3

:: الزحف المقدس ::

   
 

التاريخ : 17/07/2016

الكاتب : مازن كم الماز   عدد القراءات : 1576

 


 

 

قد يبدو غريبا للبعض تشبيه حشود الأتراك المؤيدة لعودة إردوغان إلى القصر بحشود المصريين المنادية ببقاء عبد الناصر في 9 و10 يونيو 67، أو بحشود 30 يونيو 2012، ربما وجد مدافعون عن الديمقراطية لكن ذلك كان في الواقع زحفا مقدسا، لأجل الزعيم، لا لأجل الديمقراطية أو الشعب، ومن هنا بالذات يستمد "قداسته".. فالعلاقة بين الجماهير والزعيم تشبه جدا العلاقة بين النبي والمؤمنين به، حتى أنها تنافسها أحيانا وتتكامل معها أحيانا... يستحق الموضوع بعض التساؤل، في لحظة ما انتقلت القوة الفعلية إلى الشارع، خرجت الناس إلى الشارع بالملايين أو بأعداد غفيرة بالفعل عجز عن مواجهتها أنصار نظام الإخوان في مصر أو جنود الانقلاب في تركيا، لكنها بدلا من أن تفرض سلطتها أو مصالحها الحقيقية، بدلا من أن تستخدم قوتها الاستثنائية تلك في لحظة أزمة عويصة للنظام القائم كي تنتزع حريتها وتصبح سيدة مصيرها، فإنها اختارت الزعيم، كانت مجرد أداة لصعود الزعيم إلى مكانة لا يفوقها إلا الله.. كان موريس برينتون قد تساءل من قبل: لماذا اختار ملايين الألمان العاطلين عن العمل والمهددين بالجوع في عام 1933 هتلر من بين كل تلك الاحتمالات، التي كان من بينها بلا شك أن يبنوا حياتهم بأنفسهم على أساس العدالة والحرية، ولماذا خرج مئات آلاف الفلاحين وفقراء دلهي، الجوعى فعليا، في أكبر مظاهرة عرفتها المدينة حتى ذلك الوقت لرفض مشروع قانون يسمح بذبح الأبقار لا احتجاجا على ظروف حياتهم اللا إنسانية.. هل انتصرت الديمقراطية حقا؟

بالفعل قد يكون أسوأ إردوغان أفضل من أفضل جنرال، لكن السذَّج وحدهم يتحدثون هنا عن انتصار الديمقراطية، وما أكثرهم بالطبع... ويا لها من ديمقراطية!!

نتأمل هذا الوضع الشاذ: الشارع والزعيم وخصومه يتداخلون في علاقة شديدة الغرابة والسوريالية: السيسي بعد 30 يونيو وإردوغان بعد 15 يوليو يواجهان نفس المأزق: إنهما يستمدان القوة من الشارع لكي يفرضا ديكتاتوريتهما على الشارع أساسا، مهمتهما الأولى ستصبح احتواء الشارع وتدجينه بل وقتل الحياة فيه في نفس اللحظة التي كان فيها الشارع هو ساحة وعنوان انتصارهما... وقع الانقلاب في تركيا في لحظة استثنائية بكل المقاييس، إردوغان الذي انسحب بغضب من قاعة المؤتمر بعد مشادة مع بيريز والذي أمر بإسقاط القاذفة الروسية ليس نفس إردوغان الذي حاول الانقلاب الإطاحة به.. كان للتو قد اعتذر لبوتين وتصالح مع نتنياهو وساهم بقسطه في إيقاف تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا وصرح رئيس وزراءه أنه يقبل ببقاء الأسد لفترة قصيرة، كانت براغماتية الرجل قد انتصرت على النزوع للعب دور البطل في سياساته: بدلا من المضي في سياساته السابقة التي كانت تحمل مخاطر الانزلاق نحو هزيمة تاريخية قد تشبه نكسة يونيو الناصرية البعثية قرر الزعيم البراغماتي أن يتراجع ويكتفي بدور الزعيم، بشكل من الأشكال: كانت تلك هزيمة من دون إراقة دماء، من دون رصاص، مع ذلك كان العقل الساذج، الذي يصر على أن يرى الرجل بطلا، يختلق قصصا سوريالية بهدف تزيين تلك الإخفاقات وتلك الهزيمة على أنها انتصارات.. الحقيقة أن صنّاع الخطاب والعقل العربي والشرقي متخصّصون بهذا النوع من فنون السياسة: البروباغاندا، هم الأقدر على ممارسته ببراعة تحير أكبر العقول... في كتاب الزحف المقدس: مظاهرات التنحّي وتشكل عبادة ناصر، رأى المؤرخ شريف يونس أن مظاهرات 9 و10 يونيو كانت حقيقية وعفوية بالفعل، كان أساسها هو عملية خلق "شعب" أو قطيع يسير وراء زعيمه ومؤسسته العسكرية كأنه رجل واحد، كما في الاستعراضات العسكرية... أنها كانت نتيجة عملية طويلة ذوّبت الشعب في الجيش (الحزب في حالة إردوغان) ثم الجيش في الزعيم.. قال فوكو أن السلطة هي ممارسة في الأساس، علاقة بين قوتين، علاقة سجال وصراع وتأثر وتأثير... في كتاب الحراسة والعقاب يعرف فوكو "الانكشاف الداخلي" بوظيفته المتمثلة في فرض سلوك أو تصرف معين على أي عدد من الأفراد، وبهذا يغدو مقولة سلطة، وظيفة تأديبية خالصة.. والمؤسسات نفسها ليست ماهيات ولا أصول، إنها ممارسات، آليات إجرائية لا تفسر السلطة ولا تؤسسها ما دامت هي نفسها تفترض علاقات السلطة وتستند إليها... طوال سنوات كان دور الجماهير هو التصفيق لقائدها المفدى، كانت قد نسيت وجودها أو أقنعت أنها ليست موجودة إلا من خلال الزعيم فقط، لذلك عندما امتلكت القوة: عندما خرجت بالملايين، الأمر الذي كان محظورا بشدة لدرجة التحريم في مصر عبد الناصر وتركيا إردوغان، وانتزعت بالتالي حرية مفاجئة غير مسبوقة، لم تتمكن في تلك اللحظة من أن تفكر وتتصرف لنفسها أو حتى أن تشعر بوجودها المستقل، فاكتفت بالقيام بما تدربت عليه طويلا: التصفيق للزعيم، لقد انتصرت ثقافة الزعيم الأوحد، وإن أردت: ثقافة القطيع..

قريبا جدا سنرى الزعيم الذي انتصر بفضل الشعب، كيف سيتصرف بعد أن يعيد إحكام قبضته على مؤسسات القمع المتهالكة اليوم وبعد أن يعيد ترميمها.. الجواب بسيط جدا: عندما يربح الزعيم فإن الخاسر الأكبر، الحقيقي، هو الشعب (على سذاجة الاستخدام الدارج لهذه الكلمة في الخطابات السائدة وحتى الهامشية)...

يقدم لنا شريف يونس جزءا آخرا من الجواب على ذلك السؤال، وفي نفس الوقت نصل معه إلى قمة الدراما في القصة: فشريف يونس نفسه قد أصبح أحد المطبّلين للسيسي، من دعاة زحف مقدس نحو محراب زعيم جديد....

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.