3

:: في رثاء الشرّ.. ::

   
 

التاريخ : 26/08/2016

الكاتب : وديع العبيدي   عدد القراءات : 1228

 


 

 

"نحن لم نخلق الشر"!..

"لا تقترب من الشرّير ولا تلعنه!"..

"اتق شرّ من أحسنت إليه!"..

" الشرّ وكل مسمياته ومشخصاته افتراض ذهني أنتجه عقل الإنسان وضميره!"

 

(1)           ماهية جدلية...

هل (الشر) كائن في الطبيعة أم في البشر؟.. هل هو أساسي في البنية التكوينية أم عارض عملي خلال النشاط؟..

من لا يعمل لا يخطئ. من لا يخرج من البيت لا يصاب بحادث سيارة أو انفجار. من لا يكلّم أحداً يتجنب احتمالات الشجار وسوء الفهم. ولو لم يولد الإنسان في العالم، لاستغنى عن الهمّ ووجع القلب الذي يحرث البشرية بالطول والعرض، ويجعلهم مضغة بيد ابليس.

الشرّ، باختلاف مسمياته ورموزه وصوره، هو مفهوم وليس كائنا متربّصا بنا كما تشيعه التربية الأسَرية والاجتماعية والدينية. وهذا المفهوم الاجتماعي يتصل بوعينا ولاوعينا، ومدى إدراكنا للعالم.

 وهذا يعني بالنتيجة، أننا بمعرفتنا وقدراتنا الارادية يمكن تجاوز كثير من حالات الخطأ والضرر. وهذا ما يدعى بالحكمة والافادة من الخبرات والمعارف والتجارب. ومن هذا –ايضا- اختلف موقف ونظرة المجتعات والثقافات لموضوعة الشرّ وتفسيره والتعامل معه.

والشرّ أكثر رواجا وتهويلا في المجتعات الدينية/ الغيبية. ليس لكونه حقيقيا، وانما لتعويل الفكر الديني والجماعة الاقطاعية الدينية في توظيفه للسيطرة على الاتباع وترويض البشر وتدجينهم على الخضوع والتبعية والعبودية شبه المطلقة لعناصر غيبية – مزعومة- من خلال ممثليها في المحيط البشري من رجال دين ومالكي الارض والحكام المحليين.

فالفكر الديني وراء اشاعة فكرة تربُّص الشيطان بكل شخص، وأنه يأتي ليغربلكم ويمتحنكم، وينهال عليكم بالكوارث والامراض عند مخالفة الوصايا أو عدم إطاعة اهل السلطة والنفوذ وتقديم فروض الطاعة والتقدِمات.

فالشرّ، مفهوم اجتماعي ديني، هو أداة للتسلط والسيطرة والاستغلال، عمل الفكر الاقطاعي على تطويرها وتبويبها داخل المجال الديني، الذي اتخذ منها مطية للمجهول، ونشر منظومة رعب وإرهاب داخل الشخص وبينه وبين نفسه، تجعله في ذعر وهوس نفسي، للتسابق في التملق والخضوع، أو الارتعاب لأنه نسي فريضة ما أو تشكك في نفسه ونسي أو أخفى جزءاً من التقدمة المفترضة للصوص المعبد.

ننتهي منه، ان الشرّ ومفهومة وسيلة اخترعها الإنسان للتسلُّط على البشر وترويضهم وتدجينهم للخضوع وإطاعة نظام وسلطان أرضي معين.

 

(2)           هل الخطأ والسهو والنسيان هو الشر؟..

الاصل في الشرّ هو الضرر، والسبب في الضرر هو الخطأ.

فالشر ظاهرة هي نتيجة لخطأ، ويترتب عليها (ضرر)، والخطورة فيها تكبر وتصغر نسبة لحجم الضرر الناجم عنها، وعلاقتها بالشخص تتحدد بدرجة العلاقة من الضرر أو موضوع الضرر والمتضرر.

حياة الإنسان تقوم على العمل والحركة ومنهما تتحقق المنفعة. العمل والحركة توصف ايضا بالتجربة والمتصلة بالبحث والاستكشاف. الحركة والعمل والتجربة تحتمل الوقوع في خطأ والتعرُّض للضرر والخسارة. لكن التعرُّض للضرر والخسارة والخطأ يترتّب عليه معرفة ومعلومات، تحمي من تكرار الخطأ والإصابة بالضرر.

فالتجربة والبحث والاختبارات، إضافة للحركة اليومية والعمل هو مجالات لجمع الخبرات والمعارف، وصولا لتشكيل منظومة معرفية عملية، يمكن صياغتها في صورة تعليم وارشادات،  وتوضع بين أيدي وتناول التلاميذ والمتعلمين.

فالخطأ ليس ابديا مطلقا، غير قابل للتغيير والتجاوز. وانما هو مرتبط ببداية التعلم وتكوين الخبرات والمعارف. ويمكن تفسير الشرّ بنفس الطريقة. وعدم التسليم لليأس والمطلق والغيب، وتركه يتكرر بغير دراسة وبحث، وبقاء الإنسان خارج مجال البحث والمحاولة لفهم الظاهرة وتحليلها للسيطرة عليها والافادة منها.

فقوة الرياح وهدير المياه، ظواهرُ تدميرية في الطبيعية، عند تركها لحالها، ولكن الإنسان نجح في الاستفادة منها وتطويعها لتوليد الطاقة بأنواعها.

ان وظيفة الإنسان هي البحث والتجربة والاستنتاج والتفكير في طريقة تحقيق منافع من كل ظاهرة في الطبيعة والوجود. وكثير من مظاهر حياتنا المعاصرة، ما كان ان تتحقق لولا حاسّة البحث والاستكشاف والتجربة والتطوير والتفكير الايجابي. أما الوقوف أمام الظواهر والمخاطر والارتعاب منها وتقديسها وتقديم العبادات وفروض الطاعة والتوسلات اليها، فلا يسفر غير المبالغة في العبودية العجز عن تحريك السواكن وإضافة لمسة ايجابية جديدة تضفي على الحياة والوجود معنى جديدة وأملا جديدا.

وإذا كان اليأس والإحباط والأمراض النفسية والآفات الاجتماعية والعنف الدموي شاع في العصر الحديث، فهي بسبب توقف حركة العلوم والبحوث والاستكشافات العقلية والاجتماعية المجددة لصور الحياة ومعانيها. سيما عَقِبَ النهضة العقلية والاجتماعية لعصر التنوير ونهايتها في القرن العشرين المنصرم.

الملاحظ في الفكر الديني، وهو يسوغ الشرّ المقدَّس النازل من فوق، لا يتساهل أو يتماهل في الخطأ البشري حتى لو كان سهواً أو جهلاً، كما يلحظ في شريعة الذبائح والقرابين الواردة في سفر لاوي: الاصحاحات (4- 7) حيث يتم احتساب الخطأ السهو وغير العمْد خطيئة وإثما تقتضي كفارة القرابين. كما ان الامراض والأعراض الصحية بضمنها طمث المرأة وفترة الولادة تعامل معاملة الخطأ المقصود وتقتضي ذبيحة إثم وخطيئة. ويذكر ان مفردة (نجاسة) الدينية هي مقابل مفخّم لمعنى الشرّ والخطأ والمنكر. وفي ذلك مخالفة بينة للمنطق والاعتبارات البيولوجية والبشرية السائدة. وإذا سها العبراني او المسيحي الطقسي أو المسلم في صلاته، عليه أداؤها مضاعفة ودفع كفارة بالمناسبة. وسهو المرأة الحامل أو المريضة حرمانها من حق الشهادة وجعلها نصف إنسان في أحسن الأحوال.

 

(3)           قانون التضاد..

الشر هو مركز الإشكالية التي تواجه الفكر الديني. ففي حين تتنافس الديانات وتفترض كل منها نفسها المثلى، تبقى تلك الإشكالية منقوصة المعالجة، لا تحظى بما تستحقه من اعتبار. ان وجود الشرّ أساسي في الوجود، بحسب قانون التضاد؛ قديم كما هو الخير، وهو مناف له من حيث المعنى ومعاكس له في الاتجاه. ولا سبيل للتخلص منه أو القضاء المبرم عليه ونفيه من الوجود. وإذا كان الخير في تراجع ملحوظ في مسيرة التطور، فآفاق الشرّ في ازدهار وتقدم وازدياد. (البقاء للأقوى أم للأصلح!).

من الممكن اعتبار الشرّ ناتجا عرضيا في عمليات خيرية/ حيوية. ولكن الشرّ كذلك هو المنظومة أو الفضاء الذي تتحرك فيه الحياة وتدور خلاله أو حوله جملة النشاط البشري والحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، العلمي والخرافي. وباعتبارنا نوجد الآن ونناقش موضوعه؛ فأننا نعيش داخل منظومته، ولا ندّعي أننا خارج فضائه، أو يمكننا التنزُّه عنه والارتفاع عليه بفعل قوة سحرية.

