3

:: تَعَادُلُ القُــوّة والضَّـعـف - نقطة على الحرف - الحلقة 1206 ::

   
 

التاريخ : 03/06/2015

الكاتب : هنري زغيب   عدد القراءات : 1089

 


 

 

 

       على أَرفع قِمَم جُردِنا العالي شجرةٌ قاسيةٌ عنيدة، بين صفاتِها: تَـحَـمُّـلُها البرودةَ القاسية ثلوجاً دهريةً ورياحاً هائجةً وعوامِلَ طبيعيةً هائلةً، أَكثرَ من احتمال الأَرْز أَو أَيِّ نوعٍ آخرَ من الشجر العالي. إِنها شجرة اللزَّاب، ولها اسمٌ آخَر: "العَرعَر الـمُتَعالي" أَو "عَرعَر الـمرتفعات"، شامخةٌ عندنا عند أَعلى مرتفعات المكمِل (كالقرنة السوداء = 3000م) وقِمَم محميَّتي إِهدن وتنورين، على ارتفاع يعلو عن 2500 متر.

       من علامات هذه الشجرة أَنها تُعَمِّر عنيدةً قويةً أَكثر من أَلف سنة، تعطي نحو 50 طنّاً من الأُوكسيجين، تمتصُّ كمياتٍ كبيرةً من موادّ الهواء الملوَّث، خَشبُها من أَجْوَد الأَخشاب شديدُ القساوة استُعمِلَ قديماً مقاطع في سكك الحديد، بُذورُها حبّاتٌ صغيرةٌ سوداء بحجْم حبّة العنب، جُذورُها تمتدّ طاعنةً في الأَرض إِلى أَعمقها مخترِقَةً حتى الشقوقَ الصخريةَ الصلدة بلوغاً إِلى قلب التربة العميقة، وتتميَّز بنُسغٍ صُمْغيٍّ عند جذعِها تتغذّى منه أَسرابُ النحل فتُنْتِجُ عسَل اللـزّاب الشهير، أَجْــوَدَ أَنواع العسَل في العالم.

       قدَّمتُ بهذه المعلومات عن هذه الشجرة العنيدة القاسية، لأَقول إِن هذه الجبّارة العالية لا تُنتِج شجرةً أُخرى إِلاّ إِذا اقتاتَ بذورَها طائرُ الكَيْخَن الصغيرُ الضئيلُ، فـمَــرَّت في جهازه الهضميّ وخضعَت لتفاعلٍ كيمياويٍّ في معدته، ثم أَخرجَها لتَسقُطَ في أَرض المرتفعات العالية فتنمو في التربة ثم تَبرزُ نَبتةً فشَتْلةً وتنشبُ شجرةً تعلو حتى 20 متراً وتعمِّر أَلف سنة.

       العِبرةُ من هذَين الكائِنين الـمُتناقِضَين: شجرةٌ عالية عاتية قاسية تَـنبُتُ من بِذْرة يُخرجها من معدته طائرٌ ضئيلٌ صغيرٌ ويمضي جميلاً في الفضاء العالي تاركاً لها الأَرض العالية.

       هي قوّةُ الطبيعة التي لا رَدّ لـمَظاهرها العجيبة الغريبة أَحياناً، تُعلِّمنا أَنَّ لِأَصغر الكائنات دَوراً أَساسياً وحُضوراً حيوياً وفاعليةً ضَروريّةً لانتظام تناسُقِ الكون وتَعادُلِ الضَّعف والقوّة، فإِذا كائنٌ ضامر ضرورةٌ لكائن قاهر، وإِذا عصفورٌ محدود ضرورةٌ لشجر ممدود، كي يفهمَ العُتاةُ أَلاَّ يُهَيمِنوا على الآخرين بـالبطش والسلاح فيتسلّطوا بالنبرة التهديدية والصوت العالي والوعيد الفاحش والسيطرة العمياء، فثمة كائناتٌ صغيرةٌ قادرةٌ على عرقلة بطشهم وسلاحهم وتَسلُّطهم ونَبرتهم وصوتهم ووعيدهم وسيطرتهم، حين في بِذْرةٍ صغيرةٍ تُخرجُها معِدةٌ صغيرة تكمُن هيبة شجرة كبيرة.

       وما يقالُ عن العصفور الجميل الصغير يقالُ عن البلد الجميل الصغير الذي يَـنْـهَـرُهُ ذَوُو القوّة العمياء بالنبرة العالية، غافلِين أَنّ للصغير دَوراً يبلغ أَن يكون أَمتَنَ وأَبقى من القوّة العمياء، بإِيمان أَهله الـمُخْلصين وثِقَتِهم بِــدَوره الرساليّ الفريد الذي يَنجُمُ عنه حجْمٌ في فضاءِ العالم أَكبرُ بكثيرٍ من حجمه الضئيل على أَرضه الضئيلة.                           

 

 

يتم نشر هذا المقال في موقع "جماليا" بالتزامن مع بثّه في إذاعة "صوت لبنان" يـوم الأربعاء 3 حزيران 2015

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.