3

:: في رثاء يهوه.. ::

   
 

التاريخ : 01/09/2016

الكاتب : وديع العبيدي   عدد القراءات : 2389

 


 

 

"من قفة موسى خرج الخارجون!".

 

 

(1)

يهوه.. بطلا ملحميا..

معرفة الآلهة أمر ليس باليسر. وهي لا تكشف عن نفسها كذلك باليسر الذي يتوقعه/ يستهله كثيرون. وذلك لسبب رئيس، ان قوة الإله قائمة على الأسرار. وكلما بقيت أسراره مكتومة عبر الدهور، وحقيقته مجهولة للبشر، وغائبة للعيان، عظمت عجائبه، وتعظمت رهبته والخوف منه، والعبودية له. وفي مجموعة أساطير للكاتب التركي عزيز نيسين [1915- 1995م] يكشف عن الخصائص البنيوية وأسرار عظمة الغيب/ المجهول الذي يستعبد الناس بالترهيب النفسي وأعراض الوهم والهلوسة العقلية.

وفي هذا السياق، لا يكاد كثيرون ممن قرأوا التوراة/ التناخ/ الكتاب المقدس، يدرك ان إله التوراة- اي الشعب العبراني المعروفين باليهود، اسمه (يهوه). ولعل السبب وراء ذلك ان الكتاب المتيسر للتداول هو ترجمة للكتاب الأصلي، وليس الكتاب الاصلي المفترض ان لغته كانت العبرانية (اليهودية البابلية) أو الارامية القديمة/ الاصلية. ولا توجد نسخة منه حاليا.- لا اتوقف هنا عند هذا الامر، ويمكن المعني العودة الى الكتابالت الدفاعية [Apologetic Theologies/ باب (صحة الكتاب المقدس)-.

لن تتوفر معلومات واضحة ومباشرة عن الإله في سفر التكوين – أول كتاب من كتب التوراة الخمسة/ بانتا كوستا-، حتى ظهور شخصية موسى بن عمرام اللاوي العبراني المصري، والتقائه بالإله عند جبل حوريب/ جبل الرب (خروج 3: 1- 3) في شبه جزيرة سيناء – قصة العليقة التي تشتعل ولا تحترق-*. و(حوريب) لفظ أكدي قديم معناه (محارب) أو (بطل)/ [hero]- بلغة أيامنا. ومن الاسماء القريبة منه الملك الاشوري القاهر (سنحاريب) والمكون من مقطعين (سن) أي الشمس، و(حاريب/ حوريب) أي فارس أو بطل. ومنه اشتقاق الثلاثي المجرد العربي [حارب/ يحارب/ حربا فهو محارب أو مقاتل]. جبل حوريب في سيناء هو جبل (يهوه) العبراني، واليه اقتاد موسى شعبه من أرض مصر وجعلهم يدورون حول الجبل اربعين عاما هي سنوات (الْتَيْه) كما تعرف. وقد اصبح جبلا مقدسا عند المسيحيين وصار اسمه جبل سيناء/ سيناي في الكتابات المسيحية، وعنده بنت الامبراطورة هيلينا ديرا للرهبان وكاتدرائية مازالت لليوم مزارا وحجا للسياح والسواح.

 عندما يسأل موسى صاحب الصوت المتكلم من الجبل عن اسمه يجيبه: أهيه الذي أهيه (خروج 3: 14)*. أي الكائن الازلي. وفي سفر الخروج، بعد لقاء موسى ويهوه/ يبدأ الدخول الاستعراضي البطولي الجبار ليهوه في منازلته فرعون مصر وآلهته، بهدف ترويض الفرعون واخضاعه له، دون طائل. والمعروف ان الفرعون كان يعتبر بمثابة (إله) مصر، أو (ابن الاله) أو ممثله، وكان يطاع طاعة عمياء، وكل ابناء مصر عبيد في خدمته. وعند هاته النقطة أود التوقف، لتبيان مغزى وقوع اختيار (يهوه) على فرعون- ندّا- للمنازلة والمبارزة والتحدي والاستفزاز؟..فالنزال هنا يتم على ثلاثة مستويات:

أولا: منازلة إله لإله!..

ثانيا: تحدي ملك لملك!..

ثالثا: مبارزة قائد عسكري لقائد عسكري!..

وكما في تقاليد المبارزة الاغريقية/ الرومانية المعروفة وفي سوح ألعاب الكولسيوم، يتقدم الخصم بالتحدي ثم ينتظر معطيا الفرصة لخصمه للرد عليه أو مجابهته بتحدٍّ مقابل/ مضاد. وهذا ما نقرأه ونتابعه تماما في الضربات والتحديات الثلاثة عشرة التي يقضي بها يهوه ضد فرعون شخصا ومالكا، وبلاطا وشعبا على التوالي. لقد قام يهوه بتدمير البروليتاريا المصرية لمجرد اقناع فرعون بعظمته وكسب اعترافه الرسمي ورضاه بوجوده كند على الحدود!.

سفر الخروج (7: 8- 13): " وقال يهوه لموسى وهرون: عندما يطلب فرعون منكما قائلا: أرِياني عجيبة!، فأنك تقول لهَرون: خذ عصاك والقِها امام فرعون فتتحول الى حية!. فمثل هَرون وموسى امام فرعون وفعلا تماما حسب أمر يهوه. فألقى هَرون عصاه، امالم فرعون وأمام حاشيته، فتحولت الى حية. فاستدعى غرعون حكماءه وسَحَرَتَه فصنع سَحَرَةُ مصر على غرار ذلك، سِحْرهم!. فطرح كل واحد عصاه فتحولت الى حية!. غير أن عصا هَرون ابتلعت عصيهم، لكن قلب فرعون ازداد تصلبا. فلم يستمع لهما.".

نلحظ وسط المشهد ساحة/ ميدان المنازلة/ المبارزة/ التحدي، وقد حضر الفريقان المتنازعان أو المتبارزان.

يبدأ الفريق الجديد/ المستجد بطرح التحدي حسب ما يراه اعجازيا للطرف الاخر، وبعدها ينتظر. والتحدي هنا: هو تحول العصا الى (حية)!.

ينسحب الفريق الاول بعد تقديم تحدّيه، ويفسح المجال للفريق المقابل للمبارزة وتقديم تحدّيه بالمقابل/ المضاد.

فرعون يدعو حكماءه وسحرته، وكأنه في حالة هلع وطوارئ، ويطلب من أتباعه مواجهة التحدي والتغلب على الفريق المستجد.

يقوم سحرة مصر بإلقاء عصيِّهم وتحويلها الى أفاع على غرار فعلة هَرون.

ونرى ان الكاتب غير المحايد، وهو يتحيز لأحد الطرفين، ويمثل الفريق المستجد لا يكشف تمام اللعبة ويترك خيوط الأسرار بيده.

وهنا يأتي دور الفريق الأول المستجد، لاستكمال التحدي، وجعل حية هَرون تبتلع كل حيايا سحرة مصر.

والمنطقي هنا، أنه لو كشف السرُّ لسحرة مصر، لما توقفوا عند تحويل العصي الى حيايا، وانما لجعلوا عصيَّهم المستحيلة أفاعيَ، تبتلع حية هَرون وتترك هارون وموسى في حيرة وارتباك، من دون العصا السحرية التي جلباها من سيناء. وبهذا المنازلة السحرية الرخيصة، تبدأ المباروة والتحدي، التي يراد بها اعلان عظمة الإله الجديد لبني اسرائيل، وقدرته على اخراجهم من سلطة فرعون، واستكمال وعود إيل لهم بدخول ارض كنعان لاحقا. والعصا هنا دالة رمزية تشير للسلطة والعظمة والنفوذ، عصا الصولجان/ القيادة، والمراد بها تجريد فرعون مصر من سلطاته، التي تحدّى بها الاله، وتحدّى جيرانه السينائيين.

وهكذا يستعرض يهوه قوته في ثلاثة عشر حادثة ذات مضمون واطار سحري خارقي بدء من تحويل عصا موسى الى حية، ثم الى افعوان يبتلع كل حيايا/ عصي سحرة فرعون، حتى المجازر الدموية المهلكة للزرع والضرع وكل حياة، انتهاء بالعبور العظيم، حيث يشق موسى بحر سوف/ الاحمر بعصاه فيتوقف الماء ويصنع واديا بين جبلين داخل البحر، يعبر منه اتباع موسى، وعندما يلاحقهم جيش فرعون، يعود الجبل ماء ويبتلعهم جميعا، كما هو وارد في التوراة والقرآن. وأدناه الأعاجيب والأفاعيل الخارقية التي قام بها موسى وهَرون ممثلو يهوه البشريين ضد فرعون وبلده وشعبه:

1-      تحويل العصا الى حية وابتلاعها عصيَّ المصريين/ (خر 7: 8- 13).

2-      تحويل مياه المصريين الى دم (خر 7: 19).

3-      النيل يفيض بالضفادع (خر 8: 3).

4-      تحويل تراب مصر الى بعوض (حر 8: 17).

5-      هجوم اسراب الذباب على ارض مصر (خر 8: 21).

6-      اهلاك مواشي مصر (خر 9: 3).

7-      تحويل ذرات الرماد الى دمامل متقيحة في كل ارض مصر (خر 9: 8).

8-      السماء تمطر بَرَدا لم يسبق له مثيل في كل ارض مصر (خر 9: 18).

9-      ارض مصر تبتلي بجراد يغزوها (خر 10: 12).

10-                        ظلام يسود كل ارض مصر (خر 10: 21).

11-                        يهوه يجتاز في وسط مصر في منتصب الليل فيموت كل بكر فيها (خر 11: 4).

12-                        موت ابكار مصر من البشر والحيوانات وكل كائن حي (خر 12: 29).

13-                        شق البحر الاحمر لعبور الاسرائيليين دون مطارديهم المصريين (خر 14: 21).

فيلحظ انه بعد ابتلاع عصي المصريين، لم يُترك لهم خيارٌ لاستمرار المنازلة والتحدي، فاصبحوا تحت هيمنة يهوه واتباعه، وأحيقت بهم ضربة بعد ضربة، دون فرصة للتراجع، أو مقدرة على المواجهة والتصدي، وفي نهاية المنازلة، يستسلم الفرعون ويأمر بطرد الاسرائيليين لما استتبعوه من لهنات على بلده وشعبه وحكمه. "وفي منتصف الليل أهلك يهوه كل بكر في بلاد مصر، من بكر فرعون المتربع على العرش الى بكر حبيس في السجن، وأبكار البهائم جميعا ايضا، فاستيقظ فرعون وحاشيته وجميع المصريين، واذا عويل عظيم في أرض مصر. لأنه لم يوجد بيت في مصر، ليس فيه ميت. فاستدعى فرعون موسى وهَرون ليلا قائلا: قوموا واخرجوا من بين الشعب، انتما وبنو اسرائيل!. وخذوا معكم غنمكم وبقركم، وامضوا وباركوني ايضا، وألحّ! المصريون على الاسرائيليين في الارتحال، عن بلادهم، قائلين: لئلا نموت جميعا!." (خر 12: 29- 33).

ان هاته المنازلة/ المبارزة، هي منازلة ادبية غير محايدة، بالمقارنة بالمبارزات الواردة في كتب الأغارقة والرومان، حيث يتعادل الفريقان المتبارزان في الحقوق والفرص، من البداية حتى النقطة الاخيرة لمشهد النهاية، فيكون المنتصر منتصرا حقا وبموضوعية، ويكون المنهزم قد مارس كل قدراته واحتمالاته وحقوقه من غير غبن. ولكن القصة السالفة بين يهوه وفرعون قائمة على الخديعة والغبن، وليس المبارزة الموضوعية المباشرة أو الحقّة. فأنا هنا أضع النص التوراتي على طاولة التحليل والدرس المقارن بتقنيات الملاحم الأسطورية للاغريق والرومان، وهم آباء الملحمة وقصص المنازلة والمبارزة ومؤسسوها بلا منافس، كما يعرف المعنيون بالادب الملحمي والاساطير.

ان بناء أسطورة/ قصة ظهور يهوه وشخصيته العنفوانية الجبارة، مضاهاة بشخصية جلجامش الذي يهزم انكيدو وحمبابا، وقصة مردوخ الذي يهزم تيامات، واساطير زيوس وابولو وصراعهما مع المنافسين والطامعين في النفوذ، وما يماثلها من اساطير خارقية لدى مختلف الشعوب والثقافات القديمة. وهذا ما يستنبط من تظاهر يهوه بالقوة والعنف والقسوة غير المحدودة، كقائد عسكري وملك جبار وإله لا يعرف الرحمة، مليء بالغيرة على نفسه والغضب المتدفق على البشرية عامة، بما فيهم أتباعه بني اسرائيل.

(2)

يهوه رب الجنود.. وموسى قائدا عسكريا..