في حين يكون النهار مساحة حافلة بأعمال تطفح منها روائح الشرور والبشاعة، يتعب الجسد ويستلقي آخرةَ النهار، ولكن عقل الفرد لا ينام تماما، تبقى تلك المساحة الخاصة بالمخيلة فعالة تنتج صورا وأفلاما ورؤى تبدو للرائي كحقائق وواقع، يستمتع بها جانبا من الوقت. ثم يصحو ويعود إلى شقو النهار؛ وهو يستذكر صور الليل وتستحضرها ذاكرته، فتهدأ نفسه، أن ليس كل عمره ويومه قسوة وبشاعة، ولكن ثمة فسحة للجمال والمتعة، تعوضه عن ذلك. فالحلم طرف يقابل الواقع، كما أن الليل يقابل النهار، والخير يقابل الشر. ولكل مفردة أو ثيمة ثمة ما يقابلها. أي أن الترادف- التقابل- التضاد هو أساس الوجود الكوني والبشري/ [أرسطو، ماركس]..

ان جسم كل كائن حي يتكون من نصفين متقابلين، متشابهين في الوظائف والنسب والشكل، أو متكاملين، يفصل بينهما خط وهمي محوري. وفي سلسلة أفلام علم التشريح، يتم فصل الجسم طوليا إلى نصفين من الرأس حتى الذنب للمقارنة بينهما. أن أكثر أعضاء الجسد زوجية متوزعة على طرفي الجسم، بدءاً من العينين وفتحتي الأنف إلى الأسنان والرئتين والعدد الجيني داخل الكروموزومات حتى ما بعدها. وتقع الأشياء المفردة في وسط الجسم على الخط الوهمي الفاصل أو قريبا منه.

والشاعر العربي يتأسّى في غزليته: لو كان لي قلبان عشت بواحدٍ..

في الليل لا نستطيع أن ننظر أمامنا شيئا على الأرض، فنتوسل أضوية السماء، ونجد أنفسنا قريبين من السماء.. قريبين جدا. وكلما امتد الليل وطال السهر نشأ منولوج داخلي بين الذات وبين تلك الأضوية أو من يختفي وراءها، وربما نشطت المخيلة فرسمت صورا لتلبية حاجات داخل النفس تتحاور وتتجاوب معها، فترسم صورا وتنتج قصصا وتكبر أحلام ورؤى، تتفوق على قتامة الواقع وتتحداها.

 

(4)           جمالية تعويضية..

هل يمكن افتراض وجود قائم على الخير المطلق بدون أثر للشر في أطرافه أو ثناياه؟..

هل حدث عبر التاريخ وجود مجتمع أو جماعة ترفل في حياة معطاء حافلة بالجمال والمحبة والخير في كل شيء؟..

ان وجود الفن في العالم، أو اكتشاف الإنسان للفنون، أنما هو لتعويض نقص هذا الجانب من الوجود، فوظيفة الفن (رسم، موسيقى، غناء، مسرح، سرد) انما هي وظيفية تعويضية لتحقيق اكتمال النصاب بين مترادفات الخير والشر والجمال والقباحة في العالم.

ان البيئات الخالية من الجمال والخير تنتج أجيالاً ومجتمعاتٍ إجرامية فاقدة لحاسّة الخير، بينما تعليم الموسيقى والفنون للأطفال في سن مبكرة/ (منهج أفلاطون) يشدد فيهم الدافع الإنساني للخير والجمال. إذا كان الواقع المادي المحيط بالبشر هو الشر، فإن معادلة الوجود التعويضية تدفع حاسة داخل عقل الإنسان للفعالية، هذه الحاسّة هي الخيال/ المخيلة. وكلما زادت قتامة الواقع اشتدت حاسّة الخيال. قد لا يجد البعض فرصة تعبيرية لحاسّة الخيال هذه.

لقد انسجمت الفلسفة الإغريقية القديمة مع نظرياتهم الفلكية والفيزيائية في ثنائية المادة أو التركيب المثنوي للمادة التي يتشكل منها الكون والمادة الحية. كان المسعى يومذاك الوصول إلى تفسير للكون وتعليل لظواهر الطبيعة والحياة وخصائص ديمومتها وسيرورتها. وقد استمر الجهد الفلسفي الإغريقي حتى القرن الرابع الميلادي عندما اتّخذت الامبراطورية الرومانية (المسيحية) ديانة رسمية*.

 

(5)           الوعي واكتشاف/ اختراع الشرّ،،

الحياة.. الحضارة.. المعرفة.. المدنية.. الدين.. التطور.. ما كان لها أن تقوم وتتنمو وتظهر، بغير إدراك قيمة الشرّ، ودوره كمادة أساسية في بناء الودود المادي والاجتماع والفهم البشري.

لابد ان اكتشاف الإنسان للشرّ له دالة نمو ذهني ووعي أخلاقي متميز. وهذا الاكتشاف يفترض، وجود مرحلة سابقة لم يكن الشرُّ فيها ومظاهرُه معروفةً لبني البشر.

وفي بعض الميثولوجيات القديمة، ترد مرحلة كانت فيها الآلهة تعيش في سلام، أو كان البشر يعيشون في هدوء وسلام وانسجام، وهي إشارة لمرحلة ما قبل الشر، أو ما قبل نمو الوعي واكتشاف فكرة الشر.

الشرّ إذن مادة معرفية تتصل بالوعي التطور وتراكم الخبرات والتجارب. ولابد انها مرحلة قديمة وسابقة وأساسية في هندسة منظومة المعرفة/ المعارف البشرية. واليوم.. لا يمكن الحديث أو التفكير أو البدء في أي شيء، دون أـخذ الشرّ بنظر الاعتبارات، بما فيها الاحتمالات والمضاعفات السيئة.

في مقدمة قصة الخليقة التوراتية /(الاصحاحين الأول والثاني) ثمة اشارة لمرحلة طفولة آدم وحواء: "وكانا كلاهما عريانين، آدم وامرأته، وهما لا يخجلان"- (تك2: 25).

فالعري، هنا، هو دالة طفولة ما، بالمعنى الفعلي أو المجازي. والطفل الصغير غالبا، لا يعرف ما هو العري – أو أنه غير مقبول/ (عيب)- بغير تنبيهه وتعليمه ذلك ممّن حوله.

وبالمقابل تمثل المعرفة دالة الإدراك الحسّي والعقلي.

قد يمسك الطفل الصغير ما يصادفه من حشرة أو حيوان أو مادة خطيرة كالنار، دون إدراك لخطورتها وما يترتب عليها من مضاعفات ولواحق. فالوعي هو الدالة الرئيسة لاكتشاف/ معرفة شيء ما. وغالبا تتم المعرفة بطريقة سلبية. أي أننا نكتشف النار كونها حارقة، وليس كونها مصدر النور والتدفئة والطبخ.

هذا ما يقود بعض علماء الانثروبولوجي لاعتبار الإنسان والحيوان شريرا في أصله. وهو ما لا أتفق معه. فالإنسان والحيوان وكل الكائنات الحية هي نتيجة لبيئتها الطبيعية/ الاجتماعية والحضارية. والخطأ امر عارض من ضمن مسيرة الحياة اليومية ومماحكاتها، أما الشرّ فهو ما يدخل منه في باب القصد والفعل العمد، او التمرُّد على نمط سائد.

فالطفل/ الحيوان المولود والناشئ في غابة، يختلف في إدراكه وسلوكه عن طفل المدينة. وطفل القرية المتخلفة والبدائية، يختلف عن طفل بيئة حضارية متقدمة.

وعموما، أطفال اليوم، في خضم الأجهزة الالكترونية والأدوات المنزلية الكهربائية وأجهزة المواصلات والاتصالات الحديثة، أكثر وعيا واختلافا عن طفولتنا.

فالبيئة هو الفيصل وعامل الحسم في النمو التربية والتطور والسلوك، من سواه. ويتخوف بعض علماء الحيوان على مستقبل الحيوانات المدجنة كالكلاب والقطط وأمثالها، مما تزايد اقتناؤها في البيائات المنزلية، وأثر ذلك على مستقبلها لاحقا ومستقبل أطفالها. وقد لوحظ لدى التجارب، عجز بعضها عن تدبير غذائه لدى اعاداته للغابة أو بيئته الطبيعية، ناهيك عن ضعفه وعجزه عن حماية نفسه والدفاع عنها في مواجهة بقية حيوانات. وفي بعض المدارس، نذككر أن ابناء القرى كانوا أكثر قزة بدنية من أبناء الموظفين والمدن. فالبيئة، ونوعية التربية الاسرية والمجتمعية وراء المنظومة المعرفية وجهاز الوعي والإدراك وليس الطبيعة البيولوجية والفسلجية المنفتحة على الاحتمالات.

ويلحظ ان الميثولوجيا عموما، ومنظومة المعارف الاخلاقية والدينية السابقة للديانات البراهمية، اعتبرت الشرّ عنصراً أساساً ينبغى إدراكه، بوصفه أحد العناصر الحيوية في الوجود، وتنظيم الكون وظواهره،. ولدى مراجعة تلك الثقافات والتعامل مع بعض من يمثلونها لليوم، لا نجد تلك النظرة أو الصورة المزرية للشر، كما عكستها ثقافات الشرق الأوسط، والديانات البراهمية عموما.

