سألتُ أبي، الخوري مارون، ذاتَ غروبٍ أيلوليّ:
- لا أراك، يا أبي، إلّا ووجهك يرتدي الفرحَ! كيف تستطيع!؟ ما سِرُّك في هذا!؟
- بل كيف لا أستطيعُ، يا لَلّوس!؟
- هل الأمرُ على هذه البَساطة!؟
- طبعًا، يا بني! طالما أنّ الأمرَ طَبْعٌ فيك!
- على الرّغم من الورق الأصفر المتساقط يهترئ...
- يأتي الرّبيع فتورق الأشجار وتُزهِر الطّبيعة!
- وعلى الرّغم من المآسي!؟
- لماذا تعتبرُها مآسيَ؟
- وما تكون الشُّرورُ والأمراضُ والكَذِبُ والحِقد والحسد والبُغض والقتْلُ والسَّرِقةُ وسائرُ الجرائمِ والموبقاتِ والخطايا...!؟
- هي الحياةُ! وفيها النّواقصُ! وفيها ضعفُ النّاس!
سكتُّ. أطرقْتُ. حاولتُ أُفكّرُ.
حدّقَ فيّ أبي. رأى الحَيرة في عينيّ؛ القلقَ على جبيني؛ التّساؤلَ ملء كِياني؛ هزّ رأسَه النّبيلَ، قال:
- هل قال أحدٌ إنّ الحياةَ كاملةٌ، أو إنّ النّاسَ مِثاليّون!؟ علينا تَقَبُّلُ الواقعِ كما هو. في هذه الحالة لا يغيبُ الفرحُ. تبقى النّفسُ مُشِعّةً، والإشعاعُ ينتقل إلى السِّوى.
- أفهمُ أنّ الفرحَ عَدوى؟
- وحالةٌ جَماعيّة! لا يستطيعُ فرْدٌ أن ينجح. وحده يحزن. يكتئب. وقد ييأس.
سَكَنَهُ الصّمتُ. لكنّه، قبل أن أتهيّأَ للكلام، سألني سؤالًا بدا لي خارجَ الموضوع:
- هل أنتَ مؤمن؟
حاولْتُ أجد، أو أتصوّر، علاقةً لسؤاله هذا بموضوع حديثِنا. ما علاقةُ ذا بذاك؟
وقبل أن تتسنّى ليَ الإجابةُ، سأل من جديد:
- هل أنتَ، حقًّا، مؤمنٌ!؟
- بأيّ مفهوم؟
- هل تشكّ بالله!؟ بالإنسان!؟
- لا أظنّ! ألله موجودٌ! والإنسان يسعى...
- إذًا، فأنتَ، حتْمًا، فرِحٌ!
- وما العلاقةُ بين الإيمانِ والفرح!؟
- ألإيمانُ فرحُ الرّجاءِ! رجاءُ الفرح! والرّجاءُ أقوى من الأمل، هو لا يَخيب. الأملُ بلى!
- وغيرُ المؤمن؟
- يصعب عليه الفرح. غيرُ المؤمنِ لا آفاق ماورائيّة له. يُقفِلُ على نفسه. المُقْفِلُ على نفسه قَرِفٌ من عمره والحياة. ألقَرِفُ كئيبٌ، من أين الفرحُ للكئيب!؟
- وآمالُه والأحلامُ!؟
- يابسةٌ منطفئة! أليباسُ موت! والانطفاءُ ظلمةٌ ممتدّة. أي أنّ هذا اليابسة آمالُه والأحلام، لا يحيا! يكتفي بأن يعيش! ألعيش لا يعني الحياة، وأنت تعرف!
- فكيف يعيش؟
- ظلامًا بظلام! ألعيش أمرٌ بيولوجيٌّ، مادّيّ، حِسّيٌّ، سطحيٌّ بامتياز! فأين لهذا نفسُه والرّوح، وتاليًا، أين له الرّجاءُ والفرح!؟
- إنّه لَأمرٌ صعبٌ!
- ألأرجح: مستحيل!
- إذًا، فالفَرَحُ نفسيٌّ، روحيٌّ، جَماعيٌّ، يُشير إلى إيمانٍ بالله، بالإنسان!
- والفَرِحُ مرتاحٌ مع نفسه، وإليها. مطمئنٌّ، ساكنٌ، مُسالِم. يُحِبُّ الجميعَ، ويُحِبُّه الجميعُ!
- والّذي يعيش، ألا يُمكن له ذلك؟
- من أين، وهو بلا آفاق!؟ ألعيش محدود بمكان، بزمان، بمادّة. والمكتفي بعيش، مُكتَفٍ بمادّة تؤمّن عيشَه، لا حياتَه! ألمكان يُهدَم ويتهدّم. ألزّمان ينقضي. ألمادّة تتحلَّل.
- والحياة؟
- ثوب النّفس والرّوح! وما هو نفسيّ وروحانيٌّ، لا انقِضاءَ له! ففيه الفرحُ والرّجاء!
كم اكتشفْتُ روعةَ أبي، الخوري مارون، وعبقريّتَه، وبساطتَه الغنيّة! اِنتبهتُ: كم غنيٌّ، أبي! كم يحيا فكرَه! وكم فكرُه حياتُه! أبي حبٌّ وفرحٌ متّحِدان، منسجمان، يمارسان الحياة!
لا!لا! ما مات أبي، ولن... ألحياةُ لا تموت!
www.eliemarounkhalil.com
***
من وصايا أبي (5)
ألثّقافة! ألثّقافة!
إيلي مارون خليل