نقف أخيرًا مع كتاب تحت عنوان «جغرافيَّة التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير»، للباحث الفلسطيني (د. زياد منى). وهو كما ترى يَسْتَبِق البحث بجعل النتيجة عنوانًا. وهذا فِعل أستاذه (د. كمال الصليبي)، الذي جعل نتيجته، أو هدفه، عنوانًا لكتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب». ومن هنا فما عليك أيُّها القارئ أن تجهد، كما لم يجهد المؤلِّف؛ فالنتيجة جاهزة مطروحة سلفًا أمامك على الغلاف، وليس ما بعدها من الكتاب سِوى تحصيل حاصل.
ويحسُن التنبيه هنا إلى التوسُّع الاصطلاحي في استخدام هؤلاء الباحثين مصطلحَ «التوراة» للإشارة إلى القِسم الأوَّل من «الكتاب المقدَّس»، المُسمَّى: «العهد القديم». والأصل أن «التوراة»- أو «البنتاتوش»، كما سمَّاها (اليونان)- إنَّما تعني الأسفار الخمسة الأُولى من العهد القديم: (التكوين، والخروج، واللاويِّين، والعَدد، والتثنية). هذا باصطلاح أهل الكتاب. أمَّا بالاصطلاح الدِّيني، فـ«التوراة» هي الوصايا العشر، (سِفر الخروج، 20: 1-17)، والشريعة الموسويَّة، المصطلَح عليها إسلاميًّا بـ«صُحُف» (موسى). وهي محدودة، جاءت من الإصحاح العشرين من «سِفر الخروج» وما يليه في هذا السِّفر، ثمَّ في «سِفر اللاويِّين»، و«سِفر العَدَد»، حيث مكالمات الربِّ لموسى، المستهلَّة بالعبارة النمطيَّة: «وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا». وفي الشريعة تفصيل المخالفات والعقوبات والغرامات، حتى إن هناك قانونًا جنائيًّا للثور إذا نطحَ إنسانًا فماتَ، فإنه: «يُرْجَمُ ولاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ [أي لحم الثور، طبعًا!]. وأَمَّا صَاحِبُ الثَّوْرِ فَيَكُونُ بَرِيئًا. ولكِنْ إِنْ كَانَ ثَوْرًا نَطَّاحًا مِنْ قَبْلُ، وقَدْ أُشْهِدَ عَلَى صَاحِبِهِ ولَمْ يَضْبِطْهُ، فَقَتَلَ رَجُلًا أو امْرَأَةً، فَالثَّوْرُ يُرْجَمُ وصَاحِبُهُ أَيْضًا يُقْتَلُ!»(1)
هذا ما قد يمكن القول إن شَذراته المتبقية- التي يصعب تحديدها بصورة قطعيَّة- تُعزى إلى عهد (موسى)، قبل القرن العاشر قبل الميلاد، وما عداه أمشاجٌ من التاريخ، والأنساب، والأساطير، البابليَّة وغير البابليَّة، ومن الشِّعر، والقصص الغراميَّة، والتراجيديّات، والأمثال، والشروح، من إنشاء الكهنة على مرِّ العصور، توارثوها، كمأثورات شعبيَّة، وأورثوها لاحقيهم. وحتى الأسفار الخمسة المشار إليها، فإنَّما معظمها من تدوين الكهنة أيضًا. ذلك أن «التوراة» مزيج من ثلاثة عناصر:
1- عنصر يُنسب إلى ما خاطب الربّ به (موسى).
2- عنصر يَرِد على لسان (موسى)، فهو من كلامه هو، لا من كلام الربّ.
3- عنصر يأتي على لسان رواي الأسفار: قَصًّا، أو شرحًا، أو إيضاحًا لسياق العنصرَين السابقَين.