لقد عكست الفيدا عنصر الشرّ، ضمن هذا المنظور العام، واعتبرته الثقافة الفارسية القديمة بوصفه النصف المكافئ والمعادل لنصفه المقابل في قيادة الكون والتحكم بالوجود، ويدعى (أهريمان) إله الشرّ مقابل (مزدا) إله الخير، والتي تدعى بعقيدة (المثنوية).

أهريمان ليس الشيطان، وانما المسؤول والمتحكم بالعناصر والظواهر السلبية في الوجدود لموازنة نظام الكون والحياة ومظاهرها. وتعرف العلوم والفلسفات المعاصرة، اشترك العناصر السلبية والموجبة في تأسيس وموازنة نظام الفيزياء والفكر عموما.

 

(6)           الاغريق والفيزياء الجدلية..

القانون الفيزياوي يقول: ان لكل قوة في الطبيعة قوة مكافئة لها في الكم، ومخالفة لها في الاتجاه والفعالية. ومن تكافؤ القوتين يتولد التوازن، ومن تفاوت قوتهما تتولد الحركة والاضطراب. وطالما ان الحركة الذبذبية (Vibration) هي الصفة الدائمة للذرات ومحتوياتها ومركباتها، فإن القوى المتضادة والمتناظرة في سعي دائم لتحقيق التوازن، والمحافظة عليه. لأن الوجود الفيزيقي لا يتحقق بغير وجود القوتين وتوازنهما. فإذا غلبت إحداهما وانتفت الأخرى من الوجود، انتفى الوجود كليا.

الفيزياء الكونية وفيزياء الذرة كانت أساس بلوغ فلسفة الإغريق ذروتها بين القرنين السابع والثالث قبل الميلاد، وصولا الى ثلاثي الإغريق التاريخي [سقراط، أفلاطون، ارسطو]. كانت الرياضيات أساس القبول في (الأكاديما) الجامعة التي أنشأها افلاطون لتعليم تلاميذه. لكن أفلاطون سينتقل بالمنظومة الفلسفية الإغريقية إلى مجال الفلسفة الاجتماعية التي ستعرف بعناون (الأخلاق) أو (السياسة العملية).

كان التضاد أو المثنوية معروفا ومعتبرا لدى فلاسفة الإغريق وتعليمهم، سواء في مجاله الفيزياوي الكوني، أو مجاله الاجتماعي الاخلاقي، أو تبلوره الفكري واللغوي عند أرِسْطو لاحقا. 

يمكن تلخيص دور أرِسْطو في ثلاث نقاط مركزية مازالت تنسب إليه:

جدلية التضاد..

المنطق والتقابل..

نظرية الحواس أو المنطق الصوري..

يعتبر أرِسْطو وأفلاطون من بين أبرز خمسة شخصيات عالمية، لا يكاد يمر يوم دون ذكرهم وذكر منجزاتهم واسهاماتهم في حياة البشرية. ويحتل أرِسْطو المكانة الأكبر قاطبة في نظريات الأديان وأنظمتها المعارفية واللغوية.

ان معرفتنا البشرية، العلمية واليومية مازالت تعتمد منطق المحسوسات وما يترتب عليها من منطق صوري/ ظاهراتي. ففي الحقيقة نحن لا نعرف الشيء، وانما صورة الشيء كما تبدو للعيان [منطورة بالعين، مسموع بالأذن، منطوق بالفم، ملموس باليد او الجسم، قابل للشم أو التذوق من حيث الطعم والرائحة!]. وكل ما هو خارج مديات تحسُّسنا لا يمكننا إدراكه، ويدخل في مجال (علم الغيب).

أما نظام بناء معمارية الفكرة أو النظرية ومبادئ صيغها اللغوية فهي قائمة على أساس السببية [سبب/ ظاهرة/ نتيجة/ ~]. بعبارة أخرى، يمكن القول ان أرِسْطو ابدع أكثر في مجال تكنيك الصورة والعبارة وفن التعبير، وكان ناقدا أدبيا ومسرحيا، ويُعتبر كتابه (فن الشعر) أبرز المصادر الأدبية في مجاله حتى اليوم.

المغزى من هاته الاشارة، أننا ونحن نقرأ/ نتداول/ نناقض تراثنا الديني ونظامنا اللغوي واللغة الدينية، علينا استذكار أرِسْطو والانتباه لدوره ومساهمته في البناء والصياغة وتصوير وتفعيل اللغة والافكار.

فخصائص الإقناع والمنطق والسحر والبيان والتأثير النفسي والعاطفي، تبقى مدينة لأبي المنطق والشعر.  ولغرض التمويه على هذا الأثر وإلغاء بواعث، اجتمع الفكر الديني على توثين الأغارقة ووضعهم في مرتبة دنيا في الحضارة والأخلاق من جهة، وتسفيه العقل والفلسفة وتكفيرها. والحقيقة، إننا، لو صدّقنا تهميش الإغريق وفلسفتهم، سنصل إلى النتيجة الخالصة المتمثلة بنسف التراث الديني الابراهمي وتشويه مدوناته عموما.

 

(7)           عقائد وأسفار مقدسة..

ان الشرق الأوسط القديم، كان يمتد حتى شبه جزيرة الهند، ممثلة بيئة ثقافية اجتماعية متقاربة ومتعددة في عين الوقت. ويبدو ان بابل- عاصمة شنعار- كانت متروبوليتان ذلك العالم. والغرض من هاته الاشارة، تقارب وتلاقح العقائد والمذاهب والميثولوجيات والفلسفات الاجتماعية والكونية فيما بينها. وأعتبر أن ثمة تداخلا وتدرُّجا متطورا جرى من تعدّدية الآلهة الهندية الى مثنوية الآلهة الفارسية وصولا لفكرة التوحيد العبراني.

لكن تقليص عدد الآلهة واختزال رموزها كان يتمّ بتخفيض رتبها ومكانتها، دون إلغاء وظائفها وصفاتها. فقد جرى تحويل بعضها الى ملائكة وبعضها إلى جنّ، ووضعت الملائكة/ (الأخيار) تحت قيادة ملاك أكبر درجة مثل (ميخائيل) في المسيحية، بينما وضع الجنّ تحت قيادة وسلطة كبير الشياطين، وقد تختلف الأديان بحسب تراثها الاجتماعي واللغوي في اطلاق التسميات، مع زيادة أو اختزال، لكن البناء العام الهيكلي ورمزية الاله الأكبر خالق الكون/ العلي القدير تبقى مشتركة بين الجميع.

ففكرة مثنوية اهريمان واهرمزدا الالهين، تبقى كما هي في المسيحية القائمة على صراع الخير والشر (المسيح والشيطان)، الخطيئة والخلاص، بشكل محوري. بينما تبدو معوّمة – تحت السطح- عند العبرانيين. وكما في المسيحية، كذلك في الإسلام، يحتل الشيطان أهمية رئيسية في حوافز الفكر والوعي والسلوك.

ويوصَف بأنه ندُّ وغريمُ ابْنِ آدمَ. وأن "كل مولود ينخزه الشيطان عند ولادته!". ويتوجب على المسلم التعوُّذ من الشيطان ومن شرِّه كل يوم وعند كل عمل. ويستمر الشيطان في مغارمة ابن ادم حتى ما بعد الموت، وعلى أعتاب باب الجنة، لمراوغته والإيقاع بينه وبين الإفلات من مملكته الجهنمية.

في مقابل ذلك، لا يوجد كبير ملائكة أو ندّ للشيطان، سوى (الله) نفسه الحاضر في مجادلات ومناظرات مذكورة في القرآن.  وفيما تبقى صورة الشيطان وذكره معوَّما في كتاب العبرانيين، يذكر واضحا في الانجيل والقرآن تحت اسم (شيطان/ ابليس/ الشرير/ عدو الخير).

ان وظيفة الشيطان غريبة واشكالية في التصور الديني. لأنه ببساطة يمثل النقيض الجدلي. الله يبني، والشيطان يهدم. الله يهدي، والشيطان يضلّ. الله نور، والشيطان ظلام.. وهكذا دواليك.

ما المغزى من وراء ذلك، سوى النكدية والمخالفة، لأجل المخالفة. ان تصميم الكون ونظامه وكيانه الحيوي والبشري، لابد أن يستند إلى غاية واسلوب أكثر حكمة ورقيا، من مجرد المخالفة والمناكدة المجردة.

الفكرة الفيزياوية والفلسفية تستند لفكرة القطبية والتوازن والانسجام. وفي كل من الفلسفة الإغريقية والميثولوجيات وبعض الديانات غير البراهمية، لا تتسم صورة الشيطان بالبشاعة ولا يتعرّض للعن والازدراء الدائم.

