لها. تطلع الكل بشصّها وتصطادهم بشبكتها وتجمعهم في مصيدتها فلذلك تفرح وتبتهج. لذلك تذبح لشبكتها وتبخر لمصيدتها لانه بهما سمن نصيبها وطعامها مسمن. افلاجل هذا تفرغ شبكتها ولا تعفو عن قتل الامم دائما]/ (حب 1: 1- 17).

اللغة، الاسلوب، الخاب، ثلاث ادوات اساسية، لا غني لأي كاتب عنها، لتوصيل خطابه والتأثير في القارئ: السامع. بل ان الواعظ/ الخطيب/ النبي هو أكثر حاجة لإتقان حرفية اللغة وتقنياتها واساليبها التي تتجه للغريزة والعاطفة والشعور، لاصطياد بغيتها في الآن واللحظة، ان الخطيب والواعظ يملك مستمعية في اللحظة والآن، عندما يقف امامهم ويخاطبهم، وهي لحظته المفضلة للتاثير فيهم واجذبهم الى جانبه. ولكن بعد لحظات الخطاب، وغياب الواعظ، تكون الكلمات قد تبخرت، ولا مرجعية للعودة اليها لاحقا. يختلف الوعظ عن النص الورقي المكتوب الذي قد يؤثر فيك اليوم، ولكن بعد شهر أو سنة تعود اليه ويجد لديك استجابة أكبر. بل ان بعض القراء، - وانا منهم- يستذكر شكل المفردة والجملة وموقعها من الصفحة والكتاب، بعد زمن قد يطول، ويتجدد تأثيرها عليه. هاته الحيثية غير متاحة للواعظ والخطيب واساليب التاثير النفس وعلم نفس الجماهير والكارزما وغيرها للتاثير في الدوغما.

وقد اصطلح العرب على ادوات التأثير الاسلوبية بالبلاغة، وقوامها المبالغة والنادر في سياقه. وما نجد في خطاب صفنيا يشد الملاحظة للاسلوب والانفعال والمبالغة في الوعيد وكأنه يحدث الآن او بعد قليل. ولكن خطاب حبقوق يتضمن اليأس والقرف المذكر باسلوب ايوب في تذمّره من خبط عشوائية موازين الحياة. وفي الامرين، ثمة انحطاط وفساد عام، وثمة قرق وضيق النخبة القلية مما يجري، وفي ظل عدم السبل وغياب الوسيلة، يتجه المرء لربه طالبا الخلاص والنجاة، ولو بنهاية كل شيء,

هاته الحالة الانفعالية العشوائية الظرفية، لا تدخل في تعريف فكرة/ عقيدة القيامة، كحتمية وجودية تمثل نهاية رحلة الحياة وجدولة مساعي كل فرد وتقييمه، على باب الخروج من الحياة الارضية، بغض النظر عن وجود حياة ثانية في الارض أو خارجها، أو عدمها، باختلاف الافكار والعقائد والميثولوجيات.

نخلص منه، ان اليهودية لا تعترف بفكرة الآخروية ولا اشارة لها في تشريعاتها واسفارها وادبياتها الكثيرة. ولكن الفكرة التي خلصتُ/ خرجتُ اليها او استدرجتُها هي فكرة (المخلص) التي وردت الاشاراة اليها في المزامير/ (المرحلة السياسية)، والانبياء/ (المرحلة النبوية) وهما مرحلتان متقاربتان ومتعاصرتان من بعض الوجوه. ولعل سفر اشعياء هو اكثر الاسفار المسيحانية/ (المبشرة بمظهور مخلص من جذع يسي ليس لحكمه نهاية، وهو يسود الى الابد). وثمة فارقا بينا على صعد الفكر واللاهوت والاسخاتولوجيا بين عقيدة القيامة، وعقيدة المخلص/ المسيح.

 

(6)

يسوع المسيح هو المشرع اﻷول واﻷكبر لفكرة الآخروية والقيامة. وما يزال من الصعب استكناه المقصود بـ(اقتراب الملكوت) الواردة في كرازة يوحنا المعمدان بن زكريا الكاهن، ويسوع المسيح من بعده. وما يزيد استفهام الفكرة تعقيدا، هو الخلط اللغوي والضمني بين لفظتي [ملكوت/ مملكة] وكلاهما تترجما في الانجليزية [kingdom]. والخلط العبري/ الارامي/ العربي متقارب وملتبس في ذاته.

فالمملكة هي المقصودة في خطاب اشعياء بخروج غصن من جذع يسي بن بوعز - اي نسل داود بن يسي الملك- يعيد بناء مملكة اسرائيل بناء صحيحا خاليا من العيوب، بحيث تبقى وتدوم، اسوة بممالك فارص والصين ومصر على مر الدهور.

لكن الترجمات التالية عمدت لتسويغ لفظة (ملكوت) لترسيخ الفكرة الدينية، وتشذيبها من ادران السياسة. وعندما كان اليهود يسألون يسوع المسيح عن زمن قيام (المملكة) المنتظر من المسيح الآتي اعلانها، اجابهم، : (ان الملكوت في داخلكم). والفارق واضح بين دالتي اللفظتين، والسيد المسيح نفسه، كان مجادلا بارعا، لا يقل شأورا عن سقراط نبي الاغريق.

وعندما يسأله تلاميذه يقدم لهم جوابا آخر: [وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلاَمِيذُ عَلَى انْفِرَادٍ قَائِلِينَ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا؟ وَمَا هِيَ عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وَانْقِضَاءِ الدَّهْرِ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «انْظُرُوا! لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ! وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا، لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلُّهَا، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ».

8  «وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ. حِينَئِذٍ يُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى ضِيق وَيَقْتُلُونَكُمْ، وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنْ جَمِيعِ الأُمَمِ لأَجْلِ اسْمِي».