سفر الخروج المتعلق بشخصية موسى، يتركز حول كفاح يهوه مع المصريين وبني اسرائيل لنيل الاعتراف الكامل به الها أوحد فوق الجميع ولا إله غيره. هاته القصة/ الخطاب تذكّر بقصص صراعات الآلهة في الميثولوجيا القديمة لدى مختلف الشعوب، ومنها البابلية والمصرية والهندية والاغريقية والرومانية، فكل إله في صراع وشغل لقهر غيره والتسلط على نفوذه. وكلها تعرف قديما وحاضرا في باب الملاحم والاساطير/ أدب الخوارق والبطولات الخرافية التي دخلت الادب الحديث تحت عنوان الفكشن. ففي ارض الرافدين تعددت وتطورت شخصيات الآلهة والقادة الأسطوريين من جلجامش إلى نمرود إلى مردوخ إلى اشور، كما تعددت وتطورت آلهة مصر من جنوبها تدرجا لشمالها، كما هو لدى الاغارقة والرومان. والمفارقة ان الجميع ينتهون ويستقرون عند إله الشمس أو ما يمثله أسطوريا. وقد تعددت وتطورت شخصيات آلهة العبرانيين من عهد ابراهيم حتى ايام الحشمونيين. وهو ما تضمنته سيرة اسفار العبرانيين ومسيرتهم التاريخية من جنوب ارض النهرين عبر أرام وكنعان حتى سناء وارض النيل ثم العود لبدو سيناء والفلسطينيين حتى ارض الاردن وغرب النهر. وقد فصل علماء التناخ وشخصوا تلك الخلاصات الالهية وتعدد اسماء وصفات الإله من عهد لعهد. وليس هنا مجال تفصيل ذلك، غير ما يرد بحكم القراءة النوعية/ العلمية المعمقة. وهي قراءة لا تتوقف عن المقروء المدون السطحي الاخير، وانما تسترشد المصادر والمخطوطات الاقدم السابقة لعصر الطباعة، والسابقة للترجمة السبعينية ايام يطليموس السندري. وقد جهد الكهنة من جانب، والترجمات الحديثة من جانب مقابل، على توحيد الشخصيات الثلاثة – أو أكثر- للآلهة العبرانيين في بوتقة شخصية واحدة، وهو ما يغهم – والمغزى وراء- تكرار عبارة (إله ابراهيم واسحاق ويعقوب)، كما تلحق باسم يهوه بعد الخروج وبغيره في عصر الانبياء. ولسنا هنا ايضا بصدد الاعتقاد المجوسي/ الشرقي القديم، ان (لكل عصر وشعب إله) والتي تحولت إلى نص ان (لكل عصر ولكل قوم نبي ورسول)، قبل ان تتحول إلى مقولة أن (لكل عصر وشعب إمام وقديس) كما هي لدى بعض الشيعة والمسيحية التقليدية. وهو باب أغلقه علماء اللاهوت العبري في أواسط العصر الميلادي، مع أن تعدّد حاخامات اليهود واختلافاتهم تذكّر بنظام تعدّد البطاركة وحدود نفوذهم الجغرافي.

وفي ايجاز شديد، نجد ان..

1-      الاصحاحات الاولى من سفر التكوين التوراتي تتحدث باسم (تيلوهيم)، وهي صيغة جمع (اله) بالعبرية ومعناها (الآلهة)!.

2-      إله ابرام/ابراهيم بن تارح الكلداني من ارض بابل هو إله الشمس/ إله بابل الأولى.

3-      إله ابرام/ ابراهيم بن تارح بن ناحور بعد لقائه الملك الكاهن ملكي صادق ملك ساليم ويقدم له العشور يصبح (ايل) أول من يصنع له مذبحا، ويعده بمنحه ارض كنعان، وهو نفسه إله ولديه ذريتهما اسماعيل واسحاق وعيسو ويعقوب وذوريتهما حتى دخول مصر والالتحاق بسلطة يوسف بن يعقوب.

4-      يسكت الكاتب عن اسم إله يوسف في مصر، بعد تبنيه من قبل رئيس الشرط فوطيفار وزواجه من بنت رئيس كهنة مصر وحمله اسما مصريا بحسب التقاليد المصرية الرسمية. وهو بالتأكيد ليس (ايل) قطعا، حسب الامانة التاريخية.

5-      بعد هروب موسى الى سيناء تظهر شخصية (يهوه) السينلئية ويبذل موسى وهرون جهودا وضغوطا عدة للاقناع بني اسرائيل تبني الإله الجديد وتغيير قناعاتهم عن (ايل) إله ابرهيخم واسحق ويعقوب غالاصلي.

6-      ضمن الاضطراب الفكري والنفسي والاجتماعي داخل العبرانيين، يظهر البديل الثالث (العجل الذهبي) الذي يصوغه هَرون ويباركه للشعب، وهو نيابة عن إله الكنعانيين (البعل) السوري الذي يخضع له ابرام في كنعان قبل مباركته من ملكي صادوق.

7-                  ان إله عصر الأنبياء هو (إيل) إله ملكي صادوق والكنعانيين، وهو الذي يسود العصر الانجيلي الاول، ويتحدث عنه يسوع المسيح بوصفه (الأب) دون تسميته.

8-      وقبل أن نطوي الكتاب ونختم هاته السلسلة الالهية، نقرأ في نفس الكتاب/ العهد الجديد قول يسوع المسيح: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب. أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة فحينئذ أصرح لهم أنى لم أعرفكم قط. اذهبوا عنى يا فاعلي الإثم" -(متى7: 22، 23).

ان شخصية يهوه (أهْيَهْ اللي أهْيَهْ) ينبغي ان تدرس وتفهم ضمن سياق الحركة التاريخية السياسية واللاهوتية المنسجمة مع ظرفها السياسي ومرحلتها التاريخية الاجتماعية. وفي ضمنه يأتي السؤال: لماذا موسى؟.. من هو موسى؟.. ما دلالة موسى: المنتشَل من الماء (من تحت)، ودلالة يهوه النازل من السماء (من فوق)؟.. القارئ بحاجة لدراسة اجتماعية سياسية، عامة وشخصية لمرحلة وظروف حياة موسى بن عمرام، ففي الأول والأخير، موسى هو المسؤول الأول والأخير عن أسرار وخفايا ظهور وتطور شخصية (يهوه)، وهو الأمين الأوحد والوكيل الأكبر لترويج وتسويق (يهوه) ظرفيا وتاريخيا. وموسى هو الذي طلب معونة أخيه (هارون) لمساعدة وتخفيف العبء وتوزيع المسؤولية الجديدة، التي ستجعل بني عمرام اللاوي، قطبا جديدا في شعب العبرانيين، ومفتاحَ مرحلة تاريخية جديدة تتجاوز ما سبقهم/ (بني ابراهيم واسحق ويعقوب)، وتشرف على المستقبل، جيلا بعد جيل، كما يأتي في النص الموسوي التوراتي.

ان من مبررات الجديد – المستحدَث- تمييز نفسه بسِمات ومبرِّرات غير مسبوقة، ما جعل شخصية يهوه تتميز في ظهوره ووسم عهده بتغيير راديكالي في طبيعة الايمان والقناعات العبرانية. ثمة تغير راديكالي في صورة الإله وشخصيته وطبيعه ومزاجه ودوره ووظائفه، انه أكثر قربا وحيوية من الشعب، ولكنه أكثر قسوة وحشيسة ومثالية متطرفة، لا تميز بين الأسطوري الإلهي الخارق، والبشري البدائي الضعيف والمحدود الفهم والقدرة. وهنا يقتضي التمييز بين شخصية (ايل) وليد الحضارة الكنعانية الزراعية والتجارية، وبين شخصية (يهوه) الصحراوي البدوي الذي يأمر وينهى ويطاع بغير تروٍّ او مناقشة، ومن غير اعتبار ان العبرانيين المختارين شعبا له، هم أبناء حضارة مدنية متطورة ومزدهرة بكل المقاييس والمستويات الزمنية لذلك العصر. ولابد لمن يتعامل معهم أو يقودهم الاعتبار بالخصائص المدنية والحضارية بين القائد والشعب، وبين المبدأ وبين بيئته الاجتماعية. فكان الفارق فاضحا بين البداوة والحضارة في التجربة الموسوية السينائية. وكان أمس، الشعب أكثر رقيا وتقدما ثقافيا واجتماعيا من شخصية القائد البدوي [موسى/ يهوه]!.. وكان البون شاسعا والخلاف سائدا بين عقليتين وثقافتين ومستويين متطرفين من ذروة التقدم/ (مصر)، وحافة البدائية/ (صحراء سيناء). وبالمنظور السياسي الاجتماعي المعاصر، نجد ان التجربة السينائية القائمة على العنف الديني/ الالهي المتمادي – اسوة بمصطلح العنف الثوري وما يتصل به من (ثورة ثقافية اجتمعية) بغية تأسيس امة-!. فلاستواء هاته القراءة، يقتضي اعتبار أمرين مهمين:

أولا: التفاوت/ التناقض الحضاري والاجتماعي بين البيئتين – مجال الصراع-، بيئة مصر الفرعونية وبيئة سيناء البدوية.

ثانيا: المشروع التاريخي الموسوي لبناء أمة مميزة ذات سمات مميزة ومستقلة بذاتها، ومتفوقة على سواها بشكل أو بآخر. وقد اعتمد هذا المشروع الطابع العسكري والعنف الثوري المباشر اسلوبا وطريقا أقصر وأسرع لبلوغ غرضه.

وبسبب الطرح الطوباوي والطابع المتسرع والمتعجرف وعدم الاخذ بالاعتبارات الموضوعية والتكتيكات اللازمة؛ فقد فشل موسى وخسر حياته في النهاية دون نيل رضى الشعب، فمات في سيناء – واختفى أثره بلا قبر أو أثر*-، ومات معه كثير من ثورته الثقافية ومشروعه القومي. وسوف نورد سيرورة تاريخ العبرانيين بعد موسى، عودا للثقافة الابراهيمية القديمة.

 

(3)

الأوضاع العامة والخلفيات التاريخية للمشروع الموسىوي..

كان هدم هيكل سليمان وحرق مدينة أورُشاليم عام (70م) في عهد نيرون، على إثْر الاتهامات الموجهة لليهود والمسيحيين في حادث حرق روما، حدثا فاصلا في التاريخ العبراني، ودافعا رئيسا لإعادة النظر في صورتهم وعقيدتهم وجملة الإرث الديني والسياسي والوعود المقدسة بشأنهم. ويمكن تصنيف الحملة الدراسية وبرنامج المراجعة التاريخية واللاهوتية الى قسمين..

أولا: دراسات كتابية راديكالية جديدة، والبحث عن أجوبة ومبررات ونتائج كتابية لما حصل ويحصل.

ثانيا: دراسات تاريخية واجتماعية سياسية تتعلق بحركة الأحداث (الصيرورة التاريخية)، وأنواع الشخصيات القائدة (علم الرجال).

وقد بلغت دراسات المجامع اليهودية البحثية من الجرأة والعمق والسعة والشمول حدّ فتحِ صفحة جديدة في الإيمان الديني والوعي الإنساني العقيدي، وأسّس لقناعات جديدة، غير مرتبطة حتما بفكرة الجغرافيا الكتابية وهيكل سليمان. والى هاته المرحلة تعود تجربة ما عُرف لاحقا بالتلمود [التلمود البابلي، التلمود الفلسطيني]، وهو مجموع الشروح والتوصيات والتأويلات الجامعة بين الإرث الشفاهي المتداول، وتوصيات الكهنة، والشروح والتأويلات الجديدة، بما يناسب مرحلة الشتات والإقامة بين الأمم. في هاته المرحلة، وفي مدرسة (يفنه) اللاهوتية/ (مدينة نابلس اليوم) سوف يتردد لأول مرة اعتراف موسى الخطير: (تلاميذي سبقوني!)، في شهادة غير مسبوقة بالاجتهاد الديني وسبر ما وراء الكتاب*.

 وفي صعيدٍ مقابل نشطت قراءات ودراسات تاريخية علمية/ اجتماعية/ سياسية تناولت التكوين الاجتماعي والخطاب الديني والسياسي للعبرانيين، ومفاصل الإشكالية التاريخية القومية، التي عرقلت تحوُّلَهم الى أمّة ذات أرض وخطاب إنساني أسوة بأمم الأرض وبالمفهوم التقليدي. وأسوة بالمضمون العلماني لهذا الجانب الدراسي، كان للمفكرين والباحثين العلمانيين قصب السبق في هذا المجال، دون بخس مساهمات بعض الأحبار. وهذا هو مجال عناية الصفحات التالية لتحليل وفهم التجربة السينائية الموسوية، والمنقسمة الى: الدراسات التاريخية العامة، والخلفيات الاجتماعية السياسية لعلم الرجال الاسرائيلي.

ترتبط مرحلة [موسى/ يهوه] بحقبة العبودية في مصر، والتي قامت على ركيزتين أساسين: وجود يوسف بن يعقوب في مصر/(تك 37: 25) وتولّيه إدارة مصر – ما يقابل رئاسة الحكومة- تحت سلطة الفرعون/(تك 41: 37). والأمر الآخر ظروف القحط والمجاعة/ (تك41: 57) التي دهمت جنوبي ارض كنعان، ودفعت بني يعقوب للاتجاه حيث الوفرة والرخاء – مصر-/(تك 46: 1).

ومن لحظة وصول يعقوب وذريته الى مصر، استمر وجودهم أربعمائة وثلاثين عاما، استقروا وتكاثروا وتعلموا فيها بعلوم المصريين وتطبّعوا بطبائعهم، واختلطوا بأجناسهم، واعتادوا على تقاليدهم الاجتماعية والدينية ونظامهم الاقتصادي والسياسي. ورغم ان يوسف يكون قد مات خلال ذلك وترك ذرية وخلفا، يستمر ذرية اخوته في الحياة الاجتماعية العامة في مصر. والغريب، رغم معيارية المصداقية في الخطاب الكتابي، الا ان سكوته عن مراحل وأحداث مفصلية معينة لا يخدم الواقع التاريخي والامانة العلمية والأدبية.

