3

:: ذاكرة مبعثرة - ايام مع سالم جبران- 1 - يوميات نصراوي ::

   
 

التاريخ : 17/08/2016

الكاتب : نبيل عودة   عدد القراءات : 1556

 


 

(قصيدة سالم في رثاء محمود درويش - 9 آب 2008)

 

خبر وفاة محمود درويش كان أشبه بكارثة تسونامي. لدقائق جلست بلا حراك. بلا قدرة على استيعاب صحة الخبر. بعد لحظات بدأت أتنقل بين مواقع الانترنت. بدأت صورة محمود درويش تحتل الصفحات الأولى. بدأت أستوعب قساوة الخبر. كان يشغل فكري في نفس الوقت احد أكثر المقربين لمحمود درويش والذي لا ينفكُّ يحدثني بحب غير عادي لمحمود وشعره وانسانيته وشفافيته والطفل الذي يشكل جانبا كبيرا من شخصيته. حدثني عن زيارة محمود الأخيرة له في بيته قبل توجّهه لإجراء عملية القلب الخطرة في أمريكا. كان قلقه على محمود أكبر من قلقه على وضعه الصحي الشخصي. ولم يكن وضع سالم الصحي مطمئنا إطلاقا. انه سالم جبران.. احد رواد حركتنا الثقافية والاعلامية.

 

سالم جبران

جواد بولس

حضر اللقاء الأخير بين سالم ومحمود المحامي جواد بولس، ويبدو ان ما سجله جواد بولس هو الوثيقة التي تنقل تفاصيل اللقاء الأخير وعليه أقتبس ما سجله جواد بولس عن ذلك اللقاء:

" وصلنا بيت أبي السعيد (سالم جبران) وبدأنا بهبوط درجاته. محمود، وبدعابة مألوفة بين أصدقاء "عتاقى"، أخذ ينادي: سالم يا سالم، أبو السعيد... ثوان كنا في صالون أبي السعيد. كان سالم يحاول أن يجيب على النداء بالنداء، لكن الصدر خانه والصوت كان عاجزًا خنيقًا. تقابلا، نسمة على كتف نسمة، فكان العطر فواحًا. لا دمع في المآقي، لكنّه، هكذا شعرت، تصبب بين الحنايا وعلى أطراف الضلوع. تحدثا، صديقان لم يقوَ الزمن على قطع ما عقداه من حبل للمودة، وعهد لم يفسده طول بعاد، ودرب أقوى من الشتات، وهمٍّ أعند من الشقاء.

كان اللقاء خاصا وحميميًا. لم يتحدثا عن قضايا العصر الكبيرة. سالم، بهدوء زائد عن هدوئه العادي وباختصار، شرح عن تردي حالته الصحية وسأل باهتمام واضح وقلق بادٍ عن حالة محمود، ومحمود أجاب بقصاصات حقائق ليعود إلى سالم ليطمئنَّ وليُطَمئِن.

لعبة الألغام أسميتُها فمحمود يعيش ولغم في صدره لا يعرف أحد ميعاد انفجاره، وسالم بعد عملية كاسحة ومزيلة للألغام من صدره. كلاهما يسعى لإبطال وتسخيف لغمه ليضمن سلامة شريكه/رفيقه.

رغم محاولته إخفاء ذلك، إلا أن الوَهن كان باديًا على أبي السعيد. أقلقَنا ضعفه وأخافنا حزنُه البادي. نبرة من يأس خالطت حديثه الممتع وكلما حاول إبعادها عاودَت وسقطَت من طرف لسانه غمّة وهمًّا.

بعد أكثر من ساعة غادرنا بيتَ سالم.الذي تمنى لمحمود عودة سليمة وهو معافى من مرض ومن منفى، ومحمود تمنى لسالم شفاءً كاملًا وراحة بال مصحوبة بسيادة جسد. كانا كنحلتين في مهب الريح محلّقتين على جناحي قدر". انتهى الافتباس.

سالم نقل لي مشاعره اكثر من تفاصيل اللقاء التي اوردها جواد بولس في مقاله. كان يتحدث شعرا عن محمود وصفاته الانسانية ويستعيد ايامهما المشتركة، أيام الدراسة والشباب المبكر والعمل بالصحافة واللقاء الفكري الأيديولوجي الذي وحد بينهما، والهم الوطني الذي شكل مسارا لابداعهما الشعري والسياسي. واللقاءات بعد انتقال محمود للعالم العربي..