فـ(سِفر التكوين)، بما حمل من أساطير بابليَّة عن الخلق، ومن سلاسل أنساب للبَشَر، منذ أبينا (آدم)، ومن أحداث التاريخ وأقاصيص الأسلاف وسِيَرهم ورحلاتهم في الأرض، لا يمكن أن يعود كلّه إلى (موسى)، بطبيعة الحال، فضلًا عن أن يكون وحيًا يُوحى، أو كلامًا خوطب به موسى من ربّه. و(سِفر الخُروج)، ليس كلّه- نصوصيًّا ولا منطقيًّا- من موسى في شيء، اللهم إلّا ما فيه من اقتباسات منسوبة إليه، من تعاليم وتوجيهات، وبخاصَّة الوصايا العشر. فلم يكن موسى ليسرد على الناس سيرته الذاتيَّة، ورحلته الخارقة من (مِصْر) إلى (فلسطين)، وما كان ليقصَّها على شعبه وهم معه، مرافقين في تلك الرحلة، فضلًا عن أن تكون تلك السرديَّة قد جاءت عن الله، أو عن ربّ الشعب المختار (يَهْوَه). وإنَّما يمكن أن يُعدّ هذا السِّفر ضربًا من التراجم وأدب الرحلات، فيه تدوينٌ تاريخيٌّ لرحلة (بني إسرائيل) من مِصْر لاحتلال (أرض كنعان)، وحكاية ما اعتورت الرحلة من مفارقات وظروف صعبة، دوَّنها راوٍ في وقتٍ لاحق. كما أن بعض التفاصيل الشارحة في (سِفر اللاويّين) وفي (سِفر العدد)، وتلك التي تحكي بضمير الغائب عن أعمال موسى، وعن معاناته مع الشَّعب، إنَّما هي حكاية عنه، لا يستقيم في عقلٍ سويٍّ أنها كانت صادرة منه، ولا من ربِّه. وينطبق هذا على السِّفر الخامس، (سِفر التثنية). على أن في هذا السِّفر ما يَرِد بضمير المتكلِّم (موسى). ما يُفهم منه أنه من قصصٍ منسوبةٍ إلى موسى يحكي فيها عن تجاربه المريرة، لا من وحي ربّه. فهذا السِّفر كذلك حكاية من الحكايات، لا يُعقل أن يكون مصدره كلّه موسى، ولا ربّ موسى. حتى إن هذا السِّفر ليحدِّثنا عن موت موسى، وأن قبره ظلّ مجهولًا إلى أيَّام كاتب هذا السِّفر. والكاتب يخبرنا عن سِنّ موسى عند وفاته، وعن حالته الصحيَّة، وأنها أقيمت عليه مناحة شهرًا: «فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ. وَدَفَنَهُ فِي الجِوَاءِ فِي أَرْضِ مُوآبَ، مُقَابِلَ بَيْتِ فَغُورَ. ولَمْ يَعْرِفْ إِنْسَانٌ قَبْرَهُ إلى هذَا اليَوْمِ. وكَانَ مُوسَى ابْنَ مِئَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَاتَ، ولَمْ تَكِلَّ عَيْنُهُ ولاَ ذَهَبَتْ نَضَارَتُهُ. فَبَكَى بَنُو إِسْرَائِيلَ مُوسَى في عَرَبَاتِ مُوآبَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا. فَكَمُلَتْ أَيَّامُ بُكَاءِ مَنَاحَةِ مُوسَى.» وبذا فإن العهد القديم، في مجمله، مُصنَّفٌ بَشريٌّ، مضمَّنٌ شواهد متناثرة واقتباسات هنا وهناك منسوبة إلى ربّ الجنود. وهو، على ذلك، مُصنَّفٌ بَشريٌّ جماعيٌّ، نُسِج على مدَى قُرون متطاولة، لا تقلّ عن ألف سنة. دِينيًّا، ليس بمقدَّسٍ كلّه، إذن، وما ينبغي له، حتى لدى أهله، إلّا بالمعنى الشعبي، بوصفه مأثورًا تراثيًّا عزيزًا على القوم. أي أن مصدره- عدا ما استثنيناه أعلاه- ليس الربّ، أو الغَيب. ولا يعتقد هذا حتى عقلاء اليهود أنفسهم؛ فهم يدركون أنه مصنَّفٌ تراثيٌّ، كأيِّ مصنَّفٍ تراثيٍّ آخر، مع ما يحمل من شذرات مُوسويَّة، تأتي بين حين وآخر في محيط زاخر من الأسفار القصصيَّة. وتاريخيًّا، لا يصلح تاريخًا بالمعنى العِلْمي لمصطلح «تاريخ»، حتى لو كان أصلُ وضعه وأهدافُ كتابته تصنيفَ كتابٍ في التاريخ؛ وذلك للظروف التي أحاطت به وبكَتَبَته على امتداد مئات السنين. ولهذا كان (أدموند جاكوب) يصرِّح بأن ما يقصُّه العهد القديم عن موسى والآباء لا يتّفق إلّا قليلًا مع السرد التاريخي للأحداث، لكن الرواة في مرحلة النقل الشفهي أضفوا من خيالهم وأساليبهم في السبك القصصي ما أفرغ تلك الروايات في قوالب معقولة لدى بعض المتلقِّين.(4)