3

:: محمد المخزنجي.. مساحة كبيرة للدهشة ::

   
 

التاريخ : 06/05/2015

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1583

 


 

 

 

في كتابه الجديد "مساحة صغيرة للدهشة" (مركز الأهرام للنشر) يقدم الكاتب والقاصّ المعروف محمد المخزنجي مختارات من مقالات كتبها على مدى خمسة عشر عاما مابين 1992 حتى 2007، وينسب المخزنجي – وهو مُحِقٌّ في ذلك تماما - ما كتبه من مقالات، وما يكتبه منها، إلى "المقال القصصي"، مستشهدا بتجربة كتاب كبار في "المقال القصصي" مثل هيمنجواى وترومان، ويوسف إدريس ويحيي حقي. ويشير إلى أن عبد القادر المازني كان "أكثر جرأة في تسمية ما يكتبه للصحافة مقالات قصصية". و"المقال القصصي" شكلٌ سرديٌّ مستقرٌّ ومعترفٌ به، وكان جابريل جارسيا ماركيز يصنّفه في خانة الأدب، لكنه قليل الذيوع، ربما لأن المقال القصصي يحتاج في الكاتب الواحد إلي أكثر من روح: إلي كاتب صحفي يتناول ظاهرة اجتماعية أو سياسية ثم إلى أديب يرى تلك الظاهرة ويقدمها بروح السرد الأدبي الأقرب للقصة. في ذلك المجال قدّم جورج أوريل مؤلف رواية "العالم 1984" العبقرية نموذجا للمقال القصصي في كتابه "لماذا أكتب"، ومازلت أذكر منه مقالا ممتعا عن طرق إعداد الشاي المختلفة. 

محمد المخزنجي الطبيب الذي هجر الطب إلى القصة مثلما فعل أنطون تشيخوف ويوسف إدريس وميخائيل بلجاكوف يشغل مكانة خاصة في قلوب وعقول القراء بصفته مبدعَ ومجدّدَ القصة القصيرة الأول بعد إدريس، وأيضا لأنه أحيى من جديد  "المقال القصصي" الذي لم يعد أحد يكتبه، على أهميته وقدرته على النفاذ بالفكرة إلي قطاع واسع من القراء، أبعد من دائرة الأدب البحت. ولا تخفى على من قرأ المخزنجي – قاصا وكاتبا ومفكرا- قدرة الكاتب العجيبة على تحويل كل ما يلمسه من غبار وأخشاب وتفاصيل صغيرة إلى ذهب لامع يستولي على روح القارئ وعقله قبل أن يسطع في عينيه، وهي قدرة سحرية قلَّما تتوفر لأحد على رؤية العالم ورؤية تفاصيله الصغيرة في ضوء آخر خارج السياق المألوف.  

في كتابه الجديد  يندهش المخزنجي من أن "الحيوانات من النوع الواحد –مثل الثعابين– لا تقتل بني جنسها.. أما الإنسان فهو قاتل لبني جنسه بامتياز"، ويدهشنا بحكاية خمسمائة أنثى من إناث الحمير كانت جزءا أساسيا من ركب" سابينا" محظية الامبراطور نيرون، وصارت تلك الإناث تجسيدا للعلاقة بين النعومة والطغيان، بين الضعف والقوة. 

في بعض مقالاته يبعث المخزنجي سيرة أدباء وكتّاب كبار لم يلقوا حقهم من التقدير مثل ابوالمعاطي أبو النجا صاحب "العودة من المنفى" وبالدور الذي قام به عبد الفتاح الجمل في جريدة "المساء" حين قدّم جيلا كاملا من الكتّاب لأن معياره الوحيد كان جودة العمل وليس العلاقات الاجتماعية. في العديد من المقالات الأخرى يبرز المخزنجي الطبيب، العالم، ليحدثنا عن "جنون البقر"، والمفاعلات النووية، وندرة المياه، وعن ظاهرة الإغماء الذي يتعرّض له المراهقون في الحفلات الموسيقية، وعن بركان "مونت تنا"، وزراعة البلاستيك، ويظل المخزنجي خلال كل ذلك محتفظا بمصباحه الخاص الذي يرسل ضوءا خاصا فريدا يجعلنا نرى كل ذلك من منظور جديد.

يقول المخزنجي في مقاله "إنذار مايكل أنجلو" إن: " ما ينقص مدنية نهاية قرننا، وبوادر القرن القادم يتعلق بافتقاد الحب الإنساني وليد الروح وأصل كل جمال حقيقي". وإذا كانت المدنية المعاصرة تفتقد هذا الحب الإنساني، فإن قلب محمد المخزنجي الكاتب عامرٌ به، وفي ذلك تحديدا يكمن سحر الكاتب الحقيقي وقدرته على إثارة دهشتنا بحبه للعالم في زمن يفتقد التعاطف والمحبة وتشيع فيه القسوة كأنما هي قانون الوجود الأول.   

أطلق المخزنجي على كتابه اسم "مساحة صغيرة للدهشة" وقدّم لنا مساحة كبيرة من الدهشة والتساؤلات الانسانية العميقة الجميلة، كما سبق له أن فعل سواء في مجموعاته القصصية البديعة أو كتبه الأخرى مثل "حيوانات أيامنا" وغيره.

وجبت التحية لكاتب نادر، ووجب التقدير لكتاب جميل.

أحمد الخميسي – كاتب مصري

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.