وكان سؤالا محرجا يستفزني؟

هل سمع سالم الخبر؟ وكيف سيستقبل رحيل رفيقه؟

كنت بحاجة الى شخص انقل اليه الخبر. كان اكبر من أن أحتمله وحيدا. ولم يكن في ذهني الا سالم جبران، وكنت أعرف وضعه الصحي الحرج.. ولكنه أقرب الناس الى محمود درويش. قلت لنفسي سأحاول ان أبلغه بأان الخبر غير مؤكد. ليبحث بنفسه ويعرف الحقيقة المرة. ومع ذلك كأن شيئاً ما يقول لي إن سالم على علم بالخبر المفجع.

بتردد اتصلت تلفونيا بسالم. تعوّق في الرد. ثم جاءني صوته باكيا، بل يجهش بالبكاء. لم اعد اعرف ماذا علي ان أقول. حبست دمعي. وخفت ان نطقت بكلمة ان انفجر انا ايضا بالبكاء. بعد ان تغلبت على حزني قلت: هناك خبر مؤلم، محمود مات. وصلني صوت سالم: اجل مات. وغابت كل الكلمات من ذهني فأغلقت التلفون.

 

*******

سافرنا في اليوم التالي لتقديم التعازي لأهل الراحل محمود درويش المقيمين في قرية الجديدة، التي لجأوا اليها من قرية البروة بعد ان هُدمت مثل اخواتها البلدات العربية الخمسمائة، كعلامة لا تنسى على بشاعة وحجم النكبة الفلسطينية.

لم يسق سالم. بل سلمني مقود السيارة وهو يقول: لا استطيع التركيز على الشارع  وأضاف: أحلم ان أصل بيت أهله ليقولوا لنا ان الخبر غير صحيح.

كان سالم يحلم باستحالة الموت المبكر لرفيقه وصديق عمره محمود درويش. لأول مرة اشاهد سالم يتعلق بوهم، ويستغرق به بكل وجدانه.

تحدثت مع سالم يوميا تقريبا،لأطمئن على وضعه، عدا زيارته في المستشفى بسبب مشاكل في القلب. شعرت بعد زيارة التعزية ان شيئا يعذبه ويغضبه. فاجأني بعد اسبوع بقوله أنه كتب قصيدة عما يؤلمه من وفاة صديقه. قرأها على مسمعي عبر التلفون بصوته الضعيف المبحوح. طلبت منه ان يعطيني نسخة لأوزعها. قال :"ليست للنشر".

أصرّيت يوميا تقريبا ان أحصل على نسخة، وانه على ضوء ما يكتب عن محمود درويش في وسائل الإعلام يجب نشرها، ليفهم القارئ العربي ان هناك مبالغات وأكاذيب وأوهام أكثر من الحقائق.

كان يصر على رفض النشر. أُصبت بحالة يأس. وبدأت التنازل عن إصراري على نشر قصيدة سالم.

كنت اخبره بما اقرأ في مواقع الانترنت عن تدفق المقالات التي تبني محمود درويش كما يحلو لها، محمود درويش آخر أكاد أجهله. لم تكن دراية لسالم باستعمال الشبكة العنكبوتية، وكان اعتماده الأساسي علي ثم على زوجته بمرحلة متأخرة.

بعد اسابيع قليلة، قال لي سالم انه سينشر القصيدة. قلت متحمسا: ممتاز، سأوزعها بشكل واسع. قال: ولكني لن أنشرها باسمي. قلت الأفضل باسمك، واذا كان ذلك يمنعك من نشرها فلا بأس باسم مستعار. قال: سأنشرها باسم "سعيد الحيفاوي".

