3

:: العابثون بالتاريخ! (8- غزوة بني إسرائيل للحجاز وحكاية التابوت) – رؤى ثقافية 146 ::

   
 

التاريخ : 20/02/2015

الكاتب : أ. د. عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي   عدد القراءات : 1971

 


 

 

 

اقرأ معي اقتباس (د. كمال الصليبي) عن كتاب «التيجان»، وتوجيهه الكلام الوجهة التي يبغي، ثم دعنا بعد ذلك نقارنه بكلام (وهب بن مُنَـبِّه).  يقول (الصليبي) (1): «وهناك صمت في التقليد اليهودي حول مصير تابوت العهد بعد هذا الحدث  والحدث المقصود هنا هو نقل عاصمة (داوود) من (رجال ألمع) إلى (النماص) ووضع التابوت في قُدس أقداس الهيكل الجديد هناك.  وهو بهذا يحاول أن يوحي بأن الخبر الذي سيستشهد به، نقلًا عن كتاب «التيجان»، يدلّ على أن التقليد العربي اليماني كان يعرف مصير التابوت؛ لأن الأحداث كانت تجري بين ظهراني العرب لا في (بلاد الشام).  قال: «أمّا التقليد العربي اليماني الذي دوّنه وهب بن مُنَبِّه... فيقول: لم يزل بنو إسرائيل يزحفون بالتابوت حتى كان في زمن الحارث بن مضاض الجُرْهُمي بعد موت إسماعيل النبي عليه السلام، وبعد موت ابنه ووصيّه نابت بن قيدار بن إسماعيل، فبدّل بنو إسرائيل دين داود وسليمان صلى الله عليهما وانتحلوا على الزبور كتبًا انتحلوها... والمَلِكُ يومئذٍ بمكّة وما والاها الحارث بن مضاض الجُرْهُمي.  فلمّا أتى إسرائيل إلى مكّة... برز إليهم جُرْهُم في مائة ألف، وعملاق في مائة ألف،... فانهزم بنو إسرائيل ومن معهم ورموا بالتابوت.  فأخذته جُرْهُم وعملاق، فأتوا به إلى مزبلة من مزابل مكّة، فحفروا له ودفنوه فيها... فأخذهم الوباء بالغمّ...  فعمد الحارث بن مضاض إلى التابوت في تلك المزبلة فاستخرجه ليلًا.  وأخذه همسيع [بن نابت بن قيدار بن إسماعيل].  وكان عنده يتوارثونه وارث عن وارث إلى زمان عيسى بن مريم عليه السلام، فإنه أخذه من كعب بن لؤي بن غالب.»(2) فما النصّ الأصلي الذي اقتبسه (الصليبي) وحاول إسقاط ما لا يخدم فرضيّاته منه؟  إنه قول (ابن مُنَبِّه) (3): «قال أبو محمَّد: لم يزل بنو إسرائيل يزحفون بالتابوت حتى كان في زمن الحارث بن مضاض الجُرْهُمي بعد موت إسماعيل النبي، صلى الله عليه وسلم، وبعد موت ابنه ووصيِّه نابت بن قيدار بن إسماعيل، فبدَّل بنو إسرائيل دين داود وسليمان، صلَّى الله عليهما، وانتحلوا على الزبور كتبًا انتحلوها، [وأنهم زحفوا إلى أهل الحَرَم، وهم إذ ذاك عملاق وجُرْهُم وبمكَّة بنو إسماعيل، وكان إذ ذاك القائم والوصيّ فيهم بدِين الله ودعوة إسماعيل: همسيع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، صلَّى الله عليهما.]  والمَلِكُ يومئذٍ بمكَّة وما والاها الحارث بن مضاض الجُرْهُمي، فلما أتى بنو إسرائيل إلى مكَّة [زاحفين بمن نصرهم من بني إسحاق والرُّوم الأول من أرض الشام]، برز إليهم جُرْهُم في مئة ألف، وعملاق في مئة ألف، [فقاتلوهم قتالًا شديدًا]، فانهزم بنو إسرائيل ومن معهم، ورَمَوا بالتابوت، فأخذته جُرْهُم وعملاق فأتوا به إلى مزبلةٍ من مزابل مكَّة فحفروا له ودفنوه فيها (4)، [فنهاهم عن ذلك همسيع بن نبت بن قيدار بن إسماعيل، ونهاهم عنه الحارث بن مضاض الجُرْهُمي، فعصوهما وقال لهم همسيع: إن فيه صحف الزبور وفيه السكينة]؛ فأخذهم الوباء بالغمّ، [وكانوا لا يتداركون]؛ فعَمَدَ الحارث بن مضاض إلى التابوت في تلك المزبلة فاستخرجه ليلًا، وأخذه همسيع وكان عنده يتوارثونه وارث عن وارث إلى زمان عيسى بن مريم، عليه السلام، فإنه أخذه من كعب بن لؤي بن غالب.»(5)