10  «وَحِينَئِذٍ يَعْثُرُ كَثِيرُونَ وَيُسَلِّمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُبْغِضُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَيَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. وَلِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَبْرُدُ مَحَبَّةُ الْكَثِيرِينَ. وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ. وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى. «فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ الْخَرَابِ» الَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ النَّبِيُّ قَائِمَةً فِي الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ ­لِيَفْهَمِ الْقَارِئُ­

16  «فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُب الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ، وَالَّذِي عَلَى السَّطْحِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئًا، وَالَّذِي فِي الْحَقْلِ فَلاَ يَرْجعْ إِلَى وَرَائِهِ لِيَأْخُذَ ثِيَابَهُ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ! وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ وَلاَ فِي سَبْتٍ، لأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضِيقٌ عَظِيمٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى الآن وَلَنْ يَكُونَ. وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ. حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا الْمَسِيحُ هُنَا! أَوْ: هُنَاكَ! فَلاَ تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ. فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ: هَا هُوَ فِي الْبَرِّيَّةِ! فَلاَ تَخْرُجُوا. هَا هُوَ فِي الْمَخَادِعِ! فَلاَ تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَيَظْهَرُ إِلَى الْمَغَارِبِ، هكَذَا يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ حَيْثُمَا تَكُنِ الْجُثَّةُ، فَهُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ. «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلاَمَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوق عَظِيمِ الصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا. فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصًا وَآخرجَتْ أَوْرَاقَهَا، تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى رَأَيْتُمْ هذَا كُلَّهُ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هذَا الْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هذَا كُلُّهُ. اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ. «وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ مَلاَئِكَةُ السَّمَاوَاتِ، إِلاَّ أَبِي وَحْدَهُ. وَكَمَا كَانَتْ أَيَّامُ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ كَمَا كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ، كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَان واعظ بيرينِ. حِينَئِذٍ يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ، يُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخر. اِثْنَتَانِ تَطْحَنَانِ عَلَى الرَّحَى، تُؤْخَذُ الْوَاحِدَةُ وَتُتْرَكُ الآخرى. «اِسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ. وَاعْلَمُوا هذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ الْبَيْتِ فِي أَيِّ هَزِيعٍ يَأْتِي السَّارِقُ، لَسَهِرَ وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. لِذلِكَ كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ. فَمَنْ هُوَ الْعَبْدُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الطَّعَامَ فِي حِينِهِ؟ طُوبَى لِذلِكَ الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هكَذَا»!

47  «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ. وَلكِنْ إِنْ قَالَ ذلِكَ الْعَبْدُ الرَّدِيُّ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ. فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْعَبِيدَ رُفَقَاءَهُ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ السُّكَارَى. يَأْتِي سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لاَ يَعْرِفُهَا، فَيُقَطِّعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الْمُرَائِينَ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ.»/ (متى 24: 3- 51).

فماذا يمكن الاستدلال من النص الأخير والغارق في التفاصيل. الواقع ان طابع التفاصيل المضمنة في الجواب، لا يعفيه من ولا يقلل من حجم الغموض واللغزية المتعلقة بالجواب. هل هي نهاية الأزمنة، البشرية، ام هي نهاية الحكم الروماني الامبراطوري، أم هي بداية الحكم الملكي العبراني الابدي؟.

يرى البعض وضوح النص من حيث الاشارة للحكم النهائي، المتعلق بالقيامة، وسيما في اشارته الذكية والمقصودة - كما في ايام نوح-. ولكن طوفان نوح كان ظاهرة مناسبة لاعلان شخصيته وحقيقته اللاهوتية/ الخارقة واقناع بني زمنه بذاته. والمعروف كتابيا، ان تلاميذه الاثني عشر، وهم حلقته المقربة جدا، لم يكتشفوا ويدركوا حقيقته اللاهوتية حتى ما بعد موته وقيامته.

فكل جهود يسوع المسيح لاعلان نفسه وتقديم حقيقته لأبناء زمانه باتت بالفشل. ولكن التغير والمفاجأة ستحدث لاحقا، وبعد موت يسوع المسيح بسنين!.

 

(7)

«وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. «ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ، لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَمَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ قِائِلاً: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. فَيَمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ»/ (متى 25: 31- 46)

لعل هذا النص يلتقي مع مضامين الكثيرين، حول المقصود بالآخروية والحساب والقيامة، وهو النص المعتمد كتابيا لاعلان يسوح المسيح - ديانا- للبشرية في اليوم الاخير. وهو يقر بنفسه قائلا (دفع الي كل سلطان على الارض وفي السماء). وصفة الابن [ابن السماء، ابن الانسان] التي كان يصف نفسه بها، دالة انه الوارث الأبدي.

اين هي الاشكالية؟..  بيعية جيومائية، ولم تكن نهاية الأزمنة ونهاية الحياة على الارض، كما ان الطوفان حدث في بقعة جغرافية محدودة لا تتعدى وادي الرافدين، ولم تصل آثارها الى بلاد فاس مثلا، ولم تصعد المياه على هضبة الاناضول حيث منابع نهري دجلة والفرات. وبذلك تكون دالة المسيح جغرافية محدودة، سواء في ارض كنعان أو وادي نهر الاردن التي كانت مركز الكرازة يومئذ. واعظ بيري

علماء الكتاب يشيرون لملاحظة على درجة من الاهمية. وهي ان يسوع المسيح، في كل أحاديثه وتعليقاته، كان يعنى بالاعلان عن حقيقة شخصه، وشخصيته اللاهوتية، وهو ما يتمثل في تركيزه على الاستخدامات اللغوية والاسلوبية لظواهر الطبيعة ومظاهر الوجود، كالريح والمياه والسحب والزلازل. بعبارة أوضح انه يقول لهم (انا هو هو) وباللغة ارامية التي كان يستخدمها (اني هو).