أنِف العبرانيون من ذكر (الشيطان) ولعنه مبدئيا، ولم تأمر المسيحية بلعنٍ أو شتمٍ أو معارضةٍ ومناكدةٍ على الاطلاق، حتى ضدَّ ابليس، وتفرّد الإسلام باللعن والشتم والتعوُّذ. وفي ذلك يتقدم الفكر الشيعي ويبدو اكثر تخصُّصا من الإسلام الحجازي.

على ضوء هذا المدرج المتسلسل المرسوم حتى الآن، نجد ان الإسلام يبلغ الذروة في الزراية بالشيطان. ولكنه بالمقابل، يمنح الشيطان من القوة والصلاحيات، ما لم يسبق اليه في سواه. 

الواقع ان عالم الأساطير الدينية لا ينفي وجود شيء اسمه العالم السفلي، أو عالم العقوبات/ الظلمات، وان ثمة ملكا/ إلها/ يترأسه ولا يسمح بالخروج منه. كما هو الحال في الأساطير السومرية والبابلية، والرومانية. وفي الهندوسية تظهر شخصية (شيفا)*  والمقابلة للشيطان في الديانات البراهمية.

 

(8)           الحياة مع الشرير..

اختلف المنظور المسيحي لتفسير الشرّ عن الاتجاهات السابقة له. ومنبع الإشكالية في هذا المنظور أنه ناتج اتجاهين مختلفين في مصادره..

1-   المصدر الأول: العقيدة اليهودية

2-   المصدر الثاني: الديانة الرومانية القديمة وأصولها الإغريقية.

العقيدة اليهودية باعتبارها قاسما مشتركا لعقائد دينية قديمة بارزة كانت سائدة في العراق والهند والشام ومصر، مرت بمراحل من التطور قبل استقرارها بالشكل الذي عرفته المسيحية الأولى. تعتبر اليهودية أن إلها واحدا مطلق القوة والمعرفة هو أصل كل شيء في الوجود وعلّة كل شيء في الحياة. فالخير مصدره من الله والشر مصدره من الله. ويشكل سفر أيوب أفضل المصادر في هذا المجال، ومنه قوله لامرأته: "الخير نقبل من عند الله، والشرّ لا نقبل!" (أيوب: 2: 10).

أما المسيحية فقد فصلت بين أصل الخير ومصدر الشرّ، معتبرة الله أصل كلّ خير، وإبليس مصدر كل شرّ. يقول يوحنا "ان الله نور وليس فيه ظلمة البتة" (1يوحنا 1: 5). والله محبة "أيها الأحباء لنحبّ بعضنا بعضا، لأن المحبة هي من الله، وكلّ من يحبّ فقد ولد من الله ويعرف الله. ومن لا يحبّ فلم يعرف الله لأن الله محبة." (1يوحنا 1: 7،8). والله بار لأن "من يفعل البرّ فهو بارّ كما أن ذاك بارّ" (1يوحنا 3: 7). وفي مكان آخر يقول "أيها الحبيب لا تتمثل بالشرّ بل بالخير، لأن من يصنع الخير هو من الله، ومن يصنع الشرّ فلم يبصر الله." (3يوحنا 11).

أما الذي يقف في الطرف المقابل للنور والمحبة والخير فهو الشرير، إبليس، ضدّ المسيح. ووجود الشرّ هو سبب وجود المسيح وكفارته. يقول يوحنا في رسالته الأولى "من يفعل الخطية فهو من إبليس، لأن إبليس من البدء يخطئ. لأجل هذا أظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس." (1يوحنا 3: 8).  

وقد وصف المسيح الفريسيين بأنهم (أبناء ابليس) و (ذرية الشيطان). ونعرف ان يسوع المسيح هو نفسه تعرض للتجربة في البرية على يد ابليس. لقد لعب ابليس دور الممتحن لكل من يخالفه ولما يزل. وفي الصلاة الربانية مقطع يقول: "لا تدخلني في تجربة، بل نجني من الشرير!". والتجربة هي امتحان ابليس لمخالفيه.

وقد جمع الإسلام في منظوره للشرّ بين موقف اليهودية باعتبار الخير والشرّ من الله، وبين صورة إبليس الذي تمرّدَ ورفضَ السجود لآدم فوقعت عليه اللعنة وكان من الخاسرين – وليس من الكافرين-!.

الديانات الثلاثة الآنفة وطرائق تفسيرها أو تشريعها لمناهج الحياة لم تقدم شيئا ملموسا في هذا المجال، ولم تقلل نسبة الشرّ في هذا المكان أو ذاك الزمان. العكس هو صحيح على صعيد الواقع. ان نسبة كبيرة من الشرّ المتحقق في عصور اليهودية أو المسيحية أو الإسلام كان صادرا من مرجعيات نصية في أصل العقيدة، مهما كانت مبرراتها الدينية الذاتية.

فهي لا تختلف تاريخيا عن أية كوارث وحروب أو حملات اضطهاد وتصفية منسوبة إلى طغاة أو عتاة أو قبائل متوحشة بما فيها الحروب ضد الإنسانية منذ فجر عهود الكولونيالية (الأهلية منها والدولية) حتى الحروب الأمريكية والبريطانية غير المنتهية.

ان موقف الدين من الشرّ والشرير يتلخص بكلمتين: التبرير، الترويض. وأعتبر التعوذ نوعا من الترويض والتطبيع، وهو سائد ومتبع عند كل ديانات ابراهيم. فهل وظيفة الشرير زيادة اندفاع البشر للتعلق بالله وطلب الحماية والشفاعة منه.

ان وظيفة ابليس في الواقع والحقيقة إشكالية جدا. وبانتفاء ابليس ينتفي الفكر الديني كله ويفقد مبرراته ودعاواه الديماغوجية. وهنا لابد ان نحيي الكاتب الفيلسوف المصري توفيق الحكيم [1898- 1987م] في معالجدته محنة ابليس ورفض الاديان توبته.

هذا يضع أمامنا سؤالا آخر قبل بدء مناقشة السؤال الأول، وهو كيف نواجه الشر، أو كيف نتصرف في مواجهته؟.. يجيبنا كاتب المزمور الأول قائلاً: "في طريق الشرّ لا تقف!".

إننا لا نستطيع أن نمنع الشرّ أو نقاومه، ولكن علينا الابتعاد عنه وعدم المساهمة فيه قدر الامكان.

 

(9)           مراءاة الشر..

السؤال الذي يواجه إنسان اليوم، هو هل يوجد مبرر واحد للعنف؟..

الجواب: هل يمكن عمل شي بشكل نقي وخالص ومن غير نسبة خطأ أو ضرر؟..

هذا بحسب التأويل العلمي، وبحسب السياق الديني، استنادا على الديانات الشرقأوسطية الرئيسة..

هل ثمة مبرر لعنف الإنسان ضد الإنسان؟..

في رأيي، لحظة استخدام الإنسان للعنف، يفقد شرط إنسانيته، لأنه لا إنسان بلا إنسانية. الإنسانية هي انتماء الإنسان للإنسان.

ما الذي منع الديانات الكتابية/ التوحيدية تضمين وصاياها بواحدة تنبذ العنف وتحرمه؟. وإذا كان مثل هذا موجودا عند البعض فلماذا لم يكن كافيا لمنع انخراطها أو تسببها في حروب وحملات تصفية وإبادة؟!.

التوراة- كتاب التناخ العبراني هو المنهج الاساسي للمسيحية والإسلام والبهائية وكل ما يتفرع منها من عقائد وطوائف أو ينسب نفسه اليها من بدع وهرطقات. ومن هنا اعتمادي الاصل الموسوي في قراءة الدين المعاصر، وما تأتّى لي هذا دون قراءات ودراسات معمقة وفي اتجاهات وأغراض متعددة، ومن منطلقات ومدارس فكرية وغيبية متعددة، ناهيك عن مبدئي الاساس في اعتبار نقد الفكر/ الدين، المدخل الأفضل لفهم الفكر ورؤية ثيابه الداخلية. فمن غير قراءة نقدية، لا نحصل على شيء غير التخدير والنشوة السطحية.

دعنا تنوقف ونناقش هذا النص (المقدس): "شرع ابرام يتنقل في الأرض حتى بلغ موضع شكيم الى سهل موره. وكان الكنعانيون يقطنون تلك الأرض، وظهر الرب لابرام وقال له: سأعطي هذه الأرض لذريتك"- (تك 12: 6-7). فما هو المنطق والأساس الذي يقوم عليه هذا النص؟..

أنا لا اعترض على أي شخص يحصل على مكسب، ولا أعترض على من يمنحه/ يهبه/ يبيعه هذا المكسب!.. ولكني لا أستسيغ استلاب شخص ومنح ماله لشخص آخر، مهما كان المبرر والمناسبة؟.. فهاته الجملة الاعتراضية السمجة هي أساس العقيدة الدينية، وأساس الخطاب الديني المهيمن لليوم على قدر البشرية ومصيرها، وسيما في الفضاء ما بين الشرق الاوسط والغرب الاوربي.

