3

:: هل حقا طلع الفرنساوي؟ ::

   
 

التاريخ : 22/01/2016

الكاتب : د. إياد قحوش   عدد القراءات : 5953

 


 

 


       كلما قرأت اسما عربيا بين أسماء المرضى الذين أتعامل معهم، يشدني شعور بالتعرف اليهم أكثر، وكثيرا ما أذهب لزيارتهم في غرفهم في المستشفى ليس بصفة طبيب بل كزائر فقط.

أما المريض الذي سأحدثكم عنه اليوم فهو يوسف موسى. وهو رجل في الثمانينات من عمره، أدخل الى المستشفى لاصابته بذات الرئة. ورأيت أن من واجبي أن أستكشف هذا الرجل المشرقي المسن. عندما دخلت غرفته عرفت عن نفسي ولاحظت أنه شبه نائم فحدثت المرأة التي تجلس بجانبه ويبدو من هيئتها أنها مزارعة بسيطة. أجابت على أسئلتي وعرّفتني أن هذا الرجل الممدد أمامنا يملك مزرعة كبيرة قريبة من الشاطئ، وأنه غير متزوج ولا أولاد عنده، وأنه أيضا عاش معظم حياته في مزرعته بين الأشجار التي غرسها والبقول التي يعتني بها والخيول التي يهتم بها كعائلته، أما أهم أصدقائه فهو كلبه تنورين.

استوقفتها هنا وسألت عن سبب التسمية فلم أجد جوابا. الا أنها أخبرتني أن هذا الكلب هو الرابع على التوالي وجميعهم حملوا نفس الاسم. ثم أسهبت تخبرني أنها وزوجها يعملان في مزرعة هذا الرجل منذ أكثر من ثلاثين سنة. وكل ما يعرفونه أن لا أقرباء له ولا زوارا وأنه ما شاهد تليفزيوناً قط ولا استعمل هاتفا ولا استقبل أو أرسل بريدا خاصا، وأنه رجل قليل الكلام، رقيق القلب، كريم النفس ومحب جدا. ثم أخبرتني أنه لايغادر مزرعته الا مرة واحدة في العام وذلك حوالي أواسط أيلول، اذ يصعد الجبل المجاور لمزرعته ويشعل نارا على أعلى قمته ويقضي نهاره هناك وحيدا ثم يعود في المساء وكأنه قد ولد من جديد.

أحسست وكأني أعرف هذا الرجل بعد هذه اللمحة السريعة عن حياته. لكني شعرت برغبة عارمة لمعرفته أكثر، واذ كان قد بدأ بفتح عينيه قليلا، اقتربت منه وسألته: كيفك ياعم؟ فلم يجب لكنه حرك أصابع يده اليمنى، ولما اقتربت منه أكثر أخبرتني مرافقته المزارعة أنها ما سمعته يتكلم لغته الأصلية الا عندما يقف على قبر صغير أقامه عند طرف المزرعة. وضعت يدي في يده فشد قليلا، فأدركت أنه يريدني أن أتابع كلامي بلغتي الأصلية، وهنا خطر ببالي أن أسمعه مقطعا من أغنية لأرى ردة فعله. لكنني احترت في انتقاء أغنية يستلطفها خاصة وأني أدركت من صديقته المزارعة أنه هاجر الى هذه البلاد في الأربعينات من القرن الماضي. هل أغني لفيروز أم لوديع الصافي؟ لا لا قلت في نفسي فهو لا يعرفهما اذ غادر قبل عهديهما بالغناء.

وهنا تبادر لذهني أن أسأله ان كانت أصوله تعود لبلدة تنورين، فكان أن شدّ على يدي مرة أخرى، فسألته ثانية وأية تنورين فيهما السورية أم اللبنانية؟ نظر اليَّ طويلا ولم يجب كأنه ما استوعب السؤال، أو كأن السؤال لم يعجبه، فخجلت من نفسي متمتما: ما أغبانا نحن أبناء هذا الجيل! كم نقسّم ونفصّل ونهتم بالسخافات! وما همّي ان كان من تنورين السورية أم اللبنانية؟ كدت أقول له سامحني على سؤالي لولا أنني لاحظت أنه يريدني أن أتكلم وأتكلم عن أي شيء، فما كان مني الا أن ارتجلت له على لحن "الأوف مشعل" الفلكلورية البيت التالي:

عالأوف مشعل.. أوف مشعلاني

بغنّي تاأعقل .. ول بيزيد جْناني

مش أنت القايل.. رح تبعت رسايل

جاني عزرايل.. مكتوبك ما جاني.

وبينما أنا أغني،لاحظت أن تنفس العم بدأ يزيد من تواتره وبينما كانت يده تشد بقوة على يدي لفتت المزارعة انتباهي الى الدموع التي سالت من عينيه. فأردت أن أغير الحديث شفقة على هذا الرجل المسنّ، وأردت أن أكلّمه عن شؤون البلاد ولكن أية بلاد والبلاد غارقة في حروب وخراب ودمار وفوضى من فلسطين إلى لبنان فسوريا والعراق.

سألته أتريدني أن أحدثك في السياسة؟ فمد يده مشيرا أنه يريد أن يكتب شيئا، فأتيته بجريدة وأسندتها أمامه وأمسكته قلما فكتب: طلع الفرنساوي؟

يا الهي! هذا الرجل لا يزال يعيش في أربعينات القرن الماضي. لا يعرف أي شيء عما جرى مذ ترك تنورين السورية أو اللبنانية في بداية الأربعينات وكانت تحت الاحتلال الفرنسي.

الحمدلله أني لم أخبره عن اسرائيل، أظنه ما كان سيصدقني.

طلع الفرنساوي؟ كيف أجيبه ومن أين أبدأ؟ وما بوسعي أن أشرح في دقائق ما حدث في السنوات السبعين الماضية.

وأنا في هذه الدوامة، دخلت الممرضة واستأذنتنا بالخروج لأنها تريد أن تعطيه أدويته وأن تقوم بالاطمئنان الروتيني عليه. فاغتنمت الفرصة وودّعت الرجل متمنياً له الشفاء العاجل وخرجت.

طلع الفرنساوي؟ لازالت عالقة بذهني وأنا أرددها وأنا في طريقي الى البيت.
طلع الفرنساوي؟

ثم قلت لنفسي وهل خرج البربري والمغولي أولا حتى يخرج الفرنساوي؟



 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.