وبلغة ايامنا، بعبارة اكثر وضوحا وصراحة، اقول: ان المسيح لم يكن معنيا بتقديم جواب لكل سؤال يواجهه، بقدر ما كان يعنيه توظيف كل ظرف ومناسبة لاعلان شخصيته وحقيقته اللاهوتية/ الخارقية واقناع بني زمنه بذاته. والمعروف كتابيا، ان تلاميذه الاثني عشر، وهم حلقته المقربة جدا، لم يكتشفوا ويدركوا حقيقته اللاهوتية حتى ما بعد موته وقيامته.

مركز الاشكالية هنا، بالتحليل اللغوي والخطابي، ان يسوع المسيح - بحسب مدونات الاناجيل- لا يتحدث عن القيامة، ولا يتحدث عن اي شيء آخر، بقدر ما يتحدث عن نفسه، وشخصيته، وحقيقته غير الارضسة، غير البشرية، وسيادته للمطلق. ولعل هذا هو سبب حيرة تلاميذه وابناء زمانه.

في هاته المداخلة، اركز على الخصائص الفنية، في مجال اللغة والاسلوب والخطاب، والخصائص الادبية في مجل نقد وتحليل النص والبناء الدرامي والمللحمي للشخصية، اكثر من استكناه المضامين الدينية واللاهوتية.

فالنص الديني هو نص لغوي، مكتوب غالبا بلغة شعرية سردية. والنص الديني هو نص ادبي ملحمي، يعتمد العناصر الفنية والدرامية والنفسية والعاطفية الضرورية لبناء ملحمي متكامل ومؤثر.

على مر الزمن كان الاعتقاد ان الدين تطور من الميثولوجيا الى ما يدعى العقيدة والدين، والواقع ان التطور الذي حصل على صعيد بناء النص من حيث اللغة والشخوص قد تغير، وليس تطور لاهوتي، أو ان السيد الأزلي خطر له ارسال انبياء ورسل وتأليف كتب والمغايرة بينها. فكل دين/ نص ديني يمثل بيئته ومرحلته وثقافتة زمنه وطبائع وحاجات مواطنيه. حاجة بني يعقوب كانت لارض تكون خاصة بهم، لا ينازعهم احد فيها، وهذا ما استوحى نصا دينيا يتم اجتراره وتكراره على ألسنة أجيال متعاقبة، حتى يظهر قائد عسكري ذو خبرة ومران وحنكة عسكرية يقوم بتنفيذ فكرة امتلاك الارض، وبناء شعب قومي عرقي لا تختلط دماؤه وعاداته بأقوام وأجناس أخرى غريبة عنه. هذا هو مفهوم ومشروع الطورانية في حركة الانقلاب العثماني (1908م) وتطبيقه السياسي على يد مصطفى كما باشا اتاتورك. ففي سبيل المشروع التركي الشوفيني تم طرد الأقليات العرقية والدينية غير التركية وغير المسلمة السنية نحو الجنوب، والتي تشهد هاته الايام الذكرى المئوية لمجازر الأرمن والآشوريين، ناهيك عن قضية كرد تركيا المتوزعين بين جبال الأناضول وحدود سوريا والعراق.

قال لي مرة القاص والروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي في (نغزة) اخوية ايام كنت اصدر مجلة ثقافية في النمسا، واحاول تقديم مشروع ثقافي معين: قال لي بالحرف الواحد: (كل مشروع ثقافي وراءه مشروع سياسي)!. وأنا استخدام نفس المبدأ وأقول: (كل مشروع ديني وراءه مشروع سياسي!). وربما سيقول البعض، بل ان المشروع الديني هو بذاته مشروع سياسي، يسعى للسلطة والجباية، وفرز المجتمع الى طبقة حكم اقلوية، وطبقة بروليتاريا عريضة. ولعل أبسط وأوضح ما يمكن استنتاجه من قراءة تشريعات موسى السينائية لتعيين اخيه كاهنا، وتسلط كهانة ولد شقيقه حكاما ابديين، وطبقة متنفذة على ظهور بروليتاريا الاسباط الاحد عشر البقية.

ما زلنا في جدلية (مملكة) أو (ملكوت)؟!..

(8)

حاولت في السطور الفائتة، الربط بين فحوى خطاب اشعياء وارميا وخطاب يوحنا المعمدان ويسوع المسيح، كما حاولت تفصيص خطاب يسوع تبعا لطبيعة السؤال وجهة السؤال، بين الفريسيين وبين تلاميذه. وادعو القارئ العزيز للتمميز اللغوي والخطابي بين شخصية ومنطق يسوع في الاناجيل، من جهة، وبين شخصيته وخطابه في سفر الرؤيا اللاهوتي ليوحنا المعمدان.

سفر الرؤيا اللاهوتي ليوحنا هو سفر خاص من بين كل اسفار الكتاب المقدس بعهديه، المتعلق بعلم الاسخاتولوجي أو علم الآخرويات في الادب المسيحي. وهو سفر اشكالي جدلي في مضمونه. تحاشاه كثر من الآباء واللاهوتيين وعلماء الكتاب منذ عصر التنوير. ولعل الصفة التي الصقت به هي ركاكة اللغة وضعف البناء. - سيان البناء اللغوي الخطابي أو الدرامي الملحمي-.