الله/ الرب – بمختلف مسمياته- خالق الكل ومالك الارض والسماء، يريد تكريم شخص ما، ولا يجد طريقة لذلك غير اغتصاب حق إنسان ومنحه لغيره.  اليست هاته هي نظرية روبن هود التي عرفت في أوربا القرون الوسطى. وبعد ستة قرون منه، تهرُّ شخصية موسى بن عمران، ويقيم رسالته على نفس النص: "اذهب واجمع شيوخ بني اسرائيل، وقل لهم: ان الرب (يهوه) اله آبائكم، اله ابراهيم واسحاق ويعقوب، قد تجلى لي قائلا: انني حقا قد تفقدتكم، وشهدت ما أصابكم في مصر (العبودية)، وها أنا قد وعدت ان أخرجكم من ضيقة مصر الى أرض الكنعانيين والحثّيين والاموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين، هذه الارض التي تفيض لبنا وعسلا."- (خروج 3: 16- 17). وفي (خروج 13: 5) وغيرها سوف يتكرر النص السابق، ويفتخر يهوه بطردهم أقوام فلسطينية ومنح أرضهم وممتلكاتهم لبني يعقوب الاثني عشرية. وعلى مدى آلاف السنين، لم يُسمع صوتُ اعتراض أو رفض أو تعفُّف من نصٍّ يحرِّض على الاغتصاب والعدوان والشرور.

ان المعنى المنطقي وراء النص السابق، الى غيره من نصوص واعمال يهوه ضد المصريين والكنعانيين عموما، ان يستخرج الخير المحدود من باطن الشرّ العام. فالخير والشر إذن متداخلان في عين ومنطق يهوه، غير قابلين للانفصام. ولليوم نرى السياسة الغربية ومبدأ (ثروة الامم) لآدم سمث – وهو فيلسوف اخلاقي قبل كتابه هذا- تستولد الخير لنفسها، من الأضرار والاستهانة بغيرها من الشعوب والبشر. فبنو إسرائيل خير من الكنعانيين عند يهوه، ومجتمعات الغرب الاوربي والاميركي خير من شعوب آسيا وافريقيا واستراليا واميركا اللاتينية. فالاغتصاب والغزو كمبدأ يعود لعصور الهمجية البدائية، هو المؤسس والرحم الحقيقي -أو العكس-  لفكرة العنصرية المؤسسة نصا في التوراة الموسوية.

نحن اذن امام شيء اسمه (شرّ مقدس)، شر يأمر به الاله، أو يقوم به بنفسه، وعندها، ما هو موقف الإنسان الفرد/ الجماعة؟.. الصمت والانحناء على مضض، أم الرفض المطلق والانتماء لضميره الحي، الاكثر سموا من نصوص الكهنة المنسوبة افتراه للكائن العلوي الاسمى. قبل يومين، قال مطران ايطالي في اعقاب الهزة الارضية في وسط ايطاليا: [The nature is unforegiveable]. هل الطبيعة وراء الكارثة، أم هو صانع الطبيعة وخصائصها. هذا هو الرياء الديني الذي يلعب بالكلمات، لتزوير الحقيقة.

المبرر الوحيد الممكن افتراضه هو الايمان/ (منطق الدين) بضرورة الشرّ للوجود. ومثل هذا التبرير يعود بنسبة الشرّ إلى نفس مصدر الخير. وقد سئل يسوع من أحد الفريسيين عن ماهية ذنب طفل يولد أعمى، فكان جوابه: لا ذنب له، ولكن ليتمجد إسم الله!. ان عدم وجود مبرر منطقي للعبة الخير والشرّ/ الجاني والضحية، مع سيادة واضحة للشر يمنح بعض التساؤلات قدرا من مشروعية. ومن تلك التساؤلات:

-     "لو كان الله يبالي بنا، لكنا نعيش في عالم أفضل بكثير"! *

-     "لو كان الله يبالي بنا وبمشاكلنا، أفليس من المفترض أن يتدخل ويضع حدا لكل ما يحدث في العالم من شرور"؟*..

أصحاب هذه الأديان لا يقفون صامتين إزاء هذه التساؤلات، ولكن مشكلتهم، هي قناعتهم بأن ما يقدمون من أجوبة ومبررات مقنع ويسد باب التساؤل. ولكن قناعتهم لا تلتقي مع قناعات المتسائلين، ويبقى السؤال الوجودي الدائم، يتحدى محدودية التفكير.

 

(10)     مفهوم الشرّ..

هذه المراجعة تكشف اختلافا أو تفاوتا في مفهوم الشرّ لدى كل متكلم بذاته. وفي المنظور الديني المنغلق ينبع مفهوم الشرّ من تعريف الايمان. مشكلة كل دين هي شموليته الطوباوية. ان مجاله هو كل الأرض، وأداته هم كل البشر على الأرض. لكن اتفاق بلايين البشر على مفهوم محدَّد ضيِّق أمرٌ أدنى للاستحالة، ولا يبرره منطق!. لكن الفكر الديني لا يعترف بهذا، وعليه فهو لا يتورع عن صنع جحيم يرسل إليه من لا يتبعونه، في هذه الدنيا وما بعد الموت أيضا، حكما أبديا لا يقبل النقض أو الاستثئناف.

 

أسماء الشرّ..

إبليس، الجن، الشيطان، روح شريرة، ملاك أسود، ملاك ناري، الوحش، المتوحش، الكذاب، أبو الكذابين، الشرير، المؤذي، المعتدي، عدوّ الله، ضد المسيح، عدوّ المسيح، عدوّ البشر، عدوّ السلام، عدوّ النور، إله الظلام، رئيس الهواء، رئيس العالم، رئيس قوات الهواء، رئيس حكومات العالم، القتال، الكداب، الحية، الأفعى، التنين، لوياثان، لوسيفر، المنحرف، المعوج، القلاب، الماكر، المغوي، المضلل، المغري، المداهن، المنافق، المتكبر، القاتل، الحسود، اللص، السارق، النشال، المزور، مثير الشهوات، عدوّ الروح، الشهواني، الجسداني، ملك الجحيم، الكائد، المختال. وبعبارة موجزة كل ما منبعه أرضي جسدي فهو شيطاني.

مثل هذه المسميات تنبع من الشرائع الأخلاقية بما فيها الكتب الدينية. ولكن إلى جانب هذا من الدلالات ذات العلاقة بالإنسان غير متصلة بالمضامين الدينية أو الاخلاقية. بل أن بعض الشرائع الاخلاقية لا تعرف الشرير أو أيا من مسمياته وذلك لأنها تعنى بالتوجيه والارشاد للصحيح والجميل من غير اتباع اسلوب النهي والحظر، مما يبعدها عن تعريف مفردات دلالاتها خارج التوجه. ان الطفل الذي يتعلم الصدق والوفاء والمحبة والمساعدة، ليس بحاجة لتلقينه معاني الكذب والخيانة والكره والإيذاء. وكما يحذّر علم نفس الطفل ان البعض يستخدم اسلوب النهي / السلبي، ويقول للطفل لا تكذب!، مولدا دافعا لدى الطفل لاكتشاف ماهية الكدب، فيغري الطفل بتجربة الكذب ويلتذّ به أو الوقوع فيه؛ كما الآمر مع (لا تخف!). وقد جاءت معظم نصوص الوصايا العشر باسلوب النهي مسبوقاً بحرف النهي (لا). وهو اسلوب سلبي في الخطاب التربوي والاجتماعي. لأنه يتضمن اتهاما ضمنيا بسبق العمد، وكانه يقول: أنت تريد ان تسرق، ولكني أقول لك لا تسرق!. مما يضعف فاعلية الامر. بينما يتضمن تعبير: أحبوا أعداءكم، صلوا لأجل الذين يسيؤون إليكم! تشجيعا معنويا وحافزا للرقي والنبل (promotion).  بنفس المعنى تفتقد بعض الشرائع مسمى خاصا للدلالة على الشرير، لأنها في الأصل لا تعلم به أو عنه.

لقد ساهمت الديانات عموما ولا سيما تلك التي بنت مفهومها للخير على سلبية الآخر، المفهوم النقضي، ساهمت في تضخيم صورة الشيطان وآلية الشرّ وسلطانه المتمكن على الأرض، (المسيحية خاصة) وذلك كمبرر لا ستحالة تطبيق وصاياها الروحانية التي لا تكتمل بغير التحرر من الجسد ورغباته. معتبرة البشريَّ قضاء فترة محكومية على الأرض تحت سلطان الشرير، والذي لا خلاص منه بغير التسليم ليسوع الوحيد الذي غلب الشرير، تحقيقا أو تطبيقا لنص التكوين "هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه" (تك 3: 15).

بنفس المستوى يصدر التعليم الإسلامي عن اسلوب النهي مقترنا بالتوجيه – منطوق الشهادة-، وتشكل التعوذة أحد ركائزه، حيث التعوّذ يكون من الشيطان بمثابة عبارة الاستغفار، أو تمهيدا للبسملة، ناهيك عن جملة النواهي الملقنة وكثرة لعن الشيطان والتعوّذ منه يوميا على صعيد الكلام والثياب والسلوك بحيث تجعل للشيطان حضورا دائما في حياة المسلم أو المسلمة.