يتم تخصيص أرض جاسان/(46: 28) مركزا لإقامة بني يعقوب البالغ عددهم (سبعين) نفسا/(تك 46: 27). وسوف ينمو هذا العدد الى حوالي ثلاثة ملايين/(خر 12: 37- 38) عقب أربعة قرون. من المنطقي ان ثلاثة ملايين نفس مع قطعانهم واتباعهم لا يمكن أن يجتمعوا في مدينة واحدة قبل خمسة وثلاثين قرنا من اليوم. ويرد في النص ان انطلاق القافلة يبدأ من مدينة (رعمسيس)/(خر 12: 37) المصرية الى (سكوت)/(م. ن.) السينائية. ويشير بعض المؤرخين الى (المدن الخمس) غرب وادي النيل، وبعضهم (المدن العشر) في اتجاه ليبيا والجزائر كتجمعات رئيسة للعبرانيين في الشمال الافريقي. ناهيك ان أعداداً وفُرادى منهم استقروا بين المصريين بحكم العمل وعوامل الاندماج والثقافة. وقد أشار مؤرخ عبراني معاصر إلى ان ثاني أكبر تركُّز سكّاني للعبرانيين مقرُّه في شمال أفريقيا، وهو عريق في تاريخه، لكنه شكّك في نفس الوقت، في نسبة هؤلاء للعرق اليعقوبي حسب الأدبيات الصهيونية. ونعرف من واقع النصوص الرومانية أن (اليهودية) كانت ديانة رئيسة عند (الأمازيغ)، وان ثمة تقاربا/ تداخلا واضحا بين لغتهم القومية المتوارثة/ وبين العبرية القديمة.

ان الحديث عن التوزيع الجغرافي للعبرانيين كوحدات ديموغرافية مستقلة ومفروزة عبر الزمن، هو طرح ثقافي/ سياسي متأخر، يعود لما بعد ظهور حركة بازل/ (1897م). ويؤكد الواقع التاريخ وبالدلائل الكتابية، ان الاجتماع العبراني/ اليهودي كان مختلطا بسكان الشرق الأوسط بصورة مستمرة منذ أول ظهور لشخصية ابرام بن تارح بن ناحور/ (تك 12: 27) حتى يومنا هذا. مع التأكيد على أن العبرانين/ اليهود وبحسب تسمياتهم وتوصيفاتهم، هم جماعة ذات اصول اجتماعية تاريخية شرق أوسطية(*) يشتركون معهم في كافة الخصائص الانثروبولوجية العرقية والفكرية والثقافية، وهو ما تعترف به شبكة الأنساب التوراتية على الصعيد العام، ودون الغور في التفاصيل. وان الفصل- محاولات الفصل العنصري- على أسس قومية/ سياسية/ دينية – بِغَضِّ النظر عمَّن وراءَها ومبتغياتها- فشلت فشلا ذريعا. ان عدم الاعتراف الصريح والموضوعي بالقرابة الاجتماعية والثقافية بين الأقوام والمجتمعات الكائنة والمستقرة بالاتصال المستمر – زمكانيا- في الشرق الأوسط، هو وراء الإشكاليات السياسية والعراقيل التدميرية أمام استقرار مجتعات الشرق الأوسط وانطلاقها للأمام والتطلّع للحياة والأمل بعيدا عن الحزازات والنعرات والخلافات الوهمية وغير المبررة. ونلحظ نحن اليوم – أبناء الشرق الأوسط- كيف تحول الخلاف والتناحر الديني/ الجهادي داخل النسيج الاجتماعي لمجتمعاتنا الى خلاف وتناحر سياسي/ عسكري في التاريخ المعاصر، وآثاره التدميرية المتمثلة في الاستنزاف الطائفي والديني منذ عقود، والتي تتطلع لصدام عسكري/ جهادي مباشر تحت عنوان الصراع السني-الشيعي ونظرية البقاء للأقوى. هاته النتيجة المتأخرة التي أقحمت نفسها هنا، ونحن على أعتاب دراسة الظروف الموضوعية السابقة والممهدة للمشروع الموسوي، ذات أهمية استثنائية لتقدير نتائج الماضي (المقدس) وأثرها في تدمير العباد والبلاد على مر الزمن. وبحسب كاتب معاصر: "فأن الأمة لن تخرج من أزمتها التاريخية، الا اذا أدركت كيف دخلت اليها."*

(رؤية معاصر..)..

بعد وصول يوسف: (اسمه يعني – يزيد!) الى مصر – بغضّ النظر عن الطريقة!- يتم تبنّيه من قبل عائلة مصرية غنية. رأسُ هاته العائلة هو فوطيفار رئيس الشرط/ (يقابل مدير الامن الوطني العام بلغة اليوم). ثم تجري أحداث – دونكيشوتية- معينة، تقود الفتى يوسف الى السجن، ومن السجن الى الوزارة. – يذكرني هذا بكتاب قرأته من سنوات بعيدة عن الزعيم المصري سعد زغلول [1858- 1927م] بعنوان (سعد من السجن الى الوزارة)؛ وفي تاريخ الاتحاد اليوغسلافي المنصرم – تيتو[1892/ 1943- 1980م] من المنفى الى السلطة)!-.

وعندما كان عمر يوسف ثلاثين عاما/ (تك41: 46)، جرى تعيينه وزيرا أول/ رأس حكومة في مصر، وقام الفرعون بتغيير اسم (يوسف) الى اسم مصري فرعوني – صفنات أفنيج- ومعناه (حافظ الحياة)، ليتزوج بعدها من (أسنات) بنت (فوطي فارع) كاهن أون المصري/ (تك 41: 45). ويبدأ الحكم الجديد في التجوال عبر البلاد وتفقد مجالات الحياة التي يعنى بها. وما بين عمر السابعة عشرة، يوم وصوله الى مصر والثلاثين من عمره، فأنه تطبّع بطباع المصريين وتعلم لغتهم وأتقن لهجاتها وفنون ثقافتها ومجالات فنونها وحكمتها، وبتقاليد أيامنا، كان قد حصل على حق الإقامة والجنسية، وأصبح مواطنا مصريا بامتياز. وسوف تتأكد صفة الثقافة والهوية والانتماء المصري في حياة (صفنات أفنيج) وعقليته، بزواجه من بنت الكاهن الأكبر وإنجابه طفله الأول (منسى). ونتوقف هنا قليلا عن معنى تسمية بكره، - ومعناه الذي ينسي، أو المنسيّ-/ (تك 41: 51). فالنسيان هو الحد الفاصل بين تاريخين: الماضي والمستقبل. ويكون اسم ابنه الثاني (أفرايم) - ومعناه يثمر/ يزيد ويتضاعف-/ (تك 41: 52).

قصة يوسف بخطها الرئيسي وتفاصيلها، يحتاج القارئ لاستحضارها دائما عند قراءة قصة دانيال الذي يجعله نبوخذ نصر البابلي على رأس حكومته-(دانيال 2: 48) ويمنح اسما كلدانيا هو (بلطشاصّر)/(دا 1: 7)، وقصة موسى (سفر الخروج). ونفيد من القصتين الأخيرتين، ان يوسف – لابد- عيّن بعض أقاربه في مراكز رئيسة في البلاد، على غرار رفقة دانيال الثلاثة، وهَرون شقيق موسى وولده.

 وثمة ملاحظة لا يجوز بخسها في مجال تبنّي التقاليد والمعارف والطبائع المصرية، ان يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عندما يتوفى في مصر، يجري تحنيطه على الطريقة المصرية/(تك 50: 2- 3): "ثم أمر يوسف عبيده الأطباء ان يحنّطوا أباه. وقد استغرق ذلك اربعين يوما، وهي الأيام المطلوبة لاستكمال التحنيط، وبكى المصريون عليه سبعين يوما.". كما يجري تحنيط يوسف عند موته (تك 50: 26): "ثم مات يوسف وقد بلغ من العمر مائة وعشر سنين، فحنّطوه ووضعوه في تابوت في مصر".

فاذا كان التطبيع والتطبّع والاندماج في الحياة المصرية بلغ حدّا مثل هذا، فلابد ان يمتدَّ الأمر لتفاصيل الحياة الفكرية والدينية والمعتقدات العامة. والواقع ان للحياة والتقاليد المصرية جاذبيةً وأثراً اجتماعيا يصعب تلافيه على من يلامسها ويلمسها عن قرب. ونعرف من قصة ابراهيم بن تارح مدى تأثره وزوجته بالممارسات المصرية ومنها تبني عادة (الختان)/(تك 17: 10) المصري ذي الاصول الافريقية تاريخيا. وتبنِّي (هاجر) المصرية جارية لسارة، ثم زوجة لإبراهيم وأمّا لإسماعيل ابن إبراهيم. وسوف يبقى لمصر أثرٌ رئيسٌ في السيرورة والصيرورة الدينية لليهودية والمسيحية والاسلام، كما هو ثابت ومؤكّد نصّيا. وليس من الغلوّ بمكان، القول ان مصر الفرعونية وثقافتها العريقة، هي أحد المنابع الروحية الرئيسة في العالم القديم وأحد مصادر تقاليدها وطقوسها عبر الزمن، وهو ما يعترف به بعض رموز الفلسفة الاغريقية مثل فيثاغورس [570- 495 ق. م.] زعيم ومؤسس أول وأكبر طائفة زهدية تعبّدية في القرن الخامس قبل الميلاد، كانوا يرتدون الثياب البيضاء ويُطيلون لحاهم، ويعيشون عيشة الزهد والكفاف منعزلين عن حياة المدن، ومنقطعين للتأمل والدراسة، كما هو يصحُّ ويُكرّر بعد قرون في طائفة الأسينيين في غور الاردن، والمعتقد انهم جماعة يوحنا المعمدان [4 ق. م. – 27م] كما كشفت عنها لفافات البحر الميت في خمسينات القرن المنصرم.

ثمة خلطا فكريا في النظرة للعبرانيين. وهو خلط قائم على تغييب عنصر الزمن وإغفال آلية التطور التدريجي والمرحلية العقيدية في التاريخ العبراني وقراءة التناخ العبراني. فالمسيحيون -مثلا- يقرأون أول سفر التكوين من منظور العقيدة المسيحية، غير المعروفة وغير الظاهرة في الزمنية التاريخية، ويجري اشتقاق الثالثوث من عبارة (كان روح الله يرف على سطح المياه، ثم قال ليكن نور فكان نور)/(تك 1: 2- 3). ويجادل شهود يهوه في أن اللفظة الصحيحة لكلمة الرب/ الرب الإله هي (يهوه)، رغم أن ظهور اسم يهوه يرتبط بسفر الخروج وشخصية موسى. والسؤال الموضوعي المغيّب، هل ثمة وجود للدين في سفر التكوين؟.. هل كان لآدم وعائلته القريبة ديانة وعقيدة محددة، وما هو اسمها وتوصيفها؟ هل كان لنوح دين وعقيدة ومنه أبناؤه الثلاثة؟.. ونفس السؤال بالنسبة لابراهيم ولوط؟.. استنتج منه ان يعقوب وأبناءه الاثني عشر في دخوله لارض مصر لم تكن لهم ديانة وعقيدة معروفة، وأنهم مثل سابقيهم كانوا يتبنون ويقلدون جيرانهم من سكان المناطق المقيمين فيها، سيما وانهم كانوا بدوا عبّارة، يتنقلون من أرض لارض، ومعهم مواشيهم وعبيدهم ويقطنون الخيام السريعة الخفيفة النقل والمصنوعة من جلود الابل والماعز. وكل ما يرد في سفر التكوين بالعلاقة مع نوح وابرام واسحاق ويعقوب: رأى الرب أو الملاك وبنى مذبحا، وضع حجرا وبنى مذبحا. والمذبح ليس سوى أحجار الموقد الثلاثة، أو وضع حجرين فوق بعض عند غسل الذبيحة. ونقرأ من سيرة ابن اسحق ان شبه جزيرة العرب كانت معروفة بأحجار أو حافات صخور وجبال، كان يجري التعبد عندها وتقديم الذبائح من قبل المارة السيارة أو سكان القرى القريبة. وتمثل تينك، في أحسن الأحوال بدايات أو مجتزآت مراسيم وطقوس وتقاليد دينية أو روحية تم تناقلها وتوارثها للحصول على البركة أو السلامة في الطريق، من بقايا الميثولوجيا ومظاهرها القديمة. ولذلك نجد ان لآلهة ارض كنعان [ايل، بعل، هنيبعل] وطقوسهم وعباداتهم حضورا رئيسا ومتصلا في اللاهوت والعبادة العبرانية بعد ظهور موسى وعصر القضاة والملوك حى ظهور السيد المسيح. لقد استخدمت حتى الان مفردة العبرانيين في الاشارة لبني اسرائيل، وذلك بحسب التوصيف العراقي الشعبي للعبريين والتي ألمح اليها المؤرخ جواد علي [1907- 1987م] في القرابة والتصحيف من لفظتي [عبري/ عربي] بتبادل موقعي العين والراء. و(عابر) هو عابر ابن شالح ابن ارفكشاد ابن سام ابن نوح ابن لامك ابن متوشالح ابن اخنوخ/ (ادريس) ابن يارد ابن مهللئيل ابن قينان ابن انوش ابن شيث ابن ادم/ (تك 10، 5، 3). اي الجيل الرابع عشر بعد ادم. ويولد للجد عابر ابنان: احدهما (فالج) ومعناه (انقسام)، والآخر (يقطان). وفي عهد (فالج) تنقسم الأرض أو البشرية، ومنها نسبة (الفالوجة) على نهر الفرات، والتي شهدت أعنف قتال وأطوله تحت الاحتلال الأخير، وحظت بأكبر كمية من المتفجرات والأسلحة الممنوعة الدولية، وما زالت تشهد أغرب الولادات وأكثر الأجنة تشوّها، بما يضاهي ضحايا فيروس السيدا الامريكي في البرازيل. وبحسب نظرية الاصوات/ فونيكس تقرأ (فالج)= [فالخ، فالاش] ايضا بحسب اللهجات واللغات المتفرعة.