وقد تجاوز المترجمون الأفاضل مع الوقت بعض النقدات والملاحظات البنيوية للنص الاصلي، لتقديم نص اكثر ترابطا وفذلكة لغوية. المشكلة ان يوحنا اللاهوتي، وهو يوحنا ابن زبدي اخو يعقوب واصغر التلاميذ سنا في ايامه، ويوصف دائما بـ(التلميذ الذي احبه المعلم)!. هو نفسه كاتب الانجيل الرابع المختلف نصا وخطابا عن الاناجيل الثلاثة الاولى المعروفة بالاناجيل الازائية [synoptic gospels].  وقد كتب متأخرا عن زمن سابقيه بما ينيف على ربع القرن. كما تنسب له ثلاث رسائل رعوية ضمن اسفار العهد الجديد. وقد وضع نقاد الكتاب هاته الاسفار المنسوبة ليوحنا بن زبدي مع بعضها، ووجدوا تفاوتا في اللغة والاسلوب والبناء بين واحدة وأخرى. وهو امر يضعف نسبة النص للكاتب من جهة، ولكنه يضعف النص ايضا لتفككه وركاكته من الجهة الفنية. يعتقد علماء الكتاب، لمناسبة هذا الاستطراد، ان بولس الرسول، اثناء فترة سجنه/ اقامته الاخيرة في روما وبمرافقة بطرس الرسول، كان الى جانبه- أو جانبهما- كل من لوقا الطبيب - كاتب الانجيل الثالث وسفر اعمال الرسل-، ومرقص - كاتب الانجيل الثاني-. وقد قام بمراجعة وتصحيح وتشذيب جميع الاناجيل والاسفار المعروفة اليوم بالعهد الجديد. وكواعظ بيرين بولس المصلوب عام (67م) على يد الامبراطور نيرون، لم يراجع الاسفار المكتوبة لاحقا لموته، وكلها منسوبة ليوحنا بن زبدي، وهذا سبب اسكالية ولكلكة المتبقي من العهد الجديد. ولم يتجرأ اللاحقون من الآباء، سواء آباء الاسكندرية أو آباء الكنيسة على التدخل في تلك النصوص، حتى ظهر من ظهر من مترجمي الايام الاخيرة*.

يبتدي سفر الرؤيا بسبعة رسائل الى الكنائس السبعة المنتشرة في آسيا الصغرى، والتي كانت تحت رعاية يوحنا بن زبدي في أواخر القرن الاول الميلادي بوصفه اسقف آسيا الصغرى [غلاطية، الاناضول كما تدعى ايضا]. بعدها يتحدث الكاتب عن (رؤيا) عيانية - تماما على غرار ما يرد في سفر دانيال وحزقيال- يجد نفسه في مواجهة ملاك الرب، ويريه (عدة اختام) مجيرة، داخل هاته الاختام توجد السيرة الكاملة لما هو مزمع ان يحدث في آخر الأزمنة، ولكل ختم حكاية، ولكل حكاية رموز وألغاز، ثم ينتقل الحديث للفترة السابقة للحكم الالفي ومدتها سبع سنوات، تكون للشيطان/ الشرير السيادة المطلقة على البشرية، لكنها تخفف فتنقسم الى فترتين، وتحدث معركة بين فريق الشر بقيادة الشرير واعوانه، يقابله فريق الخير بقيادة المسيح، تنتهي بانتصار المسيح (رؤيا 20) ويبدأ الحكم الالفي حتى نهاية القصة/ الملحمة - يمكن الرجوع اليها في النص للراغب في الاستزادة.

الاسلوب وطريقة البناء والرموز والارقام مستعارة من سفري دانيال وحزقيال، وبقية المعلومات، يبدو انها اجتمعت لديه من خلفيات الادب الشفاهي لمجتمعات آسيا الصغرى والاغارقة.

حوارية النص تتم بين شخص يوحنا التلميذ وملاك الرب. اما الرب المقصود هنا فهو يسوع المسيح الذي كان يوحنا تلميذه المباشر واقرب التلاميذ اليه. والسؤال، اذا كان يوحنا يعرب الرب المسيح شخصيا ويتكئ على صدره اكثر من ثلاث سنوات، فلما لا يحادثه ويتحدث معه مباشرة كما كان يفعل على الارض. لقد كلم موسى ربه مباشرة - وجها لوجه- على الجبل، وهو لا يعرفه، فلم لم يتحدث يوحنا للرب الذي يعرفه، ويقول عنه: [والكلمة صار بشرا وخيم بيننا ونحن رأينا مجده، مجد ابن وحيد للاب، وهو ممتلئ بالنعمة والحق!]/ (يو 1: 14). لكن الكاتب نسج على منوال دانيال في سفره، ونقل عن ملاك سماوي، متجاوزا أو متجاهلا معرفته السابقة بالرب.

فأذ بدت (الآخروية) غائبة عن الفكر اليهودي، واكتشفت لاحقا حاجتها لفكرة (المخلص/ المنقذ) السياسي والعسكري والمدعوم بقوة خارقية، جمعت المسيحية بين الاستجابة للحلم اليهودي الثاني - بعد حلم الارض الموعودة-، وبين الخروج بالفكرة من اطار شعب محدد الى خطاب شمولي عولمي، يساوي بين الشعوب والأعراق والمعتقدات، ويجمعها في اطار فكرة الايمان بيسوع المسيح ومشروع خلاصه الكفاري على الصليب.

