(30- شهادة الحوليَّات الآشوريَّة، والكتابات الكنعانيَّة والسوريَّة)
أ. د. عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي
-1-
رأينا في المقالات السابقة أن كُتب التاريخ القديمة شواهد بنقيض ما ذهب إليه مؤلِّف كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، لدى (هيرودوت)، و(سترابو)، و(ألينيوس)، و(يوسيفُس)، و(ابن مُنَبِّه)، و(الهمداني). ثمَّ وجدنا أن الكتاب المقدَّس نفسه- الذي جاء الرجل ليُأوِّله تأويلًا جديدًا، متَّخِذًا إيّاه وثيقةً تاريخيَّةً- شاهد عليه لا له أيضًا.
ثمَّ تعال لنذهب بعيدًا، إلى وثائق قديمة ومحايدة تطرَّقت إلى (بني إسرائيل) وإلى علاقاتهم بغيرهم من الشعوب المجاورة، وذلك كالحوليّات الآشوريّة، وسنجدها كذلك شاهدة على الصليبي لا له.
فلقد وردَ في الكتابات الآشوريَّة، التي عثر عليها الآثاريُّون فوق نُصب في عاصمة (آشور): (كالخو/ كلخ)- (النَّمْرُود) حاليًّا، جنوب (الموصل)- وضِمن ما كتبه مَلِك آشور (سلما نصر الثالث)، تخليدًا لانتصاراته الحربيَّة: أن مَلِك (إسرائيل)، واسمه (أَخْآب)، أرسل (ألفَي مركبة)، و(عشرة آلاف من المُشاة)، ليشتركوا مع جيش مملكة (دمشق) الآراميَّة، ومَلِكها (هَدَد عَزَرَ Hadad-ezer) (1)، ومملكة (حماة)، الآراميَّة أيضًا، ومَلِكها (إرحوليني Irhuleni)؛ فشكّل الثلاثة حِلفًا حربيًّا شاميًّا ضدّ مَلِك (آشور)، الذي كان يُهدِّد بلاد (الشام) و(مِصْر) (2). ويذكر مَلِك آشور أنه قد انضمّ إلى ذلك الحِلف كذلك مَلِك العرب (جِنْدِبُ Gindibu') (3)، بألف جَمَّال. ويفتخر المَلِك سلما نصر الثالث بأنه انتصر على هذا التحالف في معركة «قرقر Karkar»- لعلّه (تل قرقور) على نهر (العاصي)، بالقرب من (حَماة)- وذلك حوالَى عام 853 ق.م/ (4)
أ فكان ذلك التاريخ الذي يسجّله الكتاب المقدَّس، وهذا الذي تسجِّله سِجلّات الحوليَّات الآشوريَّة، يدور في منطقتَي (عسير) و(جازان) حقًّا؟!
ولَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ ** إِذا احتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ!
-2-
وممّا يدلّ على الأعراق التي كانت تستوطن بلاد الشام في الألف الثاني قبل الميلاد تلك اللوحات المسماريَّة التي عثر عليها الآثاريُّون، عام 1887، في (تلّ العمارنة/ أخت أتون)، في شَمال صعيد (مِصْر)، وترجع إلى القرنَين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد. وهي مكتوبة بالأكاديَّة والكنعانيَّة. وتتضمّن مراسلات إلى فراعنة مِصْر من بعض ولاة الكنعانيِّين وحكّامهم في (سورية) و(فلسطين). وتتطرّق تلك المراسلات إلى شعوب إقليم الهلال الخصيب، مع الشكوى من شن تلك الشعوب غزوات على الكنعانيِّين. ذاكرةً من بينهم: (الأموريِّين)، و(الحيثيِّين)، و(الحابيرو/ الهابيرو/ الآبيرو/ العابيرو)، الذين يذهب بعض الباحثين وعلماء العهد القديم إلى أن المقصود بهم (العبريُّون). (5)
وإذا رجعنا كذلك إلى النقوش المعثور عليها، في النصف الأوّل من القرن العشرين، في (رأس شمرة)- الواقعة في المدينة المعروفة بـ(أوجريت)، شمال ميناء (اللاذقيَّة) السوري، وهي تعود إلى 1500 قبل الميلاد- وجدناها تشير إلى ما يُفهم منه أن الكنعانيِّين عاشوا حينًا من الدهر في جنوب (فلسطين)، في (صحراء النَّقَب)، وأنهم مهندسو المدن في تلك المنطقة، مثل: (بئر سبع)، و(أشدود)، المتردّد ذكرهما في التوراة. وقد استمرّت سُلطة الكنعانيِّين على هذا الإقليم إلى القرن السابع قبل الميلاد.(6) في حين يتجاهل (الصليبي) كل هذا، محاولًا إقناعنا في كتبه أن بئر سبع هو (حي شباعة) في (خميس امْشَيط)، وأن صحراء النَّقَب هي (ظهران الجنوب)! وكان بإمكانه أن يُضيف، إذن، أن المقصود بـ«أرض جاسان»(7). «أرضَ جازان»، كي تكتمل الطرافة التأويليَّة!
وفي المقال التالي سنقف مع العاديّات المِصْريَّة، لنستقرئ شهادتها كذلك. فقد ذهب بعض المؤرّخين إلى أن (بني إسرائيل) هبطوا (مِصْر) في إثر سيطرة (الهكسوس) عليها، وأن هؤلاء الآسيويِّين الساميِّين قد وفّروا لهم بعض الحماية. ويُرجَّح أن هبوطهم مِصْر كان عام 1650ق.م، وأن خروجهم كان 1220ق.م، استنادًا إلى ما وردَ في التوراة من أن إقامتهم في مِصْر استمرت 430 سنة.؟(8)
وسننظر ما مدى اتفاق ما تُدلي به بعض الكتابات المِصْريَّة القديمة مع الزعم الذاهب إلى أن مِصْر بني إسرائيل كانت (قرية المصرامة) بين (أبها) و(الخميس)، والقول إن بني إسرائيل كانوا يعيشون في (عسير)؟!
قَطَعْتُ إِذا سَمِعَ السامِعو
نَ لِلجُندُبِ الجَونِ فيها صَريرا