هذه القصيدة لم تدخل في كتاب الأعمال الشعرية الكاملة لسالم جبران، الذي صدر بعد وفاته. وهذا نصها كما وزعتها على مواقع الانترنت:

قصيدة لم يكتبها محمود درويش

شعر : سعيد حيفاوي ( سالم جبران)

"القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير"

هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا

"هنالك ورد أقلُّ"

"أنا يوسف يا أبي"

أمامي طقوس كثار وليلٌ طويلٌ طويلْ

"أنا يوسف يا أبي"

ويسعدني ان بحرا من الناسِ حولي

من الطيبين،

من البسطاء،

من الصادقين

ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين

فكلُّ الذّبابِ يحاول ان يتقدّم

وكلُّ الذّئابِ تحاول أخذ مكان

بجانب نعشي، وتتلو صلاة الغياب

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو بإزاحة أمي واخوتيَ الطيبين

وحولي من الزعماء أناسٌ

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي

ليبقى لهم

وبه يعلنون ارتباطي بهم

عندما يقرب الانتخاب

ولو قدروا مزّقوا لحم روحي

انا يوسف يا أبي

انا طيّب، غير اني

قليل السذاجة، يا أبتي

مثلما كنتُ دوما قليل العتاب

انا يوسف يا أبي

كلُّ الناس بلادي وكل بلاد

رفاقي وأهلي

ولكنني لا أزال وسوف أظل الى أبد الآبدين

عدو الذباب!

******

البعض كالعادة السائدة منذ فترة غير قصيرة، حمّلني تهمة كتابة القصيدة وأضاف اسم سعيد الحيفاوي لأسماء عديدة تنسب لنبيل عودة. واليوم انزل عن كتفي اسما عزيزا على نفسي. كنت اتمنى لو كنت قادرا حقا على كتابة نص شعري بهذا التألق.

القصيدة ترجمت أيضا للعبرية ونشرت بالعربية والعبرية في موقع "زاوية أخرى – زافيت أحيرت" العبري.

ديوان شعر غزلي مفقود

كتب سالم جبران بين عامي 2003- 2004، اثناء عملنا سوية في تحرير جريدة "الأهالي" مجموعة قصائد غزلية، احتفظ فيها بدفتر مدرسي عادي. وقد قرأتها وهي خارجة من "الفران"، وقرأها سالم امام عدد من الأصدقاء الأدباء في جلسات خاصة.

ورغم محاولتي الحثيثة على اقناعه بالبدء بنشرها في جريدة "الأهالي" التي كان يرأس تحريرها، الا انه أصر انه لن ينشر شعرا غزليا وقد قارب من السبعين. قلت: "الدهن في العتاقي". وبررت ضرورة النشر بأن كل شعراء العربية واصلوا كتابة الغزل وهم بعد السبعين. وها هو نزار قباني على رأس شعراء الغزل. هل يضرّ به الأمر أم يزيده تألقا شعريا؟

لم يتحرك عن رفضه.

القصائد كتبها سالم باسلوب الشعر المنثور. واعتقد كما أسرّ لي ذلك كل من سمعها، انها من أجمل قصائد سالم، وان نشْرها قد يشكل نقلة شعرية نوعية في شعر سالم وفي شعرنا المحلي، وفي شعر النثر العربي كله. لديه صور شعرية مبتكرة، وخروجا عن النمطية في اللغة والصياغة، وقوة الصور الشعرية وموسيقى الكلمات تعانق الروح.

كلامي لم يساعد ولم أنجح بإقناعه على نشر أي قصيدة. وسالم عندما يصر على موقف لن يغيره الا بعد ان يقتنع بشكل شخصي بدون تدخل "قوى ضغط خارجية".

وظلت نثرياته الغزلية في كهف الدفتر.

بعد وفاته بدأت العائلة تجمع أعماله الشعرية، وجدت زوجته، الى جانب دواوينه الثلاثة، عددا من القصائد تشكل ديوانا رابعا. الا الدفتر. لم يُعثر عليه.

رغم البحث في مكتبته، واوراقه، ما زال دفتره الشعري الغزلي مفقودا.

هل اكذب نفسي؟ هل يكذب من استمع الى قصائده الغزلية أنفسهم؟

كنت الشاهد الأول على ميلاد تلك القصائد. وعبثا حاولت ان أقنعه بنشر بعضها حتى باسم مستعار. وحثثته مرارا ان يطبع قصائده النثرية بملفّات "وورد" ويحضّرها للإصدار في كتاب للمستقبل، فلدينا في "الأهالي" فني غرافيكا.. هكذا يحفظها جاهزة للوقت الذي يقتنع فيه بنشرها.

لم تنجح جهودي.

اسجل هذه الحادثة، لعلّ الدفتر يقع بيد أمينة، او لعلّه ما زال تائها في مكتبته.

nabiloudeh@gmail.com

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.