السؤال الذي ينمو شيئا فشيئا ويأخذ طابع اشكالية جدلية: هل الدعوة المسيحية خاصة باليهود فقط، أم لجميع البشرية؟..  هل يسوع الناصري يهودي أم أممي؟..  لماذا تؤكد الجينولوجيا الانجيلية/ [متى ولوقا]، انحداره من نسب يهودي من جذع داود ومن سبط يهوذا؟..  اذا كان يهوديا، فلمواعظ بيري جعل موطنه في جليل الامم وليس اورشليم اليهودية؟..  لماذا كرز وبشر في الجليل وصيدا والمدن العشر حول بحيرة طبرية ومنها اختار جل تلاميذه، ولم يصل اليهودية الا في القسم الاخير من رحلته، ليموت ويصلب في اورشليم- (قالتلة الانبياء)-؟..  لماذا كان بولس الرسول يتجه لليهود والمعبد اليهودي أولا، وبعدها يتجه للام؟..  معتبرا ان عصيان بني اسرائيل بركة للامم؟..

تبقى فكرة المخلص - سواء كان ارضيا أم سماويا- شيئا، وفكرة الآخروية والحساب الآخروي شيئا آخر!..

بل اننا اكثر فضولا لمعرفة طريقة الحساب والقضاء والمحاكمة، وليس مجرد الفرز المتبع لدى فرز القطيع وعزل الخراف عن الجداء والماعز التي استشهد بها المسيح.

اما فكرة الكتاب الابيض والكتاب الاسود/ أو جهة اليد الحاملة للكتاب، اهي اليمنى أم اليسرى، المعروضة في القرآن، فهل تشير لكيفية وصول الكتاب لليد، وما هو عاطيه؟..  كما يقدم القرآن تفصيلة آخرى عن ميزان الحسنات والسيئات، ولا يعرف المرء متى يحدث ذلك وهل ثمة جدل ومناقشة واعذار؟..

فعلى الرغم من رسوخ عقيدة الحساب والآخروية في اللاوعي الشرقي القديم وآثاره المستمرة لليوم، فالعقيدة لم تطرح وتتبلور كتابيا، وما زالت مثل (عصا المعلم) تستخدم للانذار والوعيد، دون عناية ببلورتها واستكمال حيثياتها وجوانبها النظرية واللاهوتية، بدل التلقين الببغائي، ولهاث بعض الوعاظ حول يقينية وحقيقة ذلك اليوم.

واقع الحال..  وهذا هو المهم واﻷهم، والغائب والمغيب تماما، عن كثيرين، وسيما الدوغما الدينية، انه رغم كون عمر الانسان المقدر علميا بحوالي المليون عام، وعمر الارض الذي يبلغ عشرات المليارات، فلم تحدث القيامة ونهاية الزمان حتى الآن. وان كل الكلام المدبج دينيا عن الفردوس والجحيم، ومصائر الذين ماتوا عبر الزمن، هو هراء وأضغاث أحلام. فاليسوع المسيح الذي هو الديان والقاضي المدفوع اليه كل سلطان في الارض وفي السماء، الاول والآخر،، لم يعد ثانية للارض في قصة - المجئ الثاني-. وعندما يعود ثانية يعود للكرازة من جديد، لأولئك الذين لم يؤمنوا به في المجيء الاول، لكي يحضر معه أكثر البشرية لو امكن الى الفردوس، ويخطفهم من فك ابليس الوطواط. وكل هذا لم يتم..  والبعض يعتقدون ان مجيئه قد أزف. وهاته هي مناسبة هذا الموضوع.

 

(9)

فكرة الآخروية أو عقيدة (الآخروية) لا علاقة لها بالديانات الابراهيمية، ولا بثقافة الشرق اﻷوسط القديم، وليس ثمة ما يدعمها في التراث الرافديني والفرعوني واوغاريتي الكنعاني المستكشف، وانما وصلت الينا من الهند. اي ان الميثولوجيات/ الديانات الشرقية القديمة هي مصدر فكرة الآخروية وصاحبة سيرورة تبلورها عبر الزمن، حتى استكشفها فلاسفة الاغريق وانتشرت آثارها في حوض المتوسط، بطريقة البؤر المتعددة والمويجات التي تستحدثها كل بؤرة. ولست هنا بالصد عن سبب امتناع سكان الشرق الاوسط عن التواصل والاتصال الثقافي مع جيرانهم الشرقيين.

تقول ميثولوجيا الهند القديمة، ان الانسان هو (روح/ saul)، وان مصدر الروح ومنبعها هو الروح الاعظم [supreme saul/ divine power]. فالانسان، اي - روحه- هو قطرة من محيط الروح الكونية الاعظم. وعند ولادة الكائن البشري يكون له روح وجسد، ولكن الجسد هو مجرد جهاز ميكانيكي يتحرك بأمرة الروح. الروح دائمية وخالدة، والجسد مؤقت زائل.

تعتمد حكمة اليوغا على طبيعة العلاقة بين الروح والجسد. وبتعبير أدق: من يتبع من؟ من هو القائد ومن التابع؟.

وفق اليوغا، على الانسان امتلاك الوعي وادراك، للتمييز والعزل بين الروح والجسد؛ وعدم السماح للجسد الظرفي التأثير على الروح. فالانسان الدنيوي/ المادي هو الذي يتعظم جسده في صور الحاجات والرغابات والمشاعر والعواطف والانفعالات والمطامح، حتى تطغى على الروح وتغيبها. أما الانسان الروح فهو الحكيم المقتدر الذي لا يسمح للظروف والجسدايات بالارتفاع ونقل تأثيراتها على سلامه الروحي المتزن والدائم. فالسلام الداخلي الروحي، يعني ايضا، حالة الاصلة والاتصال المستمر بين روح الانسان وروح الاب، الذات الكونية العليا التي تمدها بالقوة والطمأنينة والتوازن والاشباع.