ويحيل جواد علي كلمة [عبري/ عبراني] الى عبور الفران، ويحيل غيره على عبور البحر الاحمر في الخرج من مصر، أو عبور نهر الاردن في الاجتياز نحو القدس بقيادة يوشع بن نون. أما ابراهيم ابو العبرانيين فنسبه يكون: ابرام بن تارح ابن ناحور ابن سروج ابن رعو ابن فالج ابن عابر ابن شالح ابن ارفكشاد ابن سام ابن نوح/ (تك 11). والمجموع عشرة اجيال بين ابراهيم ونوح، يقع (عابر) في نقطة المنتصف.

وبهذا تحاشيتُ تسويغ صفة (اليهودية) على عهد ما قبل موسى وسيناء، لما أفترضُه من دقّة المصطلح وحصر الدلالة. فلا أعتبر بني يعقوب في مصر يهودا، ولا ما قبلها، وأن اليهودية، ديانةً وتشريعاً وما تتضمّنه من تغيير اسم الإله والزعامة الموسوية، لا توجد قبل مرحلة سيناء، بل لا توجد حتى ما بعد وصول العبرانيين الى فلسطين بقيادة يوشع بن نون، حيث يموت الشعب الخارج من مصر، ويعقبهم جيل الابناء المولودين في سيناء وهم يدخلون الى كنعان. ويموت موسى وهَرون ايضا فلا يصل من عائلة عمرام أحد اطلاقا. فتنتهي النبوّة والكهانة السينائية في صحراء، ويعقب جيل جديد من أبناء لاوي يشكلون مرحلة القضاة في نمط من الحكم القبلي في غرب نهر الاردن.

 

(4)

موسى.. إشكالية الزعامة..

"وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم، فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته. فالتفت إلى هنا وهناك ورأى أن ليس أحد، فقتل المصري وطمره في الرمل. ثم خرج في اليوم الثاني وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان، فقال للمذنب: لماذا تضرب صاحبك. فقال: من جعلك رئيسا وقاضيا علينا؟ أمفتكر أنت بقتلي كما قتلت المصري؟. فخاف موسى وقال: حقا قد عرف الأمر. فسمع فرعون هذا الأمر، فطلب أن يقتل موسى. فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في أرض مديان."-(سفر الخروج 2: 11- 15).

من/ ما الذي جعل موسى قاضيا/ حاكما على العبرانيين والمصريين؟.. سؤالٌ حريٌّ بالجواب، وليس الغفلة والاهمال!. من منحه السلطة في نظام سياسي مستقر وراسخ، ولا مكان فيه للتصرفات والسلوكيات العشوائية الفوضوية والخارجة عن سلطة الدولة؟.. لقد فات الكاتب العبراني التقديم لشخصية موسى وتمهيد رسم مكانته وتبرير ما يمكن ان يصدر عنه في المجال العام. والرد الحاضر في النص (من جعلك قاضيا..) واضح جدا، والقضاء أو التحكم والحكم بين الناس هو مدخل للتسلط عليهم وادعاء أبواب الزعامة. فمن جعله زعيما على القوم، أو رسمه رئيسا لمنطقة أو مدينة أو جماعة من البشر، غير نزعة التسلط والاستعداء. وبدل الارتداع وتقديم مبرر منطقي مقنع لسلوكه، يهرب ويعود مرة اخرى لتكرار فعلته، ويتكرر الرفض الاجتماعي والعام لكل من سلوكه وشخصه معا.

السلوك المرسوم في النص قريب مما يوصف بالشقاوة والبلطجة، وكان عليه الصمود للمواجهة والدفاع عن سلوكه وتقعيد سلطته امام مجموعة صغيرة، تمهيدا لتوسيع دائرة قبوله. لكنه صدر في سلوكه عن نزعة نفسية اجتماعية مصحوبة بالجبن والخوف من المواجهة والمجادلة والمقاومة. وبحسب تخريجات علم نفس السلوك فهو يمثل شخصية انطوائية ضعيفة اجتماعية، وتخشى المواجهة والتداول المباشر في المجال العام. ولذلك سوف يقوم بخطوتين على قدر من الاهمية والملاحظة:

أولا: الاستعانة بقوة علوية خارقة يحصل منها على قوة وسلطة مطلقة.

ثانيا: الاستعانة بشخص لبق/ (ناطق رسمي)، يختفي وراءه ويسوق أفكاره وحاجاته للشعب. والنص الكتابي وجيز ومعبر "يكون لك فما، وأنت تكون له إلها!"-(خر 4: 16)، فإله خفي، غير منظور، يتعامل من وراء حجاب، والنائب عنه هو النبي أو الكاهن والمساعد الشخصي.

وفي النص الكتابي وصفٌ للجانب النفسي/ الانطوائي لشخصية موسى، غير الملائم لرغباته وتطلُّعه للزعامة (المجانية): "فقال موسى للرب: استمع أيها السيد، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان، فقال له الرب: من صنع للإنسان فماً؟ أو من يصنع أخرسَ أو أصمَّ أو بصيراً أو أعمى؟ أما هو أنا الرب، فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به. فقال: استمع أيها السيد، أرسل بيد من ترسل. فحمي غضبُ الرب على موسى وقال: أليس هارون اللاوي أخاك؟ أنا أعلم أنه هو يتكلم، وأيضا ها هو خارج لاستقبالك. فحينما يراك يفرح بقلبه. فتكلمه وتضع الكلمات في فمه، وأنا أكون مع فمك ومع فمه، وأعلمكما ماذا تصنعان، وهو يكلم الشعب عنك. وهو يكون لك فما، وأنت تكون له إلها، وتأخذ في يدك هذه العصا التي تصنع بها الآيات." – (خر 4: 10- 17).

هاته الشخصية الانطوائية الخجولة الضعيفة الحضور والمنطق، وغير المعترف بها في المحيط العائلي، تتولد فيها هرمونات العظمة والتمرُّد والتسلُّط، على العائلة والمجتمع والفرعون الذي تربّى في بلاطه. وكما يفعل المعارضون السياسيون الفاشلون، والمفتقدون للأهلية والمصداقية الشعبية، فيهربون للخارج، ويستجدون العون والحماية من الحكومات الاجنبية والقوى المعادية. نفس هذا السيناريو والمنطق العصراني يحضر، في قصة هروب موسى الى مديان، وبقية خيوط القصة.

المؤرخ العلماني يقدم رؤية أكثر احتمالا، وان عدمت الأسانيد الداعمة، فحواها، ان الطفل الناشئ في البلاط والمتعلم بالعلوم والمعارف والحكمة المصرية في أعلى مراقيها، كان له مركز اداري كبير في المملكة، وانه عمل قائدا عسكريا لإخماد التمرّدات في الجنوب، وربما كان قائدا وحاكما لمصر السفلى، قبل أن يحدث ما يوقع بينه وبين الفرعون فيفرّ هاربا الى صحراء سيناء، ومنها سوف يعود مزوَّدا بالنصرة والذريعة للاقتصاص من الفرعون. فالمسافة بين الزّعم السياسي والدين السياسي هي شعرة، وأفضل ما يؤكّدها ما يجري في ايامنا، من اختلاط الامور والخيوط بين الاطماع السياسي والدعاوى الدينية، والمجتمعة كلها حول محور التسلط والتحكم والابتزاز، سيان كانت الدعاوى علمانية أم دينية.

مما سبق نستنبط عنصرين رئيسين وأساسيين سوف يخدمان القضية الموسوية: احدهما هي نزعة التسلط والقيادة – من جعلك قاضيا علينا-، والثانية: هي الخلفية الاماكية والتربية العسكرية لشخصية موسى المرجحة من مصادر أخرى.

ومن اجتماع هذين العنصرين سوف تتم صياغة ملامح وسمات ورؤى الشخصية الأسطورية الأسطورية/ الغيبية الخارقة/ (يهوه) التي سوف تقود المنازلة من فوق لتحقيق الزعامة الموسوية وترسيخها – جيلا بعد جيل-. وقد سبق أن ألمحت الى العناصر الفنية لبناء الأسطورة وشخصية البطل الملحمي المتجسدة في سفر الخروج وترجيعاتها في بطل معركة هرمجدون الانجيلية (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي)، والملامح العسكرية لشخصية الله القرآنية، ذات الصلة المباشرة بشخصية [يهوه: رب الجنود] الموسوية السينائية.

لكن موسى، بعد الجهد الجهيد والمضني، بحسب السرد التوراتي، يفشل في اكتساب المقبولية والمصداقية من لدن العبرانيين، كما يفشل في تسويق وتثبيت عبادة (يهوه) الها وحيدا على الكل وبلا شريك، فيجري استبدإله بشخصية يوشع بن نون المدياني الأكثر جدارة وأهلية للقيادة العسكرية والمواجهة الاقتحامية. وتنتهي قصة موسى – الى مجهولية وعدم- كما ابتدأت – من مجهولة وعدم-.

وسوف تتراجع وتغيب شخصية يهوه مع خروج العبرانيين من سيناء، وانتقال جغرافيا السرد الى مرحلة سياسية وحضارية جديدة، اكثر صلة بالمدنية الكنعانية، وبالعود المحمود الى شخصية (ايل) ابي ابراهيم واسحاق ويعقوب، بدء من حكم القضاة ونشأة المملكة.

وأقصى أمانيّ (يهوه) أن يتحول الى رمز شعري بطولي في أناشيد داود بن يسي ومزاميره التي تكاد الاكثر احتفاء به وترديدا لاسمه، دون ان يغيب عن القارئ الكريم، ملامح الشخصية البطولية والقائد العسكرية المتصلة بشخصية داود الملك والنبي والقائد. بل أن (داود بن يسي) وليس (موسى بن عمرام) سوف يكون الزعيم القومي لبني اسرائيل بمضاهاة الزعيم الروحي (ابراهيم بن تارح بن ناحور)، كما يترسّخ في أسفار الانبياء. وسوف تجتمع في شخصية داود كل ملامح البطولة الأسطورية والملحمة الدينية، فهو الراعي والملك، قائد الجند والزعيم السياسي، النبي وفادي شعبه، وقصب ملكه لا يزول للأبد. وفي مماحكة الفريسيين مع يسوع المسيح، يقدمون أنفسهم بأنهم أولاد ابراهيم، وابناء داود، وما زالت هاتان الشخصيتان الأكثر مركزية وحضورا في الفكر والتراث العبراني والشرق أوسطي عامة.

 

(5)

يهوه هو اسم إله العبرانيين القومي والشخصي، وهو المحدد لفظا في المزامير والاناشيد والتسابيح الدينية قبل ترجمته بأسماء الآلهة القومية بحسب اللغات، ليكون (الله) بالعربية، و(god) في اللغة الانجليزية، و(gott) في اللغة الالمانية، و(خدا) في اللغات الفارسية والكردية واليزدية وغيرها. ولعل منظمة شهود يهوه، هي الجهة الرسمية العالمية الوحيدة التي اعترضت على حذف اسم (يهوه) من الكتاب المقدس، والذي تكرر فيه سبعة آلاف مرة، واستبداله بتسميات – خاطئة- بحسبهم مما يُعَدُّ تزويرا وتحريفا، عند الدعاء باسم غير اسم (يهوه) إلها وسيدا أبديا.

هل يهوه هو إله سفر التكوين؟..

لنفترض انه لم يكن ثمة سفر الخروج في كتب التوراة!..

لنفترض عدم وجود/ ظهور شخصية موسى وقصته التي لا تخلو من غرابة وإشكالية*!..

في النسخ الأصلية من سفر التكوين المكتوبة بلغة العبرانيين القديمة/ البابلية تواترت لفظتان كناية عن الإله، هما [السيد، الوهيم]. ونعرف من قصة ابرام* في أرض الكنعانين أنه أقام مذبحا/(تك 12: 7) للإله (ايل) – في بيت ايل-، وفيه تبعه أبناؤه اسحق ويعقوب والأسباط جميعا حتى انتقال ذرية يعقوب الى مصر. ولابد ان للمصريين إلها/ آلهة غير آلهة الكنعانيين. وكان لكل قوم وبلاد واحيانا للمدينة إلهٌ خاصّ. وعند العودة لبداية ظهور الآلهة وتواريخ تطورها وحركتها في أرض الرافدين، يكون لبعض العوائل أو الاشخاص (إله شخصي) الى جانب إله المدينة والبلد والمملكة.