إن أضعف الناس من يبرر تصرفاته بالشيطان، أو ينسب إليه كل من لا يجاريه كما يحصل عند بعض المسيحيين، بحسب التعبير المصري (ماتخليش الشيطان يلعب بيك)!. (أهو الشيطان ما يغيرش اصله، لعنة الله عليه!(

هل تجوز لعنة الشيطان أو شتمه أو التطرق إليه؟..

الملاحظ أن التوراة اليهودية ومعظم أسفار العهد القديم خلت تماما من ذكر الشيطان أو إبليس باسمه الصريح، وفي حالات محدودة استخدمت صفات أو دلالات أو كنايات عنه. ففي الفصل الثالث من سفر التكوين ورد في لفظة الحية ولم ترد الاشارة بالاسم الصريح. – ثمة أسفار محددة وردت فيها أسماء مباشرة بكثرة، والمعتقد أما أنها كتبت لاحقا أو أضيفت لاحقا للأسفار-، بالمقابل ورد اسم الشيطان مرات متعددة في كلام يسوع وكان يصف به بعض تلاميذه، وكان لبطرس حصة الأسد في ذلك. ويبقى السؤال عن مبرر ورود هكذا ألفاظ في كتاب مقدس أو في كلام يسوع وهو الابن البار والراعي الصالح، وغالب ابليس ولكنه لا يستطيع أن يمسك لسانه عن الشتيمة أو كظم غضبه. علما أنه عاد وبارك بطرس وميزه عن سواه، كما عاد وبارك المرأة الكنعانية بعدما كان شتمها.

 

(11)     النهي عن الشرّ

افضل طريقة للنهي عن الشرّ أو السوء هي عدم الإتيان على ذكره أو التعريف به، والاهتمام بالفضيلة والجمال والخير وكل ما يبني ويعمّر ويثمر.

ان التعريف بالشر والنهي عنه هو ما جعله سائدا، على طريقة الأفلام البوليسية وافلام الجريمة الأمريكية التي خرّجت مجرمين فنانين وأذكياء في مختلف أنحاء العالم.

أو مكتبة الانترنت المعرفية التي نشرت فنون وتقنيات الإجرام والإرهاب في عالم وأنظمة لا تخلو من الشر.

بدل أن تلعن الظلام أشعلْ شمعة!.

وبدلا من لعنة الشيطان امتنع عن الشرّ والبغي والعدوان وكل ما يسيء لأخيك الإنسان أو الطبيعة!.

هكذا فقط تحافظ على إنسانيتك، بانتمائك للإنسان..

واترك الشعارات والمسميات الجوفاء التي أثبتت عجزها وخيبتها على مدى التاريخ!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعدما كتبت نصف الصفحة في مقدمة هذا الموضوع، اختفت الصفحة فجأة، وبدأ جهاز الكمبيوتر يعيد تنظيم نفسه، تعطّلت معه أدوات الماوس والكيبورد، ولم يعد لي من حيلة غير الانتظار ريثما يعود للعمل وإعادة تشغيل نفسه. هذا يحدث باستمرار ويغير سابق انذار، ومعه تضيع كل المعلومات المستحدثة غير المخزونة خلال العمل. ماذا لو كنت أعمل في معاملة رسمية/ علمية أو صحية مهمّة وتضيع المعلومات ونتائجها فجأة. بالتأكيد هذا يحدث للكثيرين، بل للملايين حول العالم. ولا أحدَ لتشكوه أو تناقشه، لا في مجال الالكترونيات ولا المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، فالأمر مرتبط بالشركة التي مقرها (أبرود). الذريعة المطروحة في العادة هي اننا نجري تحسينات على الشبكة. نجري تحسينات لحماية جهازك من (...). فالذي يهاجم جهازك وخصوصياتك يدّعي عليك وهو يقوم بذلك، أنه يحميك ويحمي جهازك. هل وصلت الفكرة؟!. وأنا أتساءل عمّن وضعنا تحت نير الشبكة العنكبوتية التجسّسية هاته؟.. ولما لم تكن الدولة الوطنية هي المسؤولة عن نشاط الشبكة داخل حدودها وبدون تجاوزات مؤسسات خارجية؟.. بالنسبة لي ما حدث هو ضرر شخصي ونفسي وفكري. ولكون مصدره خارجي فهو عمل شرير وعدواني. وليست في متناولي أدوات الحماية والدفاع. فهذا من منظوري باعتباري المتضرر، هو شرٌّ، وأنا أعرف مصدره، ولكنني عاجز – شأن كثيرين- عن الرد عليه والحد من جبروته الشيطاني. سوف يطرح المخرب في هذا العمل ذريعة لعمله ومن وجهة نظره، مستخدما قوته وصلاحياته أمام من لا يقدر على مواجهته. فهل الشرير العالمي والكوني له ذريعة يستند اليها مبررا ما يقوم به ضدَّ من يعجز عن مقاومته؟.. هذه صورة سريعة وراهنية جدا للشر والشرير الذي يعيش معنا ويؤذينا ونحن عاجزون وخائفون وصامتون أمامه. والآن اعود لتدوين ما حذفه المايكروسوفت بحجّة الحماية والتحسين الشيطاني.  

 

(12)     النّهي بين المزامير والأمثال

       اختص المزمور الأول بالنهي عن الشرّ، ونصه: "طوبى للرجل الذي في مشورة الأشرار لم يسلك، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس. لكن في ناموس الربّ مسرّته، وفي ناموسه يلهج نهارا وليلا. فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، التي تعطى ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل. وكلّ ما يصنعه ينجح. ليس كذلك الأشرار، لكنهم كالعصافة التي تذريها الريح. لذلك لا تقوم الأشرار في الدين، ولا الخطاة في جماعة الأبرار. لأن الربّ يعلم طريق الأبرار، أما طريق الأشرار فتهلك." ويقابلها في الأمثال- الرقم واحد ما نصّه: "يا ابني، انت ملق كالخطاة فلا ترضَ. ان قالوا: هلمّ معنا لنكمن للدم، لنختفِ للبرئ باطلا. لنبتعلهم أحياء كالهاوية، وصحاحا كالهابطين في الجبّ، فنجد كل قنينة فاخرة، نملأ بيوتنا غنيمة. تلقي قرعتك وسطنا. يكون لنا جميعا كيس واحد. يا ابني، لا تسلك في الطريق معهم. امنع رجلك تجري إلى الشرّ وتسرع إلى سفك الدم. لأنه باطلا تنصب الشبكة في عيني كل ذي جناح. أما هم فيكمنون لدم أنفسهم، يختفون لأنفسهم. هكذا طرق كلم ولعب كسب، يأخذ نفس مقتنيه"./ المصدر- التناخ.

     تساؤلات مقتبسة من كتاب (ماذا يعلّم الكتاب المقدس حقا؟)- منشورات برج المراقبة- نيويورك- 2006

* بعدما اعتنق الامبراطور الروماني قسطنطين المسيحية حسب مذهب آريوس عقيدة دينية له، بدأ في انشاء مدينة (قسطنطينة)/ استامبول في ملتقى بحر ايجة بالبحر الاسود، وجعلها عاصمة جديدة للجانب الشرقي من الامبراطورية الرومانية، مع بقاء (روما) عاصمة للجانب الاوربي من الامبراطورية. وقد دعي الجانب الشرقي ومركزه (الأناضول/ أسيا الصغرى) لاحقا بيزنطة وذلك في القرن الرابع الميلادي. تختلف بيزنطة عن الامبراطورية الرومانية بكون ديانتها المسيحية الاثوذكسية وثقافتها ولغتها الإغريقية، وكثير من أباطرتها من قادة الجيش من أصول اغريقية أو من الاناضول. وقد فقدت روما الكاثوليكية في واقع الحال مركزيتها السياسية وعاشت حالة متصلة من الاضطراب وصراعات السلطة ولم تسترجع مكانتها كعاصمة مركزية للامبراطورية، فكانت نهايتها الرسمية  في القرن الرابع. وكانت نهاية (قسطنطينة) سقوطها بأيدي العثمانيين الترك في عهد السلطان محمد الثاني المشهور بالفاتح بمساعدة الهندسة الحربية الالمانية. 

*

 

(13)     سوسيولوجيا الشر..

بدأ تعرّف الإنسان على الشرّ منذ طفولته. فرغم أن الطفل يعيش عامه الأول خارج المفاهيم الاجتماعية المتعارفة، من خير وشرّ، وعيب وحرام، وصح وغلط؛ فأنه ما يني يواجه كلمة النهي الصارمة (لا). إن كان الإنسان لا يولد منحرفا فأنه ما يني يتعلم الانحراف مبكرا في جرعة منشطة، باسم التربية الاجتماعية والدينية، فمع تفتح مدارك الطفل وتمكنه من المشي أو النطق الابتدائي، يبدأ التلقين التربوي سيء الصيت، ذي نتائج سلبية على تكوينه وتربيته..

-     رفض اجتماعي.. عند قيامه بأمر لا ترضى عنه العائلة أو المجتمع.

