3

:: هل ساعد النظام السوري بالفعل في صعود الإسلاميين ::

   
 

التاريخ : 19/09/2016

الكاتب : مازن كم الماز   عدد القراءات : 1597

 


 

 

تقول السردية أو "الأسطورة" السائدة بين اليساريين الدولتيين والإصلاحيين والليبراليين على أن النظام الأسدي هو نفسه من فرّخ الإسلاميين، خاصة أشكالهم الأكثر شمولية وسلطوية، هذا طبعا ليس رأي الإسلاميين أنفسهم..

لا شكّ أن الظهورين الأبرز للإسلاميين في المشهد السياسي السوري، قبل ثلاثة عقود ونصف وقبل خمس سنوات، قد سبقهما نشاط هائل، دعوي واجتماعي إسلامي لم يقتصر فقط على موظفي النظام أو أزلامه بين الإسلاميين، يعترف بهذا حتى أكثرهم تطرفا.. ولا شك أيضا أن النظام حاول استخدام مثل هذا النشاط لصالحه وشجعه أحيانا في مواجهة المخاطر المتزايدة التي أخذ يتعرّض لها منذ 2003 معتقدا أنه قادر على أن يبقيه تحت السيطرة بفضل قبضته الأمنية القوية، تماما كما فعل السادات من قبل.. لكن الأكيد أيضا أن هذا لا يفسر لوحده مثل هذا الصعود الهائل الذي تمكن من تحويل الثورة السورية من ثورة ناشطين ثم ثورة جماهيرية إلى ثورة مجاهدين (ثورة بلشفية إسلامية أو خمينية سنّية)..