بعبارة أخرى، ان مغزى الآلهة القديمة هي الحماية والشفاعة. ومن حق كل شخص أو جماعة ان يكون لهم (روح حماية) تحيط بهم أو بأرضهم أو بقومهم. وما زالت هاته الفكرة موجودة قائمة تحت مسميات ومداليل وأطر، منها الملاك الحارس أو الروح المتشفعة، أو القديس الساكن في المكان، أو الشيخ الصالح في بلداننا. فالملاك أو الروح الخيرة أو القديس والشيخ المبرور يتشفّع لهاته المنطقة الساكن هو فيها، ويحمي اهلها وأجواءها من أي مكروه. وبالمقابل على الناس تكريمه وتقديم الهدايا والقرابين باسمه، والاحتفاء به وبطقوسه في مواعيد ومناسبا. وقد سمعت هاته الفكرة عن بلاد سورية أو دمشق تحديدا التي لم يلحق بها تيمورلنك ما الحق هولاكو ببغداد، وسامح أهلها، نتيجة شفاعة القديسين. لكن الحرب الاهلية السورية [2011- 2016] نسفت تلك الفكرة ايضا.

(ايل) هو إله سفر التكوين، وهو إله ابراهيم واسحق ويعقوب والاسباط، هو الذي اخرج ابرام من اور الكنعانيين الى حاران ومنها الى ارض المكفيلة/ نابلس ثم جنوبا نحو سيناء. وهذا ينفي ان يكون يهوه إله سفر التكوين، وبالتالي، لا يصح القول ان يهوه هو إله ابراهيم واسحق ويعقوب كما يتردد في سفر الخروج تحت عبارة شائعة وديباجة تكرترية – حسب تقاليد الكتابة/ الوعظ الكهنوتية- على مدى اسفار الكتاب المقدس هي: إله آبائك وأجدادك، إله ابراهيم واسحق ويعقوب!.

وأرى ان الأمانة الأدبية، الإلهية والروحية، تمنع الخلط بين الاثنين، واعتبار ايٍّ منهما اسما للثاني أو عوضا عنه، كما يجري في قصص الميثولووجيا التي تتصارع فيها الآلهة ويحلّ الجديد محلَّ السابق. ومنه ان الفكر المسيحي العام، يجعل يسوع المسيح/ الإله المتجسد هو نفسه (يهوه المتجسد). وهنا يقتضي التنويه، ان اللاهوتي المصري الراحل متى المسكين، نفى ان المسيح هو يهوه المتجسد، ولكنه يقول ان يسوع المسيح يعادله ويحل محله!.

عندما يتأخر موسى فوق الجبل، يدعو العبرانيون هارون بن عمرام – شقيق موسى- ان يعمل لهم العجل الذهبي المقدس ثم يبني له مذبحا وتقام عنده وله طقوس العبادة ومراسيم الاحتفال. ويكشف سياق القصة ان بني اسرائيل لم يعترفوا بيهوه وتمردوا على وصاياه واوامره، ولاموا موسى على اخراجهم من أرض مصر المدنية الرخية الى حياة البداوة والسحت والخيام المقرورة اربعين عاما. فيهوه لم يحصل على اقرار فرعون رغم كل بطولاته وبهلوانياته، ولم يستطع اقناع العبرانيين بألوهته، رغم تهديداته ووعيده وممارساته الدموية، التي دفعت سبط لاوي لتقتيل وبتر كل من لا يسجد ليهوه قهرا وبطشا.

وفي النتيجة ان العبرانيين الذين اخرجوا من مصر هلكوا بحسب أوامر ولعنات يهوه. وموسى نفسه هلك في سيناء ولم يترك له اثر، وهو نبي يهوه. مما يدل بشكل مباشر أو غير مباشر على فشله في نوال حظوة يهوه، وربما فقد ايمانه به شخصيا. وبموت موسى هلك يهود مصر من الجيل الاول واختفى الكاهن يثرون وصفورة زوجة موسى وأبناؤها، وينسدل الستار على كل قصة يهوه وموسى ومديان واساطير سيناء.

اما الذي يبقى فهو يوشع بن نون، وهو شاب مدياني – ليس من العبرانيين- كان خادما، رفيقا، معينا لموسى في البرية، يقود الجيل الجديد من العبرانيين المولودين في صحراء سيناء الى أرض فلسطين حسب الموعد الذي قطعه (ايل) لأبرام وذريته.

ويذكر ان الاسفار الثلاثة التالية من التوراة – بعد التكوين والخروج- وهي: [لاوي/ عدد، تثنية] هي تابعة لسفر الخروج وملحقة بسفر الخروج وتعاليم موسى حول العقيدة والتعليمات والتقاليد والطقوس الملزمة لديمومة العقيدة عبر الاجيال، وألخّصها باسم "الكتابات السينائية الموسوية". وتُنسب كتابتها الى شخصية الكاتب العبراني نقلا عن التراث الشفاهي المتناقل بيد الكهنة والاحبار، وانما اطلق عليه (اسفار موسى) نسبة وترجيحا، وهو اسلوب متَّبع معروف في التدوين الديني لمنحه المصداقية والاقناع.

 

(6)

بين (ايل) و(يهوه)..

جغرافيا: إيل هو إله ارض الشام/ كنعان؛

بينما يهوه هو إله شبه جزيرة سيناء/ صحراء سيناء/ شعب مديان.

انثروبولوجيا: الشام هي ارض زراعية وفيرة المياه – تفيض لبنا وعسلا-، وهي بؤرة حضارية متصلة بحضارات الرافدين والنيل واسيا الصغرى واليونان، وامتداد لخط حركة القوافل التجارية من اليمن ومصر نحو روما والهند. وللشام الكنعانية والفينيقية صلة بتطور الابجدية ومظاهر المدنية والتحول من البداوة والصيد والالتقاط الى مرحلة الجمع والخزن والتجفيف والزراعة.

على الجانب المقابل، سيناء هي صحراء قاحلة يحيط بها البحر من ثلاث جهات، ولا يصلح ماء البحر للاستهلاك البشري او الزراعي وتلطيف الطقس والمناخ. ويعتمد سكان سيناء على حفر الآبار بصورة رئيسة، حيث يغتذّى منها السكان وقطعانهم لينجوا من الهلاك. والبيئة الصحراوية عامة شحيحة الامطار، وهي إن امطرت، فلا فائدة منه للارض الرملية الميتة غير الصالحة للزراعة.

المدنية والحضارة واعتماد الحرف اليدوية والانتاج البشري هي الصفة العامة للمجتمعات الزراعية والمدينية التجارية، وما يترتب عليه من تطور أنظمة العلاقات العامة بين الافراد والجماعات ومصادر الانتاج والنفوذ. وقد علمنا بمركزية موقع الشام التجاري* بين اليمن وآسيا الصغرى وبين مصر واليمن وروما. وهذا يعني تيسُّر فرص التلاقح الحضاري والتبادل الثقافي والتعددية اللغوية والتعرف الى عادات وتقاليد وثقافات الشرق والغرب واطراف المعمورة.

الطابع العام لحياة الصحراء هو البداوة، اي عدم الاستقرار في أي شيء. واعتياد التنقل المستمر، حسب تيسر احتمالات المعيشة والماء والمراعي، فتتكون الجماعات البشرية من أعداد قليلة لسهولة التنقل وكفاية مواد المعيشة، ولا تنشأ مستوطنات أو قرى أو مدن كبيرة أو مستقرة، ألا لاغراض تجارية (خانات) أو سياسية، لحل الخلافات، أو الثواء فيها في فصل الشتاء. وتنعكس ظروف البيئة والمعيشة على طباع الافراد وامزجتهم وانظمة العلاقات العامة والمستوى الثقافي وعدم نضوج الفكر السياسي والاجتماع القبلي.

بناء على كل ما سبق، وباعتبار (الدين) ظاهرة اجتماعية حضارية، تتأثر وتنعكس من التماحك الثقافي ودرجة الوعي الاجتماعي، يختلف الدين باختلاف البيئة الحضارية والاجتماعية، من مكان وقوم لغيرهما. فـ(الدين المديني) غير (الدين الصحراوي)، و(الدين الحضاري) – بحسب البيئة-، غير (الدين البدوي) – بحسب طراز المعيشة-. ومن هذا المنظور، يتفاوت الفكر الديني بين ارض الشام، وبين صحراء سيناء. بين شخصية وطبيعة (ايل)، مقارنة بشخصية وطبيعة (يهوه). وعلى الصعيد الثقافي، - من هنا- أهمية اعتماد الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع الديني، لفهم الظاهرة الدينية، بحسب ظروفها الزمكانية، للتوفر على فهم علمي صحيح وموضوعي.

من هذا المنظور، يظهر (ايل) – حسب سفر التكوين- معنيا جدا بالمعيار الاخلاقي والالتزام. ومطالبته بالالتزام تقابل التزامه هو شخصيا. عدم الالتزام كان وراء معاقبة العائلة الاولى وطردها من محضره. والظلم كان سبب معاقبة قايين الذي قتل اخاه. والفساد الخلقي كان سبب معاقبة ارض سدوم، وانحياز البشر للشر سبب اغراقهم بالطوفان. فالاخلاق، كمبدأ شخصي ونظام اجتماعي في سياق العلاقات العامة لحفظ السلم والتعاطف والتكافل هو هدف إيل من الوجود ووصاياه الملزمة لبني الإنسان. (ايل) ايضا يحب النظام والاستقامة والترتيب وتوزيع الاعمال وتقسيم الاوقات كما يبدو من الاصحاح الاول لسفر التكوين.

يهوه بالمقابل يميل للفظاظة والعنف الدموي والفناء والتدمير والتعميم والفوضى والنرجسية المكلفة. وهو يفعل كل شيء من اجل نفسه، ومع كل عبارة يردد يقول: (لكي) – يعرفوا أنا يهوه إلههم-.! فالنزعة النرجسية والمزاج الدموي، والارتضاء بالدم- يرى الدم على الابواب فيعبر.. كلها صفات تناسب طباع صحراوية جافة غير مرنة، لا ترى غير نفسها في مدى الصحراء، وتعتبر الرحمة والعطف ضعفا وخوارا.

عندما يأمر بهلاك بني اسرائيل واستبدالهم بذرية موسى، يظهر موسى أكثر إنسانية ومروءة من يهوه، ليقنعه بتأجيل غضبه. فيما يفتخر يهوه بغضبه المحتدم على الشعب: (غيرتي نارٌ آكلة!).

(ايل)، طوال سفر التكوين كان يتعامل عن بعد، او بوساطة ملاك، ولم يره أحد أو يقترب منه. أما يهوه فقد تعامل بواسطة ملاك، او بشخصه مباشرة – وجها لوجه- مع موسى – كما يتكلم إنسان مع صاحبه-. فهو يمر وسط مصر أو يتقدم العبرانيين، أو يحارب نيابة عنهم، متجسدا في صور: [نار، نور، سحاب].

لكن هاته ليست كل الصورة. فقد تسبب (ايل) المتحضر بالابادة الجماعية مرتين" في الطوفان، وقلب سدوم. وهو لا يخلو من عنف وقسوة، حين أمر بطرد سبعة شعوب من أراضيهم/(تك 15: 18- 21)، ومنح بلادهم لذرية ابراهيم من اسحق (نسل الوعد وأرض الموعد). فقد تختلف الاهداف والمبررات، ولكن النتائج متقاربة، والعنف والتسلط نفسه. ففكرة الالوهة التقليدية - عموما- لا تخلو من التسلط والعبودية.

وقد يقول قائل، في مجال تقارب إيل ويهوه،-وربما-، -تطابقهما-، ان الاثنين أمرا بفريضة السبت، وعنيا ببني اسرائيل، ودعيا نفسيهما، ارباب ابراهيم واسحق ويعقوب. ان إيل نفسه، هو الذي احتدم بفعل اختلاف الظروف وجبروت فرعون وشدته على شعب اسرائيل المختار. إيل نفسه أمر بمعاقبة وهلاك وتشريد عدة شعوب من اراضيها ومواطنها، بأطفالها ونسائها وفقرائها وأراملها وماشياتها، من اجل عيون بني اسرائيل، فليس يهوه الوحيد في معاقبة المصريين لنفس الغرض. مثل هذا الاحتجاج يتخذه المنادون بالتوحيد، وان إيل ويهوه ويسوع المسيح والله وغيرها من المسميات تشير لشخص الإله نفسه.

ان فكرة الترجمات المتعددة وغياب النسخة الاصلية يضعف الدراسة النقدية أو التاريخية الفكرية. فثمة نسخ يدخل فيها اسم يهوه في سفر التكوين، فيضعف استناجنا السابق بربط ظهور يهوه بسيناء وسفر الخروج. لكن علماء الكتاب المقدس ونقاده وقفوا على ورود ثلاثة مسميات للرب الاله، هي ايل، ايلوهيم، يهوه، ونسبوا الاختلاف الى تعددية الثقافات والجماعات القومية التي اختلط بها بنو اسرائيل وتأثروا بها وأخذوا منها. وهذا الاختلاف الذي رصده النقاد منذ عصر النهضة، ركز على الاصحاح الاول من سفر التكوين، مرة، والاصحاحات الثلاثة الاولى منه في مرة أخرى. اعتبر البعض ان يهوه هو الابن، واعتبره البعض الإله الاب ليكون (أدوناي) هو الابن، كما في مزمور لداود. وهي المرحلة التي ظهرت فيها فكرة ابن الاله، او الإله الابن في القرن العاشر قبل الميلاد. والواضح ان داود صاحب المزامير والملك الثاني أو الاعظم والزعيم القومي لبني اسرائيل، هو الذي ساوى يهوه مع الوهيم ووصفه بصانع السموات والارض، ومثبت الجبال والشمس وموزع النجوم ومسير الرياح في مزاميره. وداود، على غرار موسى، هو مؤسّس ومهندس الجو التعبّدي ومراسيم التسبيح والإنشاد الديني داخل المعبد. ومكانته في المجتمع والعقيدة العبرانية تفوق موسى نفسه. لانه هو عمود بني اسرائيل وقضيب ملكه ليس له نهاية، والتي يعتبرها الفكر المسيحي اشارة مسبقة لليسوع والملك المسيحي الابدي.