الجسد يمرض، يتعب، ينفعل، يستهلك، يموت، ويتلاشى في التراب. ولكن سجل ممارساته ونشاطاته، ومدى انحيازها للمادة أو الروح، يترسب في قاع الوعي الداخلي/ (sanskra) المتصل بالروح. وبحسب جدول اعمال الشخص [الكتاب الابيض أو الاسود/ اليمين أو اليسار] يتحدد عدد مرات عودة الشخص/ (الروح) للحياة الارضية، وذلك في نوع من تصفية الحساب وترصيد الحساب والجداول في لغة المالية العامة.

فالطفل الذي يولد، وله من للعمر ساعات، لا يكون بالضرورة طفلا، ولا تكون حواسه ومداركه ومخزوناته بيضاء خام كما يقال. في واقعنا الثقافي الاجتماعي مبدأ أو مقول، حول العدل الكوني والقضاء الكوني، أو القضاء الطبيعي. وكل ما يفعله المرء مسجل عليه، ولا يفلت من حسابه، وفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن. ولكن تطبيق هذا العدل/ القضاء لا يكون على يد المجتمع أو شخص آخر، أو شريعة دينية، وانما وفق العدل الكوني الطبيعي.

السارق يتسبب في إيذاء شخص ومادة هما الشخص المسروق والمادة والمسروقة. وهو الدور الدي يندرج فيه في حلوله التالي. الواقع اننا كثيرا ما نمر بمواقف غير محسوبة وملغزة، دون أن نكون قد أخطأنا - مثلا-، لاننا لا نعتقد اننا في حياة سابقة ارتكبنا مخالفة لم ندفع جزاءها.

وثمة قصيدة همزية جميلة للامام محمد الشافعي [767- 820م]..

دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَــــــــاءُ    وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ

وَلا تَجْــــزَعْ  لـنــازلة الليالي    فما لحـــــوادثِ الدنيـــــا  بقاءُ

وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً    وشيمتكَ السمـاحة  والوفاءُ

وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا    وسَركَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَـاءُ

تَسَتَّرْ بِالسَّخَــــاء  فَكُلُّ عَيْب   يغطــّيه  كما قيلَ  السَّخــاءُ

ولا تـــر للأعـــــادي  قطَّ ذلّاً    فإن شمـــــاتة الأعــدا بــلاء

ولا ترجُ السماحة من بخيلٍ    فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ

وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي   وليسَ يزيدُ في الرّزقِ العناءُ

وَلا حُزْنٌ يَـــدُومُ  وَلا سُرورٌ    ولا بؤسٌ عليكَ  ولا رخــــاءُ

وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ الْمَنَـــايَا    فلا أرضٌ تقيهِ  ولا سمـــاءُ

وأرضُ الله  واســعــة  ولكن    إذا نزلَ القضا ضاقَ الفضاءُ

دَعِ الأَيَّــــامَ تَغْــدِرُ كُلَّ حِينٍ    فمــا يغني عن الموت الــدواءُ

 

ففي النسخة الاصلية لهذا النص - وربما سواه- اشارة ان كل ما يأتيه المرء هو دين عليه، لابد ان يعاد دفعه. وكما يقال ان لكل شيء ثمن، ليس في المعاملات الاجتماعية والاقتصادية، وانما في المعاملات الكونية.

وأعتقد ان ارسطو مرّ على هذا الموضوع المتصل بفكرة التناسخ [reincarnation] التي ترد وردا عابرا بغير تفصيل في الادبيات المسيحية، ويرفضها الفكر الإسلامي مطلقا، رغم ان يورد أمثلة قرآنية لها - من باب الدينونة أو المعجزات.

فكرة التناسخ والولادات المتكررة للروح عبر أشخاص وكيانات متعددة ومتغيرة، تنازلية/ تصاعدية، لا تلقى قبولا في ثقافة الشرق الاوسط، لكن مترادفات لها تظهر في صور أحكام أو تصورات آخروية غير مفهومة. اليست فكرة الولادات المتكررة افضل من فكرة الجحيم الابدي الذي كلما اهترأت جلود تنمو مجددا لتحرق ايضا الى ما لا نهاية.

ففي حيثيات الميثولوجيا/ الفلسفة واعظ بيري الهندية القديمة تتكشف عدة افكار، تسربت للخارج وتبنتها ديانات وعقائد آخرى دون اتيان مصدرها..

1)                فكرة الآخروية والعدل والقضاء.

2)                فكرة الثواب والعقاب/ الجنة والجحيم.

3)                فكرة الدورة الحياتية، والدورة الزمنية، والمذكورة في صورة الدهور.

4)                فكرة الخلود والابدية (خلود الروح)، وزوال الجسد المؤقت/ الدنيوي.

5)                الجسد اصل الشر، ومنه المادة ومتعلقاتها والانغماس فيها فكريا أو عاطفيا.

6)                فكرة الطهارة وحياة البر والتقوى.

7)                فكرة التطهير والتبرر، سواء عبر العذاب والعقاب، أو الكفارة والأضاحي.

8)                فكرة البنوة السماوية/ الالهية، وهي بنوة روحية، حيث تعود الروح [في القرآن: النفس] لبارئها. ويقول بولس الرسول ان الرب اعطانا (الروح عربونا لقبولنا وعودتنا اليه) بعد زوال خيمتنا الارضية.

9)                كرة القدرية أو الجبرية في اساسها [predistination] .

10)          فكرة الخلوة الروحية والصلة/ الصلاة التي تقرب من الله أو ترفعنا الى حضرته. وهي تتمثل باليوغا القائمة على تركيز الذهن في نقطة في العالم العلوي يتم عبرها النهل والارتياح والاتواء من المنبع الاكبر. واليوغا الفكرية المجردة تدعى (راجا يوغا). وبعض اليوغيين يتوسل غصناً أخضرَ أو شيئاً من الطبيعة أو رمزاً له قدسية، لتجميع نظره وتركيز تفكيره ومداركه وحواسه عليه لبلوغ حالة التخلي والتجلي.