لنفهم أكثر أعتقد أن المثال البلشفي سيفيدنا هنا.. لقد عملت ماكينة الإعلام القيصرية على التوازي مع ماكينتها الأمنية، على شيطنة البلاشفة، على مساواتهم بالفوضى ونكاح الأخوات والأمهات والقتل الوحشي، لقد وصموهم بأنهم الشر المطلق والخطر المحدق، واختلقت تلك الماكينة بروتوكولات حكماء صهيون من بين أشياء أخرى لتدعم اتهاماتها هذه ضد البلاشفة وكل من يدعو إلى تغيير جذري في البلاد يقوم على إسقاط القيصرية، كانت تلك دعاية مجانية حصل عليها البلاشفة، وكانت أكثر تأثيرا بكثير ربما من كل محاولاتهم لتأسيس جريدة وتوزيعها بين عمال روسيا وفلاحيها الأميين.. بالنسبة لهؤلاء العمال والفلاحين بدا البلاشفة الأكثر جذرية وإصرارا في معارضة النظام القيصري، على عكس المعارضات الأكثر ليبرالية وإصلاحية، التي شعر العمال والفلاحون بأن معارضتها للنظام القائم كانت مائعة وغير جذرية، ولا شك أنهم كانوا على حق في هذا، فقد كانت تلك المعارضة تريد الحفاظ على امتيازات الجزء المهذب الغني، المحترم والأرفع ثقافة في المجتمع على حساب الفقراء الأميين الرعاع، ليبراليتها لم تكن لتمنحهم شيئا أفضل بكثير من النظام القيصري، كانوا سيبقون كما كانوا دائما: الرعاع، الملزمين بالعمل والكدح، المحكوم عليهم بالفقر والحاجة، لكن هذه المرة باسم الجمهورية والديمقراطية.. لذلك عندما دقت ساعة الحقيقة، عندما اندلعت الثورة، اختار العمال والفلاحون الأميون هؤلاء البلاشفة كبديل "جذري" عن القيصرية.. لكن هذا لم يمر طبعا دون مساعدة خارجية (أو من الداعمين، بتعابير الثورة السورية اليوم): سمح الجنرالات الألمان للينين بأن يجتاز أراضيهم في طريق عودته إلى روسيا، كان يأملون أن تؤدي دعايته المعادية للحرب في النهاية إلى إخراج روسيا من الحرب ضدهم.. وهذا ما حدث بالفعل في بريست ليتوفسك 1918 عندما وقع تروتسكي اتفاق سلام مذلّ مع الجنرالات الألمان متنازلا لهم عن أوكرانيا وبولندا ومخرجا الجيش الروسي الناشئ من الحرب ضدهم.. لكن الجنرالات الألمان وقيصرهم لم يدركوا في لحظة انتصارهم المفترضة تلك أن هزيمتهم لن تكون على الجبهة ضد الروس ولا حتى ضد الفرنسيين أو البريطانيين، بل هناك في المؤخرة، أي في الوطن، عندما سيحفز المثال البلشفي - اللينيني العمال والبحارة والجنود الألمان ليثوروا ضد جنرالاتهم ويناضلوا طوال خمس سنوات لتحويل ألمانيا إلى بلشفية.. رغم عقيدتهم السماوية ورغم أنهم يعتبرون أنفسهم الوكلاء الحصريين للرب على هذه الأرض، ليس فقط في سوريا، لكن سياستهم ودعايتهم براغماتية جدا، لا تختلف عمليا عن أي سياسي علماني أو ملحد (كافر بتعريفهم). لا توجد انتصارات إلهية هنا (التعبير استخدم أول مرة من قبل حسن نصر الله)، بل انتصارات دنيوية باسلحة دنيوية وبمساومات وتحالفات دنيوية جدا لا يتدخل فيها الملائكة ولا الطير الأبابيل، معجزاتهم ليست أكثر من تفجير بناء بأطنان المتفجرات أو تدمير دبابة بصاروخ تاو أو كونكورس.. مثل سلفه القيصري، كان النظام الأسدي قد شيطن الإسلاميين، خاصة الجهاديين.. ربما كان النظام الأسدي قاسيا جدا في التعامل مع بعض الشباب البسيط ودفعه بالفعل إلى التحول إلى جهاديين بسبب قمعه الهمجي، لكن هذا جرى على الأغلب كآثار جانبية لقمع النظام الهمجي لا أكثر.. لقد كان استعصاء (أو تمرد) سجن صيدنايا التجربة الأخيرة لهؤلاء قبل الثورة السورية، تطعيم المعركة الأخير، لقد كانوا الأكثر شراسة في مواجهة النظام وكانوا وحدهم تقريبا من رفع شعار لا مساومة مع النظام ونادى باستخدام العنف ضده، وفقط ضد النظام بل أيضا ضد بعض المساجين الذين يختلفون معهم كالحقوقي نزار رستناوي الذي قتلوه بالطريقة الوحيدة التي كانت متاحة لهم يومها: ضرب الرأس بالأنابيب المعدنية.. هذا بالحرف ما سيحدث أيضا بعد سنين في سوريا كلها.. ظواهر مثل نديم بالوش (ورحلته من الدعوة في مساجد اللاذقية إلى مشاركته في استعصاء صيدنايا إلى تعذيب وفقء عين ضابط منشق ثم قتله إلى الموت "انتحارا" كما زعم الأتراك في سجن تركي) هي تعبير عن أزمة الثورة السورية، وليس فقط عن أزمة النظام الأسدي.. لم تمض سنوات طويلة حتى كان البلاشفة قد تحولوا إلى قياصرة حمر، وساقوا نفس العمال والفلاحين الذين دفعوهم إلى الصدارة في لحظة الثورة، إلى معسكرات العمل العبودي وإلى حروب توسع مجانية وأعمال سخرة إجبارية لا تقل همجية عن القياصرة القدامى بل تفوقهم بدرجات.. لقد عاملوهم كاسوأ أنواع العبيد، اسوأ من سادتهم السابقين.. لكن كان نظام القياصرة الحمر، الجديد، أكثر توغلا في المجتمع لدرجة أنه تمكن من الاستمرار في وجه أزمات طاحنة شديدة العمق، كالأزمات الاقتصادية والمجاعات المتعاقبة في عقود حكمه الأولى ثم موت الديكتاتور والتبدلات المستمرة في سياساته الداخلية والخارجية والصعود المؤقت في مقاومة عبيده سواء في الداخل أو في الخارج، وحتى الأزمة الوجودية العميقة التي بدأت بمنتصف الثمانينيات وأطاحت بسلطة الحزب الشيوعي، لم تؤد إلى انتزاع السلطة من أيدي الطبقة البيروقراطية الحاكمة منذ 1917 التي تبدو وحدها القادرة على حكم روسيا اليوم دون معارضة جدية أو حتى مقاومة جدية من الطبقات الأفقر والمهمشة... تلك الطبقة تحكم روسيا حتى اليوم دون بوادر مقاومة منظمة لسيطرتها.. كشفت الثورة الخضراء في إيران 2009 أن "البديل" عن التحالف الحاكم كان أحد يأتي من داخله فقط، أحد تياراته التي تزعم أنها أكثر ليبرالية، لا بديل عن الطبقة الحاكمة إلا من داخلها، لقد روض المجتمع وتعفن وأصبح القيام بثورة جذرية نهائية وحاسمة على الطبقة الحاكمة صعبا جدا إن لم يكن مستحيلا..