تعدُّدُ الخلافات مرجعُه تعدُّدُ النصوص والنسخ، واختلاف المرجعيات الدينية والعلمية، الشرقية والغربية. وكل ذينك الجدل، يصب في الاخير لخدمة شيوخ الدين ودعاة التوحيد، والتغافل عن الخلافات والاختلافات النصية والفكرية داخل الكتاب المقدس. والفكر السائد لليوم، ان إيل والوهيم ويهوه ويسوع الناصري والله لا خلاف ولا اختلاف، ظاهري أو باطني، فكري أو ديني بينها- وعلى المؤمن التسليم بالجوهر والتعليم الديني.

 

(7)

يهوه ومديان وكاهن يثرون..

كان موسى راعيا عند كاهن يثرون من شعب مدين، وقد تزوج بنته صفورة وانجب منها ولدين: جرشوم ومعناه – غريب-، والعازر، ومعناه – معين-. وخلال عمله في الرعي في البرية شاهد العليقة تشبُّ فيها النار وهي لا تحترق، وسمع صوتا من الجبل يحدثه ويأمره بالعودة الى مصر. [قارن: قصة زواج موسى من بنت كاهن يثرون، تناظر قصة زواج يوسف من بنت فوطي كاهن أون المصري؛ وكل منهما يولد له ولدان، والاثنان كذلك، يدعى بكره جرشوم – ومعناه غريب لانه في ارض غريبة، والثاني العازر بمعنى معين؛ وبكر يوسف يدعى منسى- ومعنا الذي ينسى آلام الماضي، والثاني افرايم بمعنى يزدهر ويتضاعف؛ يوسف هو سبب دخول العبرانيين الى مصر، وموسى هو سبب خروجهم من ارض مصر. وكلتا القصتان لهما تناظرات في التراث العراقي القديم ايضا/ الاكدي والبابلي تحديدا] والسؤال الذي يخطر هنا ما علاقة تينك الامور ببرية مديان، وما الخيط السري بين موسى الراعي والكاهن [يثرون/ رعوئيل]؟.

شخصية الكاهن اقترنت بالفوارز الرئيسة في التاريخ العبراني، بدءاً بابرام ودفعه العشور لملكي صادق ملك ساليم (ملك السلام)، وقصة يوسف مع فوطي كاهن مصر الذي تزوج بنته اسنات، وانجب منها ولدين: منسى وافرام. وقصة موسى مع كاهن يثرون المدياني والذي ايضا يتزوج بنته كما سبق. وفي كل الحالات، ثمة صلة وشيجة وتوقير كبير بين ابرام وملكي صادق وبين يوسف وحميه، وبين موسى وحميه. ملكي صادق هو الذي بارك ابرام/ ابراهيم وتبعه في عبادة إيل وتقديم القرابين له والعشور للكاهن. وقد تبارك يوسف باسنات وابيها رغم اختزال الذكر. وكذلك كان كاهن يثرون مصدر بركة وقوة ورأس مشورة ووصايا لموسى الغريب في وسطهم. هاته المفصلية الكهنوتية الملغّزة تتكرر ايضا في قصة يسوع المسيح مع يوحنا المعمدان بن زكريا الكاهن، وفي قصة محمد بن عبدالله مع ورقة بن نوفل الكاهن واسقف مكة الذي يزوجه بنت اخيه خديجة بنت خويلد الاسدي. فالمصاهرة، لعبت ولما تزل تلعب، دورا محفزا في سير الزعامة السياسية والدينية والقبلية، مما يقتضي وقفة خاصة مع دور المرأة في الصيرورة التاريخية وعلم الاجتماع السياسي.

يثرون الكائن أو رعوئيل كما يرد ايضا، من هو الهه، وما طبيعة ديانته وعقيدته؟.. لقد قدّم يثرون لموسى نصائح حول تنظيم الادارة وتوزيع المشورة، واقترح عليه الفصل بين القضايا العامة والقضايا الخاصة والشائكة، وتعيين سبعين شيخا يكونون قضاة للشعب ورأس هرم قضائي استشاري، سوف يتولى الحكم لاحقا، مستهلا العهد السياسي في ارض كنعان. وكان موسى يجتمع بحميه داخل الخيمة في معزل عن الشعب، تماما كما كان يجتمع مع يهوه وظل سحاب يخيم عليها لاحقا. ان (يثرون) هو المستر(X) المخطط والمحرك لشخصية موسى ومصدر إلهامه الأفكارَ والسُّبلَ وتحديد الأوقات المناسبة. وبموت موسى يختفي الكاهن وبنته ايضا. والملاحظ ان اسم يثرون لم يرد بتاتا في العلاقة مع هَرون أو يوشع أو اي شخصية غير موسى حصرا. وهذا ينطبق من جهة مقابلة، على التعامل المباشر بين يهوه وموسى حصريا، وبموت موسى، لا يرد تعامل ليهوه مع احد، ما عدا عبارات قاتل الرب ليوشع التكرارية. وهذا يجعل يثرون الكاهن، ويهوه، على مستوى أو غرار متقارب، من زوايا عدة، في الصلة الحصرية بشخصية موسى وحياته، لا غير.

واضح ان يثرون كان شاهدا ومشرفا على كل نشاط موسى وتحركاته، ولم يشر الكتاب لذلك بوضوح. ولكنه لا يختزل دوره، وبالتالي، ربما اختزل حجمه.

هاته المفصلية التاريخية الملغّزة، تتعلق بها فقرة اخرى، وكأنها تأتي من مصدر غيبي بعيد، ليست في حقيقتها غير كتاب موسى السادس الذي استقاه هو الآخر من حياته في مديان، وهي (سفر ايوب).

سفر ايوب في درج الكتاب المقدس/ التناخ، مستقل بذاته، ومدرج ضمن – أول- الاسفار الشعرية التي منها المزامير والامثال والجامعة ونشيد الانشاد. وحتى حين لم يذكر مصدر السفر وعلاقته ببني اسرائيل. فايوب تاريخيا هو معاصر لابراهيم مع اختلاف المكان، وربما تفاوتا قليلا في الزمن. لكن ابراهيم لا يذكره، اي سفر التكوين – والمعتقد بحسب بعض المصادر ان كاتبه هو يوسف بن يعقوب، وليس موسى كما يشاع-. وجماعة يهوه هي الوحيدة التي اقرت ان سفر ايوب من كتب موسى السينائية، وانها الكتاب السادس ضمن التوراة. معناه،/ ان موسى تلقّن سفر ايوب من حميه كاهن يثرون، وربما من زوجته صفورة بنت رعوئيل الكاهن. وانه سجله لاهميته وقوته وبلاغته، وما يزال، لدى الاكثرية، يعتبر اعمق الأسفار فكرا واكثرها بلاغة وشعرية وجرأة ووضوحا. وفي الأدبيات العربية الاسلامية يرد ان (شعيب) هو نبي (مدين)، فهل يكون شعيب هو اسم – عربي- للكاهن يثرون؟.. أم هو اسم آخر للنبي (أيوب)؟.. ان عناصر التحقيق العلمي والتأصيل التاريخي غائبة في النص والمصطلح الديني، ذي الاصول والتقاليد الشفاهية والشعبية، مما يعسّر مهمة الفرز والتحقيق والتشخيص.

هذا يقود للسؤال: من هو إله ايوب؟.. من هو إله يثرون، ومديان؟..

الاجابة على هاته الاسئلة تساعد في كشف حقيقة ومصدر ألوهة يهوه؟..

 

(8)

مركزية العنف..

قصة حياة موسى منذ مولده تبدأ بفكرة القتل. قتل البكور في ارض مصر من بني العبرانيات-(خر 1: 16). وعندما يكبر موسى ويخرج للسوق يقتل مصريا رآه يتشاجر مع عبراني-(خلا 2: 12). وفي اليوم التالي يتدخل للقضاء بين شخصين من بني جلدته، فيتهمانه بالقتل-(خر 2: 14). من هاته البداية العنفية، وحكاية قاتل هارب تبدأ تفاصيل بطولة موسى ابن عمرام. عند البئر في سيناء، حيث ينتظر التعرف للقوم، يستقي لبنات رعوئيل، وعندما يتزاحم الرعاة على البئر، يقوم موسى بطردهم جميعا-(خر 2: 17)، فتصف البنات فعال الرجل الغريب لأبيهن، ويأمر الأب بوفادته وإكرامه ويجعله راعيا لغنمه وزوجا لبنته-(خر 2: 21).

لا تذكر سيرة موسى الكتابية انه كان بطلا أو مصارعا مثل شمشون، ولكن خيوط الاحداث تكشف عن قوة جسدية غير عادية عند الرجل، وربما اكتسب مهارة قتالية ولياقة بدنية رياضية من تربيته الملكية في أسرة الفرعون.

ثمة تاريخ غير ديني يجعل موسى أميرا فرعونيا، يتولّى قيادة الجيش في الجنوب، ويكون مبرزا بين قادة فرعون، ولسبب ما يهرب موسى من وجه فرعون وقبضته، ولا يعود لحياة القصر، مفضلا عليها حياة البداوة والصحراء الجافة. هل كان موسى في السودان، حاكما عسكريا أو قائد حروب ومعارك طاحنة، ولم لم يهرب إذن للساحل الافريقي او وسطها عند الشلالات ويجعل له امارة أو مملكة هناك بعيدا عن فرعون.

تختلف السياقات ولكن جوهر القصة البطولي الأسطوري يبقى حاضرا. ومن الحضور الأسطوري البطولي تتطور فكرة ألوهة يهوه الذي ينصبُّ شغله وغضبه على فرعون، غريم موسى القديم. ان يهوه جاء لينتقم لموسى ممن دفعه للهروب والتشرد والغربة، وفقدان المجد والعز وحياة الترف والسيادة. والمفروض ان موسى يستعيد شيئا من مجده السابق بمساعدة يهوه، وثمة نص يطلب فيه موسى رؤية مجد يهوه. فيأتي الرد عنيفا ومباشرا. مجدي لا اعطيه لأحد. من يرى وجهي موتا يموت.

بالنتيجة، موسى الهارب لا يحصل على بغيته، ولا يرتوي بغير الانتقام المأمول الذي يعيد اليه مجده ومكانته. وتبقى الخطة فاشلة، رغم ملالة تفاصيلها، لذلك تنتهي حياة موسى ببرود ويموت دون ذكر او حفاوة او مجد كما جرى لسابقيه من ابراهيم حتى يوسف الذي جرى تحنيطه وتحيته قبل ان يدفن في مراسيم ملكية، تستغرق سبعين يوما.

موسى الذي ظهر من الماء، وهي قصةٌ سبق ورودها في قصيدة لسرجون الاكدي يصف فيها مولده من الأم المقدسة في قفة في الماء. والنص الاكدي الشعري موجود لليوم، وكانت المبادلات الاكدية الفرعونية شاخصة في عهود الفراعنة، ولابد ان الكاتب العبراني اطلع عليها أو موسى نفسه، ليزين بها ولادته الأسطورية المميزة عن حياة الناس العاديين، وهي صفة شائعة في تدبيج حياة الملوك والانبياء وتزويقها بخيوط الخوارق الطبيعية.

كل عنف يحيل على الصحراء.. والصحراء تحيل على البداوة..

والبداوة تحيل على الهمجية والشوفينية..

من الصحراء والبداوة ظهر (يهوه) والديانة الموسوية..

 

(9)

اسئلة الجغرافيا..

لماذا سيناء، برية سيناء، صحراء سين، لماذا لم يذهب موسى الى الصعيد، الى منابع النيل والحبشة.. لماذا اتجه شرقا، ولم يتجه غربا نحو صحراء ليبيا والجزائر؟.. مثل هذا الاسئلة الجدلية تقربنا خطوات لكشف مزيد من الضوء وراء خطوط وخيوط القصص التاريخية، وسبب نسجها بهذا النسق وليس غيره، وهل حاول المؤلف/ الكاتب الالتفاف على عوامل أو احداث معينة، وفي نفس المكان أو خلافه، من خلال التأكيد والتكرار والاختزال والاختصار والمبالغة التعبيرية التي هي صفة سائدة للخطاب الديني. ماذا لو ان حكام مصر طردوا العبرانيين تاريخيا، واعيدت صياغتها دينيا لخدمة غرضين، تأكيد فكرة الألوهة، والطعن في الشخصية المصرية؟.. ماذا لو ان حكام مصر اختلفوا فيما بينهم بشأن المهاجرين، واستتبع الموضوع تطورات تمّت أدلجتُها لصالح الفكر الديني والتاريخ القومي لاسرائيل؟..

"ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف"-(خر 1: 8). أمر يتم تحميله أكثر من حجمه الطبيعي، وذلك لصالح صورة أسطورية غير عادية لبني اسرائيل. وهو ما ينعت بالنزعة العنصرية في الفكر المعاصر. وليس من المحتمل/ الوارد ان يكون بنو يعقوب البداة المتنقلين وراء مواشيهم، ان يكونوا من ذوي – دم أزرق- ويتميزوا تفوقا على شعبِ أقدمِ وأرقى حضارةٍ وعمرانٍ مدني معروف في تاريخ البشرية. والتاريخ يؤكد ان العبرانيين تعلموا ونقلوا عن المصريين وليس العكس. وما زالت مصر تمثل سور حماية ووساطة شفاعية لاسرائيل، مما لا غنى لاسرائيل عن الدور المصري، فهل تكون كلمة الشكر والجميل على هذا المستوى من التزوير والفظاظة. وكأن مواليد العبرانيات يتهدد بلاط الفراعنة. بل ان ذلك البلاط الذي حكمه الاغارقة والهكسزس والاشوريون والعيلاميون والرومان، لم يتسن لعبراني واحد الاقتراب منه، الا لاجئا متذللا، أو جائعا طريدا يبتغي الامن. فالنفسية البدوية لا تتقبل لحظات ضعفها، لذلك تنقلب على محسنيها غدرا وقصاصا. لتحويل ذكرى الضعف الى ذكر القسوة والعدوان، فتكون دالة قوة في ذاكرتها القومية. ابجدية العنف والظلم، تفوز على ابجدية النبل والإنسانية المعتبرة ضعفا وخناثة في الثقافة البدوية. والمثل العربي الشائع (اتّقِ شرَّ من احسنت اليه!) ترجمان هذا السلوك البدوي، ويقول المتنبّي دفاعا عن الظلم وتبرير فخريا..

والظُّلْمُ مِن شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ   ذا عــفــــّــــةٍ،  فَـلِـعِــلـــَّـةِ لا يــَظْــلــــِــــــــمُ

وفي مزمور لداود نقله يسوع المسيح: (الأكل معي في صحني رفع عقيرته عليّ). بل لعلّ بعض المسالك التي أظهرها أفراد من موجة اللاجئين الاخيرة في الاتحاد الاوربي، وردود الافعال الوحشية، ترجيع لتلك العقلية والنفسية البدوية التي لم تنظفها القرون ومظاهر المدنيات المتعاقبة. وأحسب انها، بحسب الفكر الكتابي التوراتي نفسه: ترجيع لأزمة قايين النفسية: "قال قايين للرب: ذنبي أعظم من أن يحتمل، إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض، ومن وجهك أختفي وأكون تائها وهاربا في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني، فقال له الرب: لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنتَقَمُ منه. وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده"-(تك4: 13- 15). والنص يتكرر مع لامك: "وقال لامك لامرأتيه عادة وصلة: اسمعا قولي يا امرأتَي لامك، وأصغيا لكلامي. فإني قتلت رجلا لجرحي، وفتى لشدخي. إنه ينتقم لقايين سبعة أضعاف، وأما للامك فسبعة وسبعين"-(تك 4: 23- 24). . فالخطأ هنا يتم تبريره بمزيد من الظلم والخطأ، وبما يسمى اصطلاحا، الهروب للامام.

ثمة مصادر تشير الى عشر مدن للعبرانيين في مصر الفرعونية وليس مدينتين أو واحدة كما يسميها يوسف بن يعقوب. هي التي تم خروج العبرانيين منها، واهملت المدن الاخرى وسكانها في التاريخ الديني. وان خمسا من مدن العبرانيين كانت في جهة ليبيا أي غرب وادي النيل. وان يهود ليبيا والجزائر والمغرب استمروا في اراضيهم ومدنهم حتى التاريخ المعاصر. ويعترف مؤرخون يهود معاصرون بوجود اكبر جماعة يهودية في شمال افريقيا، ، لا يعرفون مدى صلتها بالاسرائيليين وكيفية وصولهم الى هناك.

التاريخ/ المؤرخ عادة، يمسك بخيط واحد وينسج عليه، ويهمل/ يلغي بقية الخيوط والانوال، ويجعلها سقطا من الوجود، انسياقا مع مسعاه الايديولوجي. هؤلاء اليهود الافارقة، مثل يهود السامرة، لا يأتي احد على ذكرهم، ولا يريد احد ان يعرف عنهم شيئا. وبين الامازيغ وعرب سيناء والمشرق جماعات سكانية كثيرة من اصول عبرانية، تعرضوا للإهمال وأُسقِطوا من التاريخ العبراني، للتركيز على الموجودين في اسرائيل اليوم وتفرعاتهم في الغرب. وسوف يأتي يوم، يجري الاقتصار على مجموعات قليلة ويستأصل البقية. في نفس السياق، يستمر التعليم الديني بالحديث عن ذرية ابراهيم واسحق ويعقوب، ترديدا كتابيا ببغائيا، دون مماحصة علمية واقعية، ودون انعكاس ظل للتعليم على الواقع.

هذا ما خطر لي شخصيا.. وانا احضر قداديس أفارقة، تتحدث عن موسى والخروج، وبني ابراهيم ويعقوب، فتساءلت ما مدى علاقة هؤلاء القوم بقصة ابراهيم والعبرانيين. بعض الافارقة يصورون المسيح افريقيا، فهل اعيد انتاج ابراهيم واسرائيل افريقيا. نفس السؤال يخطر لي بالنسبة لنشر التعليم المسيحي في مجتمعات شرق اسيا ومنها الصين. يوسف برنس لا يخالجه شك وهو يعظ جماهيره بنصوص التوراة. وأعود لاتساءل بالمقابل، لما توقف العرب – أبناء عمومة مع اليهود- عند حيثية صغيرة، تحولت اساس الخلاف والصراع والعداء التاريخي بين العرب واليهود، فيما يروج الفكر التوراتي اليهودي في أطراف العالم خارج دائرة الشرق الاوسط وحوض المتوسط.

ظاهرة الفكر الواحد – سيادينيا واقتصاديا وثقافيا ومدرسيا وصحيا- هي جوهر العولمة الاميركانية، والكتاب المقدس وسيلة واطار صالح للتوظيف في هذا المجال، وكما يجري بنشاط منذ زمن. فالتبشير الديني في بلد كالصين أو كوريا الشمالية، هو مشروع سياسي أكثر منه شيء آخر. ومثلما وظَّف العرب والفرس والترك والمغول الإسلامَ ورقةً للحكم والتسلط الامبراطوري والسياسي عبر التاريخ، يجري اليوم في اطار الدمقراطية الامريكية، يستخدم الغرب الامبريالي اللاهوت السياسي لبسط نفوذه السياسي وثقافته ومنهجه الاقتصادي ومسح الهويات والثقافات الاخرى باسم التوحيد ايضا.

من هم أهل مديان؟..

"وعاد إبراهيم فأخذ زوجة اسمها قطورة، فولدت له: زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوحا. وولد يقشان: شبا وددان. وكان بنو ددان: أشوريم ولطوشيم ولأميم. وبنو مديان: عيفة وعفر وحنوك وأبيداع وألدعة. جميع هؤلاء بنو قطورة"-(تك 25: 1- 4). وبحسب النص التوراتي، يكون بدء مديان متأخرا عن ظهور ذرية اسماعيل/ الاسماعيليين الذي سبق ذكرهم.. في قصة بيع يوسف لقافلة تجارية متجهة عبر سيناء نحو مصر..

 "واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة. فأتوا بيوسف إلى مصر"-(تك 37: 28)..

فالمديانيون- بحسبه- هم جزء من قافة اسماعيلية. ولكن يوسف ابن يعقوب، هو ايضا ابن عم اسماعيل ابن ابراهيم، لان اسماعيل هو عم يعقوب ابن اسحاق/ اخو اسماعيل من الاب.

والمصدر الكتابي يصف الاىسماعيليين بأنهم سكان سينا، كما يصف العيويين/ ذرية عيسو ابن اسحق ابن ابراهيم (بني عمومة الاسماعيليين) بأنهم سكان أدوم/ سعير المعروفة بالحجاز اليوم الساحل الغربي لبحر أدوم/ الاحمر. وأعتقد – شخصيا- ان في هذا تحميلا فوق طاقة النص، في استسهال نشأة الاقوام والقبائل والمدن والحواضر. وسيناء سبق ان نزل بها ابراهيم نفسه في دار وجيرة ملكها ابي مالك، كما نزل فيها اسحاق، واشتبكا (الاب وابنه) بعد الضيافة والجيرة الحسنة بخلاف واستعداء، كما سبق التنويه به من عادات البداة، ونزعة التنكر للجميل الإنساني.

ثمة مصادر اخرى تشير الى تعرض سواحل سيناء الشمالية الى تخرصات قراصنة متوحّشين – من جهة البحر- وهي صفة ترد ايضا في وصف جماعات الفايكنغ على سواحل انجلتره-، وقد تمكنوا لاحقا، من النزول على البر السينائي في موجات متتالية وكونوا حواضر مستقرة، انطلقوا منها لاحقا في (غزو) مصر وحكمها، وتشكيل سلالات اسر حاكمة. ويعتقد جمهور المؤرخين ان قصة يوسف التوراتية ترتبط بفترة حكم الهكسوس لمصر، وهي نفس فترة دخول بني يعقوب اليها.

ان هذا الرأي هو الاكثر رجحانا ومنطقية من وجهة نظري، لاستيعاب المعالجة التوراتية – المضطربة- فنيا وتاريخيا. وهذا يعني حضانة الهكسوس للعبرانيين سواء في بيئة سيناء عبر الاجيال، او خلال تسلطهم في مصر. والعبارة التي ترد في (خر 1: 8): "ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف"، وفي (خر 2: 23- 24):" وحدث في تلك الأيام الكثيرة أن ملك مصر مات. وتنهد بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية. فسمع الله أنينهم، فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب"، تؤكد واقعتين: تغير الحكم في مصر، وتعرض العبرانيين للاضطهاد من قبل الوضع الجديد. وهذا يعني نهاية حكم الهكسوس، وتسلط اسرة من سلالة جديدة، رفضت أتباع الحكم السابق.

فما الذي منع الكاتب العبراني من التفصيل السياسي، كما فعل في سفر دانيال مع استيلاء الفرس العيلاميين على بابل الكلدانيين، وزوال حكم نبوخذ نصر. لقد تعاون العبرانيون مع الفرس ضد اهل العراق تاريخيا، بدون تردد، فما يمنعهم عن التعاون مع اعداء مصر علانية، واقراره كتابيا. ضمن هذا المنظور المقارن، وقع الهكسوس ضحية الغبن والتنكُّر للجميل التاريخي، مضاعفا، سواء في سيناء أم مصر، وأكثر منه، تحويل حضانتهم لبني يعقوب، الى ارض عبودية واستغلال، واضطهاد، قد لا يؤيده الواقع التاريخي.

بحسب هذا التأصيل التاريخي، تتوفر مبررات تاريخية سياسية، للموقف الموسوي، واستعدائه الحكم المصري الجديد. ولكن الفراغ التاريخي هنا، يجعل موسى يقاتل لوحده مع (ربه: يهوه)، ومن غير وجود تحالف سياسي عسكري على الارض. ولعل هذا من مقتضيات البناء الديني الأسطوري، بتهميش دور البشر، والتعويل الكامل على القوة الغيبية. أكثر منه، يستحدث النص الكتابي وقوع معركة بين العبرانيين وبين العماليق من سكان سيناء، والنهي عن مشاركة بني يعقوب لهم أو تقليدهم في حياتهم وعباداتهم..

"وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم. فقال موسى ليشوع: انتخب لنا رجالا واخرج حارب عماليق. وغداً أقف أنا على رأس التلة وعصا الله في يدي. ففعل يشوع كما قال له موسى ليحارب عماليق. وأما موسى وهارون وحور فصعدوا على رأس التلة. وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب، وإذا خفض يده أن عماليق يغلب. فلما صارت يدا موسى ثقيلتين، أخذا حجرا ووضعاه تحته فجلس عليه. ودعم هارون وحور يديه ، الواحد من هنا والآخر من هناك. فكانت يداه ثابتتين إلى غروب الشمس. فهزم يشوع عماليق وقومه بحد السيف. فقال الرب لموسى: اكتب هذا تذكارا في الكتاب، وضعه في مسامع يشوع. فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء. فبنى موسى مذبحا ودعا اسمه يهوه نسي. وقال: إن اليد على كرسي الرب. للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور"-(خر 17: 8- 16). وقد سبق ليهوه ان انجز معركة سابقة ضد المصريين (خر14: 8- 28)، وهنا ينتفي أي دور بشري – خيرا أو شرا- في القصة، وتتأكد نرجسية القوة الأسطورية: (مجدي لا اعطيه لآخر!).

لكن موسى، -كما يبدو- ، لم يخرج انتصاراً للهكسوس، حلفاء الامس، وانما لتخليص شعبه، وتولية قفاه للحلفاء. ثم تبدأ المرحلة التالية للصعود شمالا الى ارض كنعان، منفصلين عن الهكسوس في سيناء، وانحدارهم جنوبا من غرب البحر الاحمر، لما يعرف اليوم بـ"الحجاز".

في كتابه (النبي موسى وآخر ايام تل العمارنة) يفصل الدكتور سيد القمني في فك الخيوط في اصل الهكسوس، ونسبتهم الى شبه جزيرة العرابيا. مؤولا لفظة (هكسس) صوتيا بلفظة (حجاز) بالجيم العجمة/ المصرية.