11)          فكرة الاحسان والعمل الخير وعدم الايذاء واللانسجام المتناغم مع ما ومن يحيطنا، ممثلة في ألفاظ السلام والنور والمحبة مستقاة ومستعرة من الفكر الهندي القديم، وترددت أصداؤها في العقائد الابراهيمية باشكال مجتزأة وغير متبلورة.

12)          وأخيرا، فكرة الله/ الاله الكبر واﻷوحد والأقوى وأصل كل شيء، فكرة التوحيد، أساس ومصدر فكرة اليوغا والكارما والريكارنيشن.

لا توجد فكرة بكر عذراء..  لم تعبر من ذهن سابق..  لا توجد عقيدة أو ديانة أو شريعة عذراء بكر خالصة حقوق التأليف والانتاج والتوزيع..  ومن غير المبرر - بل المعيب- حظر الديانات الابراهيمية اتباعها من الاطلاع وتداول كتب ومصادر دينية خارج العقيدة والايمان. فمثل هذا الحظر مهما جاءت مبرراته، دالة على قوة التداخل والتناسخ والقرصنة بين الديانات والعقائد والمذاهب، وكثرة تشابكاتها، ليس بينها، وانما مع ثقافات وميثولوجيات عالمية وزمكانية مختلفة. لكن الشجاع يتبع اساليب الشجعان ويشجع على الشجاعة، والعكس بالعكس.

 

(10)

متى قال الهند ان ثمة نهاية أزمنة، وان السموات تسقط على اﻷرض والنجوم تتهاوى والناس يتطايرون في الهواء، أو تبتلعهم الارض الفاتحة فاها..؟

بحسب الميثولوجيا الهندية نجد ان الدينونة والقضاء الكوني حاصل ومستمر كجزء لا ينفصل من متوالية الطبيعة وصيرورة الحياة. بل اننا لا نجد تفسيرا لظاهرة الزلازل والفيضانات والانشقاقات الارضية التي قد تختفي معها قرى أو مدن أو مساحات جغرافية - يفسرها الفكر الديني بالعقوبات الالهية مثل سدوم في التوراة، وعاد وثمود في القرآن!-. لكن احدا لا يقدر ان يجزم ان اولئك المندثرين في الزلزال لا يعودون للحياة في اماكن وصور واسماء مختلفة. وقد يكون بعضهم استوفى أدرانه، وانتقلت روحه للمحيط الكوني تسبح وتحلق في الأعالي.

ثمة شق آخر مكمل لفكرة (الآخروية) عرف به الفرس، وهو فكرة الدهور، أو الدورات الزمنية كما تعارفها الاغريق والفكر الاوربي. فدورة عمر الانسان المتفاوتة، بين الثلاثين والستين والمائة عام، وبين اعمار المدن أو الدول أو الحضارات التي تزهو وتنحدر وتذبل، ثمة اراضٍ قفر تتحول الى مزارع ومدن، ومدن وحدائق تتصحر مع الوقت، لاسباب طبيعية أو اصطناعية. ترى ميثولوجيا الفرس ان تاريخ الزمن منقسم الى دهور أو عهود يصل عددها الى اثني عشر دهرا. وان كل دهر له مواصفات وخصائص ورموز وقيادة وضحايا. وقد ضارب المعنيون والمنجمون في تخمين طول الدهر أو طريقة قياسه، والسائد بينهم هو رقم الالف عام. وفي التقويم الصيني لكل يوم وشهر وعام رموز طبيعية مستقاة من الحيوانات والنباتات ومظاهر الطبيعة. والى جانب ذلك، لكل الف عام رمز/ مرموز محدد يطبع الحقبة بطابعه، وخصائصه المشهورة عنه. اعتقد شخصيا ان فكرة الدهور بمرجعيتها الفارسية أو الصينية، له جذر رياضي فلكي.

ولاشك ان لتلك الشعوب، اعني الهنود والفرس، حساباتهم وتقاويمهم، وتخميناتهم لبدايات الأزمنة وعمر الانسان وتفاصيل آخرى، مما لا نتوفر عليه الآن.

كما ان فكرة الالف عام، المترددة في ثنايا الانجيل والقرآن، تبقى نسبية، لعدم استقرار حسابات الايام والشهور المكملة لعام واحد. والشهر/ العام القمري اقصر من العام الشمسي. ويتفاوت الفكر الديني بين التفسير والتأويل، لتغطية ثغرات تصوره. ان جذر الرقم (12) هو الرقم (ثلاثة) ومضاعفاته. فالسنة اثنا عشر شهرا. والدهر اثناعشر الف سنة. وربما اشتقت النسبة من المسافة بين الارض والشمس أو احد النجوم المحيطة بها، بوصفها دالة للسماء- العلاقة بين السماء والارض-. وقد جاء في رسالة بطرس ان يوما في السماء يعادل الف عام على الارض.

من هاته الحيثية الرياضية، يقدم الواعظ (Perry Stone) تأويلا للاصحاح الاول من سفر التكوين، معتبرا ان الايام الستة للخلق وانتهاءها في اليوم السابع/ يوم الراحة- سبت الرب؛ هو دالة عمر الحياة على الارض المقدرة بستة الالف عام، والالف السابعة هي الخاصة بالحكم الالفي للسيد المسيح كما هي في سفر رؤيا يوحنا، حيث يعود يسوع المسيح للعام ويؤسس ملكوته الذي يدوم الف عام.

وبحسب العلامات الآخروية المذكورة في علامات نهاية الأزمنة في الانجيل، من انتشار الأوبئة والحروب والكوارث الطبيعية ووصول بشارة المسيح الى أقاصي الارض، فاننا اليوم على وشك اوآخر الأزمنة.