-     خوف من الآخرين.. خوف من العقوبة.. خوف من المجهول.

-     وجود أشياء سيئة يمكن أن تلحق به الأذى أو تجلب عليه اللعنة لاحقا.

-     عجز.. إزاء عالم من الجن والشياطين والعفاريت والنور الأسود، عالم أقوى من عالمنا، يتمتع بقدرات لا تتوفر لنا ويمكنهم رؤيتنا ولا نستطيع أن نراهم..

-     ايمان بالغيب.. حيث سرّ قوة عالم الجن الخارقة أنهم كانوا ملائكة سماوية، عصت فسقطت على الأرض، وصار هدفها الانتقام من الإنسان (مخلوق من الله) واغراؤه بالسجود له. وسنجد لاحقا أن هذا التعليم، سبب رئيس ليس لانحراف السلوك البشري، وانما لهزيمة البشر أمام الشرّ، وانتصار الشيطان الساحق على البشر، بحيث تبرع الفكر المسيحي بجعله رئيس العالم!.

ليس من السهل تصوّر وقع انعكاس اكتشاف هاته الأمور على عقل الطفل، وبالتالي ترسخ القناعة لديه بضعفه واستسلامه للعقل الجمعي الشعبي دون اهتمام بالمناقشة أو قدرة على الدراسة والبحث عن خيارات أخرى خارج التلقين والفكر الغيبي. ان التلقين الاجتماعي (الديني) المبكر لأطفال قبل أن يبلغوا سن الإدراك ونضج المعارف، أبرز أسباب قوة العامل الديني في لا وعي كثير من الناس، وانقيادهم الأعمى لتعاليم ليس فيها من خير، غير الارتباط القطيعي بالغير. لا غرابة هنا، أن أكثر المجتمعات تعلقا بالتدين، هي تلك التي صرمت شطرا كبيرا من تاريخها في العبودية أو القنانة. مشكلة العبد ليست منعه من استخدام عقله، وانما توارثه العبودية وعدم التفكير عبر الأجيال. وأعتقد هنا أن توارث العبودية أكثر سبقا في التاريخ من توارث المال أو السلطة. لقد أحسستُ بوطأة ذلك شخصيا عندما كنت عاملا في أحدى الشركات الأهلية الكبرى في النمسا، وقد لاحظت وجود مضيعة في الوقت وخسارة في المواد نتيجة نظام توزيع الأعمال على العاملين، فتكلمت مع رئيس العمل بمقترحات لمصلحة العمل، وحين انتهيت من شرح وجهة نظري قال لي وكأنه لم يفهم شيئا، وظيفتك هنا أن تعمل، وليس أن تفكر!. أحسست بصدمة نفسية، وقلت: إن الموضوع يتعلق بمصلحة العمل، وليس مسألة شخصية. ابتسم وقال: الأفضل أن تعود إلى عملك!.

لنوع العمل انعكاس على شخصية العامل أو الموظف. وكلما أمكن تجويد مفاهيم العمل ومستوياته، سوف تنعكس آثار ايجابية على شخصيات العمال. وعند تحسن شخصيات العمال وتطورهم نحو الأفضل سوف تنعكس الايجابيات على عوائلهم والحلقات الاجتماعية التي يتعاملون معها، أو يتحركون داخلها. ففي النصف الأول من القرن العشرين كان لشخصية المتعلم انعكاسات ايجابية على مجتمعه، انعكس في تثاقف المجتمع وطبيعة نظرته للمتعلم، بحيث صار التعلم وارتياد دور العلم غاية اجتماعية. وبقيت النظرة لشخصية الطالب الجامعي أو خريج الجامعة موضع حظوة وتقدير في الدولة والمجتمع. ولكن مع شيوع التعليم المجاني واختفاء التمايز الثقافي والتعليمي بين طبقات المجتمع، خسر المتعلم وخريج الجامعة وحامل درجة الدكتوراه امتيازه السابق، وظهرت قيم جديدة، كالحظوة الحزبية، أو الدرجة الوظيفية والمركز الاقتصادي والمالي، بديلا عنها، في المجتمع الراهن.

عندما كان التعليم محدودا، كان مفهومه ونوعيته ومضامينه في أفضل أحوالها، بحيث تنعكس آلية التعليم نوعيا على شخصيات التلاميذ والطلبة. وكان الطلبة يفخرون بأساتذتهم، ويعملون على تجويد مستوياتهم، ليناهزوا جيل الأساتذة وينالوا تقديرهم وتقدير وجوه المجتمع. لكن نوعية التعليم تراجعت مع انتشاره الأفقي وخسر التعليم مقامه العلمي والاجتماعي الرفيع، سيما مع ابتذال شروطه وآلياته. ولم تعد ثمة أهمية لاستذكار الطلبة لأساتذتهم أو أحد المؤثرين على شخصياتهم. على العكس، صار المدرس والاستاذ الجامعي موضوع سخرية وتندر حول ثيابهم أو طريقة كلامهم أو مواقف شخصية أخرى، ناهيك عن التطاول عليهم من قبل ممثلي اتحاد الطلبة أو الحزبيين والمتنفذين. ففي حين صار أغلب الناس يقرأون ويكتبون بالحد الأدنى، فقدت شهادة التعليم امتيازها الاجتماعي بل العلمي، وظهر من يحمل أعلى الشهادات ويفتقد أبسط الشروط العلمية والأخلاقية لحامل العلم. واليوم يحمل معظم السياسيين ورجال الحكومة وأصحاب العناوين التجارية والاجتماعية درجات الدال، فيما يقدمون أمثلة سيئة في المجال الوظيفي والاخلاقي، وتنتشر الجريمة والفساد في مختلف تفاصيل الدولة والمجتمع، دون رادع أو حياء.

لقد فقدت القيم الاجتماعية أو الأخلاقية قوتها الاعتبارية كعامل توازن وقرار، لصالح النفوذ المالي وشبكة العلاقات المتنفذة وقوة تحكم رأس المال. إن رجل دين غني أكثر شهرة وسطوة من رجل دين فقير لا يعرفه أحد. وسياسي ثري يتوسّط شبكة علاقات ونفوذ، ليس كآخر لا يصل إلى المال ويفتقد علاقات النفوذ الواسعة. ولكن ما هي علاقة رأس المال ودوائر العلاقات الاجتماعية النافذة بالمعيار الأخلاقي؟.. ان الأخلاق ليست جملة مظاهر بقدر ما هي التزام وتضحية، بينما العلاقات الواسعة ورأس المال على العكس من ذلك. المعيار الأخلاقي يحدد علاقة الفرد (المسؤول) بالآخر (المجتمع)، بينما معيار المال والعلاقات تحدد علاقة الفرد بذاته ومصالحه الشخصية. الشخص الأول ينظر إلى نفسه من خلال الآخرين، بينما الشخص الثاني ينظر إلى الآخرين من خلال ذاته.

صدارة المشهد الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي الراهنة، لا تحمل أية معيارية أو امتيازا أو جاذبية، على عكس ما كان عليه الأمر قبل نصف قرن. وقد وفر انتشار وسائل الاعلام والفضائيات فرصا مجانية للطبقة الصاعدة من رجال الدين والسياسة والمال، واستمرار ظهورهم في برامج مختلفة، تشبع غرورهم للشهرة وما وراءها، بينما لم يكن التلفزيون ولا الصحف أيام الدولة الوطنية سوقا لتنابز الوزراء ورجال الدين، وكان الاعلام موضع ثقة ومسؤولية وتهيُّب. وعندما يتنافس الشرفاء والأصلاء في مباريات انتخابات بلدية أو تصدُّر مشروع معين، فإن أنصار النمط الكلاسيكي المحافظ هم الخاسرون، بينما يتقدّمهم المرشحون الجدد المعوّلين على علاقات النفوذ وحركة رأس المال واللعب بالكلام، والبعيدون كل البعد عن الكلاسيكيات الأخلاقية والفكر الاجتماعي الملتزم.

هل هذا يعني أن أبناء الزمن الماضي كانوا أبرارا، ليس فيهم خطاة ولا واحد؟..

ليس هذا هو المقصود تماما.. فقد سبق ذكر أن الشرّ أو العنف قديم، قدم وجود الإنسان، ان أهمية المقارنة تنحصر في وجود عامل أخلاقي قوي ورادع على صعيد المجتمع والمؤسسة، الأمر الذي تراجع بشكل مريع في المجتمع العالمي الراهن، بحيث صار المتحلي بالخلق والملتزم بضميره يبدو كشخص متخلف أو ذي عاهة. فضائحية الشرّ اليوم هي انتشار البراغماتية السلبية، الميكافيللية، الأبيقورية الشعبية كفلسفة عامة في الحياة الراهنة.

 

(14)     الشرّ والسياسة

أو: السياسة والأخلاق..