في سوريا أيضا شاهدنا كيف أنتجت الأسدية أسدية مقلوبة كخصم رئيسي لها، ليس كخصم جماهيري بل كخصم أقرب إلى الجماهير، ليس من الناحية العقائدية بالضرورة كما يزعم الإسلاميون وأنصارهم العلمانيون (كانت عقيدة البلاشفة على الضد من عقيدة العمال والفلاحين الروس السائدة لقرون) بل طبقيا واجتماعيا وأيضا على صعيد جذرية معارضتهم للنظام.. لم ينتبه السوريون العاديون، كما حدث للعمال والفلاحين الروس قبل قرن تقريبا، إلى بوادر تحول هؤلاء إلى قياصرة جدد، إلى أسديين جدد.. إن القصة المنتشرة بين اليساريين الدولتيين والإصلاحيين والليبراليين عن أن الصعود الإسلامي كان من فعل النظام المباشر هو استمرار لحالة الإنكار التي تستحوذ عليهم من أن السوريين العاديين قد رفضوا بديلهم المزعوم عن النظام الأسدي، أو لم يكترثوا له... خلافا لما يقوله ويحلم به هؤلاء، ليست الديمقراطية، كما يفهمونها، شيئا جديدا على السوريين، لقد مارسوها بالفعل حتى في ظل أنظمة كمبارك وبن علي والأسدَين، إلا القذافي.. إذا كانت الديمقراطية تعني صناديق الانتخاب فإنها قد مورست بالفعل من قبل وليست ابتكارا جديدا أبدا.. في سوريا كان النظام الأسدي يترك هامشا للتجار والفنانين ورجال الدين وحتى المهووسين ليتنافسوا على المقاعد المخصصة للمستقلين (غير مقاعد الجبهة الوطنية التقدمية) حتى أن الكثير من هؤلاء، بينهم من يتصدر اليوم مؤسسات الثورة الرسمية، كان يطبع قوائم تضمن اسمه إلى جانب أسماء "مرشحي" الجبهة الوطنية التقدمية "الفائزين" سلفا.. في مصر وتونس لم تختلف انتخابات ما بعد الثورة عن انتخابات ما قبل الثورة، توزيع الرز والزيت وموائد اللحم الخ هي التي حسمت الانتخابات، طبعا إلى جانب الدعاية في المساجد.. كان من غير المنطقي بالنسبة للناس، الذين أمسكوا زمام الأمور بالفعل مع انتصار القوى المحلية للجيش الحر على الجيش الأسدي أن تنسحب لتقدم السلطة إلى بقايا المعارضة اليسارية الإصلاحية والليبرالية أو الإسلامية "المعتدلة" التي اعتبرت أن الثورة يفترض أن تؤدي إلى تسلمها هي لزمام الأمور والتي سارعت لتقيم تحالفات وخصومات ومجالس وطنية وائتلافات، تلك القوى التي كانت قد غيرت سياستها جذريا منذ إطلاق سراحها في التسعينيات من مخاطبة السوريين العاديين إلى مخاطبة أقوياء العالم وبدرجة أقل المنظمات الحقوقية فيه.. احتاج الأمر إلى بقرطة القوى الشعبية التي انفجرت أو القضاء عليها ماديا ورشوتها وشرائها من قبل القوى الإقليمية أو من قبل الأثرياء السلفيين من الكويت والخليج لتحويلها إلى مرتزقة في حروب الآخرين والقضاء على طابعها الديمقراطي المباشر وارتباطها بمجتمعاتها المحلية.. نتائج مثل هذا الإنكار عديدة وفادحة، إنها عقبة أساسية أمام فهم كيف يمكن بعد ثورة جماهيرية وتضحيات هائلة، استبدال الأسدية بأسدية بديلة.. وهي أيضا عقبة في طريق محاسبة واتهام الجلادين الجدد أو حتى الجهر بجرائمهم.. إن الحديث عن سميرة ورزان ووائل وناظم ينتهي في كثير من الأحيان إلى تعويم هوية الجاني الحقيقي، وتشويش ما هو واضح للعيان.. إن عدم تسمية المجرم الحقيقي هنا، واستخدام نظريات مؤامرة أو إقحام اسم النظام أو قوى إقليمية أو اتهام عجز أو عدم رغبة قوى خارجية الخ بالمسؤولية، ولو الجزئية، عن تغييب سميرة ورزان ووائل وناظم، كل هذا ليس خدمة ولا وفاء لعذابات هؤلاء أو تضحياتهم، إنه في الواقع ليس إلا فصاما أو خيانة.. إن عدم القدرة على الإشارة إلى الجلاد والعجز عن مواجهته بحقيقة ما يفعله هو قصور غريب ولكنه منطقي إلى حد ما في حالة اليساريين الإصلاحيين والدولتيين والليبراليين.. مع ضرورة أن نذكر هنا أن تغييب الناشطين الأربعة ليس إلا قمة جبل الجليد الهائل الذي يشمل آلافا يسجنون وتجلد ظهورهم ويرمون من فوق أبنية مرتفعة أو يرجمون ويهانون ويسرقون ويقتلون ويذكّرون بكل لحظة بأن عليهم ألا يفكروا أو يتحدثوا إلا بالطريقة التي يحددها لهم سادتهم الجدد وألا ينتقدوا أو يقاوموا سادتهم الجدد تحت طائلة أقصى عقاب، بكلمة أن يكونوا رعايا مطيعين وجيدين، بطريقة تختلف في الشكل فقط، وإن ليس كثيرا، عن النظام الأسدي..

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.