ولاشك ان بير ستون ليس صاحب هاته الفكرة وليس الوحيد المنادي بها، ولا أولهم..  ولكنها تفصل واقع حال التهافت الديني والصراع على داعاء النبوات وإشهار الانذارات التي - قد- تجعل منهم، نجوما ارضية، اكثر مما اتاحته لهم ابراج الفضائيات وشبكات النت العنكبوتية.

سوف اكون سعيدا، لو حملت لجاري أو صديقي..  أو اي شخص قد لا اعرفه- بشرى سارة، وتجلب الفرح الى قلبه، وترسم الابتسام على وجهه. ولكن ما فائدة التهويل والعويل والندب ونشر خبر زلزال شامل سوف يحدث بعد ساعات، ولا احتمال للنجاة منه. ما الفائدة ان تقول لجارك على مقعد الطائرة ان الطائرة سوف تسقط أو هي تسقط الآن والطائرة بلا وقود أو قائد أو اي شيء آخر؟!.

الغاية من وراء ذلك، وما يستتبعه من رعب وقلق واضطراب التوازن والاتزان، هو توقع استسلام الناس وتسليمهم القيادة بيد الواعظ/ الوحيد، صاحب فكرة النجاة وحمل الناس الى بر السلامة. بعبارة آخرى، ان الانذار والارهاب هو اسلوب من اساليب التبشير والكرازة وضم اعداد جديدة من الخراف الى القطيع والحظيرة.

هاته الفكرة تذكرني بشخصية الواعظ المصري/ الطبيب الجراح زكريا ستاورو الذي صادف في عمله صورة امرأة حاولت الانتحار حرقا، وتم انقاذها في اللحظات الاخيرة، بعد اهتراء كثير من جلدها. فاستفزت صورة الجلد المحروق تصوراته عن الجحيم الابدي - الذي ناره لا تنطفي ودوده لا يموت!.  فتفرغ للوعظ والكرازة. وجعل من فكرة الجحيم والحرق صلب مدعاته للتتبرر بالمسيح والارتداد عن طرق الشر والانحراف، لأن الوقت ازف (خلص نفسك من الجحيم!).

الفرس والهنود لا يتحدثون عن نهاية الزمن، ولا يبدو عليهم القلق والارتباك لسقوط السماء على الارض. بل هم لا يعظون ولا يتفلسفون ولا يهدون ولا ينذرون، ولا يدعون أو يستدعون احدا للانضمام لديناتهم ونشر عقائدهم.

فما لهذا الشرق الاوسط المضطرب من لحظة تكونه، لا يهدأ ولا يعرف كيف يهدأ ولا يريد لأحد ان يهدأ. يخرج من شائعة فيدخل في أخرى، ويخرج من أزمة، ويتورط في تالية، ولا يغادر دينا أو عقيدة حتى ينخرط في ثانية، ولا يتخلص من غزو أو استعمار حتى ينهمك ويتوسل الآخر.

اليهود ينتظرون قيام مملكة داود التي ستحكم العالم للابد. والمسيحيون ينتظرون الحكم الالفي الذي يجعل المسيحية الدين اﻷغلب في الارض. والمسلمون - من دعاة المهدي- ينتظرون ان يعود مخلصهم ويعيد الدين الحق ويحكم بالعدل والسلم وينتقم من أعداء اهل البيت. فماذا لدى بقية المذاهب والطوائف الشرقأوسطية من سيناريوهات وافلام.

نحن حتى الآن لم نخترع ابرة، ونتسابق بالشعر والمقال للحصول على الدولار والألمعية، وطبعا نريد - جميعا- الذهاب الى الجنة بتذكرة مجانية.

 

(11)

"هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ. فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ: هَا هُوَ فِي الْبَرِّيَّةِ! فَلاَ تَخْرُجُوا. هَا هُوَ فِي الْمَخَادِعِ! فَلاَ تُصَدِّقُو"!.

كل انسان حر، وكل مسؤول في حريته. المسؤولية هي الوعي/ الادراك، والوعي هو الضمير.

كلنا أمناء على البقعة واللحظة التي تحتوينا، وبقدر احترامنا واهتمامنا وصيانتنا للمكان والزمان الموجودين فيه، نكون أوفياء لوجودنا ورسالتنا الوجودية.

يقول اليوغي ((Om shanti): انا نفس مسالمة، انا نقطة من النور الابدي.

انا نور..  (بالعقل والكلمة).

ديني سلام..  لان السيد السماوي هو سلام (شانتي)!.

طبيعتي محبة..  بها أجتمع مع الآخرين.

عندما تعيش لحظتك في قناعة وصدق وسلام ومحبة، وبر..

فأنت ابن للنور..  وانت ابن للحياة الأبدية.

* يعتبر عزرا الكاتب هو المسجل الاصلي لكل اسفار العهد القديم، وكان كاتبا حاذقا متمرنا في فنوان الكتابة ومعروفا في بلاد بابل التي عاش وترعرع وتعلم فيها. ولا علاقة للاسفار بما تحمله من اسماء، يعتقد البعض بنسبتها اليهم. ومن بينها اسفار موسى، المكتوبة متأخرة عن زمنه، وكانت في جلها نصوصا شفاهية متوارثة، جمعها الأحبار والكهنة، ونسّقها عزرا الكاتب. ولم تستقر اصولها حتى القرن الثاني قبل الميلاد. وتعتبر النسخة السبعينية البطلمية هي نسختها القانونية الاصلية وعنها نقل العلامة جيروم في القرن الرابع الميلادي للغة اللاتينية وهو اصل كل الترجمات الاوربية الحالية، ومنها العربية المعروفة بترجمة فاندال من القرن التاسع عشر.

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.