لقد تغير العالم (الإنسان/ البشرية/ البلدان) تغيرا مفاجئا مع نهاية الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية وتراجع الأنظمة الوطنية والدول القومية، ونحن نعيش بداية عصر جديد أو تاريخ جديد، ليست كارثيته خضوع العالم لهيمنة قوة دولية انفرادية تحتكر آليات القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والعلمي والفضائي لنفسها، مع صدارة الاعلام العالمي، مزدرية بالاجماع الدولي ومنظمات دولية في مقدمتها الامم المتحدة، وانما أكثر من ذلك، تدخل هذه القوة الامبراطورية في مختلف جوانب الحياة المتعلقة بالفرد والجماعة الثقافية والمجتمعات والدول. وهي في كل ذلك تفرض إملاءاتها الخاصة من غير تردد مقترنة بنظام العقاب والثواب (الجزرة والعصا). هذا الوضع المزري لا يعني فقط استلاب هيبة الدول وكرامة المجتمعات وانما دفع التفكير الفردي (قيمة الفرد) إلى أقصى ظلمات العدمية، حيث يجد المرء نفسه مرغما على الانسياق مع الموجة أو الانسحاق. فالمجتمعات التي تتخلص من دكتاتوريات عسكرية تقليدية في داخل البلد، ما تني تجد نفسها تحت وطأة دكتاتورية أجنبية تحاصرها في الداخل والخارج. (ليس هنا مجال تفصيل ذلك من برامج أفلام الأطفال ومناهج المدارس بمستوياتها المختلفة إلى أنماط العمل وعادات المعيشة والغذاء والثياب وبرامج التسلية وثقافة الجريمة وأنماط المنتجات الاستهلاكية التي تحتل كل وقت الفرد وتفكيره وطريقة حياته التي تقاربت في مختلف بلاد العالم، حذو النموذج الأميركي!).

كان السؤال التقليدي: لماذا يتدخل الدين في داخل بيت الزوجية؟.. لماذا تتدخل الدولة في عقل الفرد وأنماط التفكير والثقافة؟؟.. أما اليوم، فثمة برنامج لترويض البشرية جمعاء لنظام علف موحد واختصار العقل لصالح نزعة استهلاكية وعادات سيئة في العلاقات الاجتماعية والغذاء والثياب والمنتجات الالكترونية، والموجهة عموما من مركز انشاء وسيطرة عبر الاتلانتك!.

في هذا المجال قد يختلف كثيرون في الرأي، وينظرون بعين المبالغة أو الموقف المسبق للموضوع، على أن ما أنظر إليه ليس هو المشهد المعاصر بكل تشويشاته، وانما ما سيسفر عنه الأمر بعد عقد أو عقدين.. سيما وان البلدان والمجتمعات تقف اليوم على طريق اللارجعة!.. والأهم من هذا الكلام.. هو اتساع مساحة الشرّ، أو رقعة العنف ونقاط التوتر المهددة في مختلف البلدان..

ما حدث على المسرح الدولي من استفراد قوة واحدة وحيدة بقياد العالم، يتنافى ومبدأ تعددية الأقطاب (النظام القديم) أو مثنوية القطبية (النظام الدولي السالف)، وهو ما يطرح إشكالية جديدة عن مصير ثنائية الخير والشرّ الأرسطية في العالم؟..

في النظام السابق كان لكل طرف أن يصف الطرف المقابل بأنه التنين أو الشيطان، وكانت البلدان الأخرى تتمتع بحرية الانضمام لهذا الشيطان أو الطرف المقابل له، أو الانحياز لذاتها في إطار (عدم الانحياز) أو العالم الثالث كما عرف يومذاك. اليوم انعدمت مثل هاته الخيارات. ثمة قطب دولي واحد، وثمة فرصة واحدة أمام البلدان، مسايرة التنين أو الوقوف تحت أقدامه، موصومة بشعار (من ليس معنا فهو ضدنا).

ان ثنائية الخير والشر، على الصعيد السياسي، تعاني مأزقا صعبا، لا يقبل القسمة على غير نفسه. الولايات المتحدة التي تقود السياسة الدولية من البيت الأبيض في واشنتن، شهدت تضخما سريعا في الخطاب الديني وآلياته الالكترونية والفضائية وتياراته المشتبهة خلال العقد الأخير، والتي انكشفت للعالم بفضل ثورة الاتصالات، المنسجمة أولا واخيرا مع أغراض الأمبراطورية الامبريالية. والمركز الأساسي لقيادة الخطاب الديني تكمن في جنوبي الولايات المتحدة. والطريف هنا، أنه رغم اختلاف التيارات/ الطوائف/ الكنائس الأميركية – ظاهريا-، فإن انسجام خطابها أو اتفاق مشاريعها ووحدة أسسها، ظاهرة تدعو للاستغراب أو الاعجاب، في مدى قدرة السياسة على تقريب برامج عمل الكنائس الطائفية، أو مدى انصياع التيارات الدينية لأغراض المشروع القومي الأميركي!.

وهنا يأتي دور السؤال الملغوم..

الدولة التي كان للنزعة الدينية أثر كبير في ظهورها وصياغة دستورها، والتي تكتب على آلياتها العسكرية تعابير دينية (God bless America) ويشارك قادتها السياسيون والعسكريون الجنود في مراسيم صلاة الشكر، لا تعتبر نفسها غير الملاك الذي جاء يغسل الأرض من الخطايا، أو للقضاء على الشيطان، كما اتضح من تصريحات مساعدي المرشحَين المحافظ والدمقراطي في الانتخابات – قبل الأخيرة. الولايات المتحدة أكثر قناعة واعتدادا اليوم من أي وقت مضى، بكونها مصطفاة لرسالة دينية مقدسة. وهنا يقتضي تحديد: من هو الطرف المقابل/ منه(هم) محور الشرّ اليوم!..

 

(15)     الضمير والانتعاش الروحي..

انت ايها الإنسان لا تستطيع ان تغير العالم

ربما تقدر ان تغير نفسك في الاقل، او تزعمه.. لكنك لن تغير الشرّ ولا تقدر على مواجهته..

في طريق الاشرار لا تقف.. وفي سبل الشرّ لا تتجه..

 

لكن هاته الوصايا والتعاويذ والمحابس الزراقاء التي يرتديها الهنود والشيعة في اصابعهم لن تحمي من شيء..

الشر اليوم يتخلل ذرات الهواء الذي نتنفّسه، واللغة والدراسة ووسائل الاعلام والانترنيت التي تتداولنا بلا حول ولا قوة..

الطريقة التي تقدمها لنا دروس اليوغا هي حماية نفسك..

فرّغْ لك منطقة في داخل دماغك.

اجعل منها حجرتك الشخصية.. ضع في وسطها كرسيا للاسترخاء.. أمام الكراسي نافذة على الهيولى..

من وقت لوقت تدخل حجرتك.. تغمض عينيك وتنظر في نقطة في افق نافذتك..

تعود فيها لطفولتك وتستعيد نفسك النورانية.

تتصل بالسوبريم الاعلى وهو مركز النور اللانهائي..

انت نقطة في النور في النور اللانهائي.

حواليك نقاط مثل نجوم تتلألأ في محيط النور الأنقى.

لا تسمح لدخان السيارات وضجيج الشارع وفوضى حركة المدينة التأثير على حواسك أو النيل من سكينتك الاصلية.

في  اعياد الميلاد لعام 2008 قال البابا شنودة انه يتابع اخبار العالم، ولكنه لا يسمح لها ان تصل الى قلبه.

لأن القلب مركز المشاعر والانفعالات، واذا حصل سوف ينعكس على مظاهر السلوك والمنطق الشخصي

احفظ نفسك من التأثر ولا تسمح لشيء يدخل قلبك..

في الالمانية عبارة تقول: ليكن لك جلد خنزير!..

عندما تعيش في الغابة البشرية التكنولوجية الالكترونية المعاصرة، تحتاج لجلد خنزير وقلب  مغلق نحو الخارج.

اليوغا وجلساتها اليومية المتعددة والمتطاولة تساعد في تصفية الفكر والنفس والخلو لضميرك وعالم الروح الكريشني.. ولا تعبأ بكثير من توافه الدنيا الفانية..

لا ترد على شتيمة أو تهمة أو لوم أو غيرها من ضعفات البشر.

لا تحكم على احد..

لا تكره.. لا تسمح للكراهة والغيرة والانتقام والطمع الوصول لقلبك لأنها كالدود ينخر ويسوس كل القلب والنفس.

انت وحدك تخسر نفسك لو تركت الكلمات والمشاعر والافكار السلبية تنال منك ولو قليلا..

اطرح كل شيء للخارج وانتعش دائما في حجرت دماغك الخاصة بك.

لا تسمح لكائن ما يكون مشاركتك حجرة الدماغ.

الوجود هو نقطة في الدماغ/ الوعي والذاكرة..

اصنع عالمك المفضل الخاص بك.

ولا تترك العالم الفاسد الفاني بكل بهارجه واعلاناته ووعوده الزائفة ينخر في مخك.

هناك فقط.. مع السوبريم والنور الاسمى.

انت لست جسدا.. فالجسد يزول.

لكن النفس تبقى.

وقل مع القائلين..

أنا نور..

ديني هو السلام..

لساني المحبة.

و..

تحية لأبناء النور!

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.