فيما يذهب مؤرخ فرنسي الى القول ان جماعات نزحت من جزيرة كريت نحو سيناء واسست مستوطنات اطلق عليها البوليسات، وفي وقت لاحق انتشر جماعات منهم شمالا بين البحر المتوسط وغور الاردن، وعرفوا بالفلسطيين. ويلاحظ ان كلا من قبائل الهكسوس، وقبائل البوليسات، نزحوا من جزيرة كريت القريبة من سواحل اليونان في البحر المتوسط، نحو سيناء، فهل ثمة صلة بينهما، وهل هما جماعتان مختلفتان أم نفس الجماعة بتسميتين، يبدو ان احدها اغريقي اللفظ.*. أما السؤال المعني هنا، فمن هم سكان سيناء: اسماعيليون، مديانيون، هكسوس، بوليسات؟.. أم ان هؤلاء كلهم واحد واختلفت مسمياتهم مع الزمن.. ومن هم سكان سيناء اليوم.. ومازالت سيناء منطقة ملتهبة في الالفية الجديدة، وكانت سبب ازاحة محمد مرسي من الحكم، كما ستكون سبب فشل خليفته: عبد الفتاح السيسي في تجربته السياسية.

أما فصل المقال في كل القصة فهو غياب الأدلة والأسانيد التاريخية فيما يتعلق بالهكسوس واسرهم الفرعونية الحاكمة – الاسر من الثالثة عشرة الى السابعة عشرة/ كما أذكر!-، ومن وراء اتلاف برديات الحكم المصري القديم لبضعة قرون (سؤال متروك للبحث؟!).

 

(10)

تساؤلات مفتوحة..

الاصل اللغوي في اسم (يهوه)، أنه لفظ مركب من أربعة حروف، كل منها أول الكلمات التالية: ارض- هواء- نار- ماء، في اللغة العبرية.

هاته الكلمات الاربعة هي العناصر الأربعة التي يتشكل منها الوجود: هواء، ماء، نار، تراب. كما عرفها الاغارقة.

وبذلك يكون (يهوه) ملك العناصر الاربعة. أي المتحكم بقوى الطبيعة الرئيسة المتحكمة في الوجود والحياة.

وملك الجهات الاربعة ورد لاول مرة في وصف نبوخذ نصر ملك بابل، أي ملك العالم أجمع.

ولذلك أسفر (يهوه) عن قدراته وتجلياته في أكثر من صورة وطريقة.

فقد يكون (اسم) –يهوه- وصفا للقدرات الالهية الخالقة والمتسلطة، اكثر منه اسماً أوحد، كما يفهم عند البشر.

وقد يكون (يهوه) اسما عبريا للاله، مقابل الاسم الارامي (ايل) والعربي (الله) وغيره، فهو وصف لغوي لا غير.

ضمن تعدد مسميات الالوهو في التناخ، زعم البعض ان يهوه هو (ابن) إيل أو ايلوهيم.

والبنوة الالهية متعارفة وشائعة في الديانات المصرية والاغريقية والرومانية والكنعانية القديمة.. وفي نصوص المزامير: (قال الرب لربي)، (هذا هو ابني الحبيب وبه سررت)..

وعند الكنعانيين (ادوناي) ابن للبعل، و(ابولو) ابن (زيوس) عند الرومان. و(ابولو) هو إله الشمس.

ومن هذه المغارقات ولد اللاهوت المسيحي، وفكرة البنوة الالهية ليسوع المسيح.

يعتقد البعض ان يسوع هو ابن (يهوه) ، ويحمل/ يكمل صفاته وقدراته، كما تجلت في كتابات يوحنا اللاهوتي، واضع الانجيل الرابع وسفر الرؤيا.

ويقارن احد الوعاظ بين خطاب المسيح المتكرر في انجيل يوحنا: انا هو.. انا الهو الحق والطريق والحياة.. هو القيامة والحياة.. انا هو الخبز الحي النازل من السماء، انا هو الماء الحي.. انا هو باب الخراب.. انا الاول والآخر، البداية والنهاية.. الخ.. وفي سفر الريا وصف للمعركة السماوية الكبرى/ الاخيرة بين المسيح والشرير/ هرمجدون السماوية..

ويذكّر هذا بخطاب (يهوه) في اسفار الخروج- لاوي- تثنية، التي تتكرر فيها عبارة الانا: انا هو الرب إلهكم.. انا هو الرب إالهكم القدوس..

لكن العلامة متى المسكين ينفي صلة/ نسبة يسوع المسيح الى (يهوه) العبرانيين، ويعتبر يسوع المسيح معادلا ليهوه، بغير تبعية أو تقليد*.

في الغرب اليوم ثمة جماعات/ جمعيات متزايدة تعمل على ترويج اسم (يهوه/ ياهو/ جيهوفا) بديلا للتسمية الانجليزية الشائعة..

بولادة تسمية يهوه وترويجه، استقل العبرانيون عن سكان شرق المتوسط وثقافتهم الدينية، بقفزة للامام والاستقلال الثقافي والقومي، بينما يعمل الغرب اليوم على عولمة (يهوه) وفرضه على كل الثقافات اسما وحيدا اوحد..

ويبقى اسم ايل/ الله في تراث الماضي، وحدود الثقافة العربية..

 الى جانب يهوه يروج الغرب لمفردات: مصر/ ارض العبودية، كنعان/ ارض الموعد- مصطلحات كتابية رمزية تتردد في مفاصل الوعظ والتعليم الديني.. وهو ما سبق أن وصفه المتقدمون العرب بالاسرائيليات أو ثقافة التوراة.. ويبقى..

أخطر ما في الدين.. تحوله الى ثقافة واجتماع!.


·            سفر الخروج: (3: 1- 5) "وأما موسى فكان يرعى غنم حميه (يثرون) كاهن مديان، فقاد الغنم الى ما وراء الطرف الاقصى من الصحراء حتى جاء الى جبل حوريب/ جبل الله، وهناك تجلى له ملاك الرب بلهيب نار وسط عليقة، فنظر موسى واذا بالعليقة تتقد دون ان تحترق، فقال موسى: أميل الان لاستطلع هذا الأمر العظيم!. لماذا لا تحترق العليقة؟. وعندما رأى الرب ان موسى قد دنا ليستطلع الامر، ناداه من وسط العليقة قائلا: موسى، فقال : ها أنا!. فقال: لا تقترب الى هنا!.. اخلع حذاءك من رجليك، لان المكان الذي انت واقف عليه، ارض مقدسة"!.

·            سفر الخروج (3: 13- 14) " فقال موسى لله: حينما اقبل الى بني اسرائيل، وأقول لهم: ان إله آبائكم قد بعثني اليكم، وسألوني: ما اسمه؟.. فماذا اقول لهم؟.. فاجابه الرب: اهيه الذي اهيه (أنا الكائن الدائم)!. وأضاف: هكذا تقول لبني اسرائي: أهيه: انا الكائن!. الذي هو أرسلني اليكم."

·            ضمن الاعياد اليهودية في سفر لاوي (23: 34) ثمة عيد المظلات/ الخيام، يقام استذطارا لاقامة العبرانيين في الخيام في سيناء، وموعد الخامس عشر من الشهر السابع العبري، والموافق الخامس عشر من شهر سبلتمبر الميلادي.

·                         أهْيَهْ: هو اللفظ الأقدس عند المندائيين ويتم افظه بالياء، (يَهْيَهْ)/ -تلفظ بالعربية: يَحْيَى!- والهاء الأخيرة تلفظ علامة الفتح أي حرف هوائي. ومنه أيضا تسمية نبيهم الذي يقرأ بالعربية (يحيى المعمدان) معاصر يسوع الناصري وسابقه، يعدّ له الطريق وأول من دعا بكرازة الملكوت السماوي. وبحسب العلامة اللاهوتي المعاصر متى المسكين [1919- 2006م] كان يوحنا المعمدان اعلانا سابقا وشاهدا حيا ليسوع المسيح ورسالته والميتة التي سيموت مثلها. والمندائية والعبرانية والمجوسية، ثلاث أخوات مشتقة من الديانة البابلية القديمة، واحدة في الأس ومتباينة في الرموز والتفاصيل، ودرجة المنطق والبلورة الفكرية.

·                        "مات موسى عبد يهوه في أرض موآب، مقابل بيت فغور، ولم يعرف أحد قبره الى هذا اليوم"- (تث 34: 5- 6). وبمقتضى السرد التوراتي لم يصل موسى أرض كنعان – الموعد- التي عمل من أجلها، ويعتقد بعض الباحثين ان (يوشع بن نون) خليفته وقائد جنده، وراء قتله واستخلافه، ومحو قبره لكي لا يعود اليه بنو اسرائيل لاحقا، ويتناسى أثره وذكره. ونعرف من القصة ان موسى واجه اعتراضات وتمردات مستمرة من العبرانيين، ولم يحظ بالقبول والاجتماع كقائد قومي أو ديني. والرأي السائد رفض الاسرائيليين الخروج من مصر، وتقريع موسى وهرون على اخراجهم عنوة وحيلة. وسوف يفقد هَرون وولده مكانتهم الرسمية الموصى بها من يهوه، بمقتل اثنين من ولده، وفجور الاثنين الاخرين من بعد، لتزاح عائلة هَرون من رتبة الكهنوت، بينما تختفي ذرية موسى وزوجته المديانية، ولا يرد لهم ذكر فيما بعد، مما لا يناسب بيت النبوة وعترته..

·                        قارن ذلك بقول يسوع المسيح: لقد تشوف ابراهيم أن يرى يومي هذا!/ (يو 8: 56)، وهنا أعظم من ابراهيم: (قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن)- (يو 8: 58)، وداود يدعوه ربا- (متى 22: 44، 45).

·                        محمد بن المختار الشنقيطي: الخلافات السياسية بين الصحابة – رسالة في مكانة الاشخاص وقدسية المبادئ/ دار الانتشار العربي- بيروت- لبنان/ ط1- 2011م- ص26.

·                        (النبي موسى واخر ايام تل العمارنة) – اربعة أجزاء- مؤلف للدكتور سيد القمني، من أفضل المصادر العربية وأوسعها في دراسة وتفصيل التجربة السينائية وذلك في ضوء فلسفة الدين المقارن وعلم نقد الدين وعلم الاجتماع الديني. وأصل الاجماع عند المؤرخين والباحثين العلمانين يفند شخصية موسى شكلا ومضمونا. والمغزى في رواية القمني جمع المشكلة اليهودية والعربية في سلة واحدة!.

·                        (ابرام) هو الاسم الاولي لأبراهيم النبي كما ورد في الاصحاحات الاولى للتكوين التوراتي. والاسم يتكون صوتيا من مقطعين: (أب) بمعناه اللغوي أو الكنائي: أي (زعيم)، و(ارام) زهو قوم شمالي سوريا عند مجرى نهر الفرات، حيث اقام مع أبيه في (حران) والقريبة صوتيا من (هاران) اسم شقيق ابراهيم ووالد (لوط). والاسم الحقيقي السوري لابراهيم يكون (اب ارام)= (ابو ارام) في صيغة الكنية العربية، وقد اندمج المقطعان واندغمت الالف الوسيطية بحسب القواعد اللغوية المتعارفة في علم الصوت. وهو اسم تكنى به في ارض سوريا، وسى معه واشتهر به. والمعروف ان المقطع (هيم) أو (حرف- م) ايجازا، هو دالى الجمع والكثرة. ويقابله بالعربية المقطع (هم) الضمير الدال على الجماعة الغائبين، او الملحق بالكلمة اسما وفعلا لنفس الغرض، فيقال [كلهم، بلدهم، يزيدهم، يعرفهم]. ولابد من التنويه ان القاعدة في تحديد المسميات ومنها (اسماء الاعلام) تتداخل فيها مسميات الاشخاص والامكنة والاحداث والصفات الظاهرية – لها-. فمصرايم واشور في جداول الانساب اشخاص/ اقوام أو مدن وبلدان في ان واحد.

·                        Phlip Hittitti- The History of Arab

·                        احد الكتاب السوريين يؤيد مرجعية فكرة البوليسات وكونهم اصل الفلسطينيين في جنوبي غربي بلاد الشام، وذلك في يوتيوب اعتقد للدكتور المهندس محمد شحرور-على ما أذكر-. ويذكر انه ثمة مؤلفا سوريا آخر يفسر الجغرافيا التوراتية في شبه جزيرة العرب، وفي زاويتها الجنوبية الغربية تحديدا، مركز اسرائيل التاريخي. وثمة تقارب جغرافي وفكري نسبي بين فرضية كمال صليبي وفرضية سيد القمني. في صرف اليهود والعرب/ الاسلام نحو شبه جزيرة العرب. بينما يجتمع كل من محمد شحرور وكمال الصليبي في اخرج الفلسطينيين والاسرائيليين من ارض الشام، نحو سيناء والعرابيا، مما يعد اسهاما في بلورة ايديولوجيا قومية سورية تتخلص من طرفي النزاع التاريخي العقيم (الفلسطينيين واليهود) خارج حدود ارض الشام الكبرى.

·                        في كتاب عن تاريخ بيزنطه لمؤلف انجليزي، يقوم فيه بالتمييز بين سكان فلسطين قبل الاسلام، وسكانها المسلمين، بحذف النون الوسطية في السابق التاريخي، فيدعو ما قبل المسلمين بالفلستيين، والمابعد بالفلستيين بحسب اللفظ الانجليزي.

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.