وهنا تلحظ حذف الصليبي العبارات التي جُعلت هنا بين أقواس مضلَّعة.  وسبب ذلك الحذف واضح.  ثمَّ علَّق في الحاشية قائلًا: «كان وهب بن منبّه اليماني، على ما يقال، من أصلٍ يهودي، يتقن اليونانيَّة والسريانيَّة والحِمْيَرِيَّة، ويُحسِن قراءة الكتابات القديمة.  والنص الذي لدينا من كتابه «التيجان في ملوك حِمْيَر» هو من رواية عبدالملك بن هشام الحِمْيَري، صاحب السيرة النبويَّة (توفي 216هـ/ 831م).  وقد رواه أسد بن موسى، عن أبي إدريس بن سنان، عن جَدّه لأُمّه وهب بن منبّه.  والخبر المقتبس أعلاه من «كتاب التيجان» يرويه أيضًا الحسن الهمداني في الجزء الثامن من «كتاب الإكليل».  والرواية في «كتاب الإكليل» هي الرواية التي كان الصديق فرج الله صالح ذيب قد أرشدني إليها أصلًا.  وهناك بعض الاختلاف بين الروايتين.  وقد أسقطتُ ما هو مختلف بين الروايتين من الاقتباس.  والنصّ الأصلي الكامل لكتاب «التيجان» لم يُعثر عليه بعد، على ما أعلم.»(6) وهذا الإسهاب في نعت الخلفيَّة الثقافيَّة والمعرفيَّة لدى (وهب بن مُنَبِّه)، والتفصيل في سند الرواية، والإشارة إلى مجيئها من طريق آخر، هو (الهمداني)، كلّ ذلك غايته تأكيد مصداقيَّة الخبر وأهميَّته، بحسبانه شاهدًا قويًّا لقول (الصليبي).  لكنه في الواقع شاهدٌ عليه لا له في مسألة مَواطِن (بني إسرائيل)؛ ولذلك حَذَفَ ما يتعلَّق بذلك من الاقتباس.  والإلحاح على الأصل «اليماني» و«اليهودي» (لابن مُنَبِّه)، وأنه كان يُتقن «اليونانيَّة والسريانيَّة والحِمْيَرِيَّة، ويُحسِن قراءة الكتابات القديمة»، مؤشِّرات على بُطلان فرضيَّات الصليبي.  إذ كيف لم يسمع وهب بن مُنَبِّه قط بأن بني إسرائيل كانوا يقيمون في ديار آبائه وأجداده، في جنوب الجزيرة العربية؟  وكيف لم يتناه إليه قط خبرٌ مما ظلَّ يزعمه الصليبي حول تاريخ بني إسرائيل في تلك الأصقاع؟ 

ثمّ حين نعود إلى صاحب «الإكليل»- لا نجد ما ألمح إليه الصليبي من اختلافات جوهريَّة بين الروايتَين، زاعمًا أنها كانت وراء ما قام به من إسقاط ما هو مختلف بين الروايتَين.  اللهم إلَّا أن رواية صاحب «الإكليل» جاءت مقتضبة في بعض تفاصيل رواية «التيجان».  أمَّا ما أسقطه (الصليبي) من الاقتباس عن (وهب بن مُنَبِّه)، فلا معنى له، إلَّا معنى واحد، وهو تحاشيه الإشارات الواضحة إلى أن (بني إسرائيل) كانوا في أرض (الشام)، وإنما شَنُّوا حملةً على (الحَـرَم)، فرُدُّوا على أعقابهم مهزومين إلى الشام.  وهذا ما وردَ أيضًا في «الإكليل»(7): «...الحارث بن مضاض الجُرْهُمي الذي سلب قومُه تابوتَ بني إسرائيل حين قصدوا مكَّة، وهو التابوت الذي ذكره الله في كتابه: «فِيهِ سَكِينَةٌ من ر‌بِّكُمْ وبَقِيَّةٌ ممَّا تَرَ‌كَ آلُ مُوسَىٰ وآلُ هَارُ‌ونَ تَحْمِلُهُ المَلَائِكَة»، فاجتمعت جُرْهُم، وعدنان، وطسم، وجديس، والعمالقة، وجميع العرب والتقوا ببني إسرائيل لقتالهم فهزموهم إلى بيت المقدس، وأخذوا التابوت على بني إسرائيل، وله حديث يطول شرحه.»

ثمّ أضاف: «قال وهب بن مُنَبِّه: لمَّا أخذ جُرْهم التابوت، هم وعدنان ومن معهم من العرب: العماليق وطسم وجديس، تهاونوا به ودفنوه في مزبلة، فنهاهم عن ذلك الحارث بن مضاض الجرهمي والنبي إسماعيل بن الهَمَيسَع بن نابت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، فلم ينتهوا، فأهلك الله الفريقين جُرهم وعدنان، أهل الحَرَم جميعًا، ولم يبق منهم إلَّا اليسير الذين لم يُرضهم دفن التابوت، وهم القليل حول أربعين رجلًا، والذين هلكوا مئتا ألف ونيّف، أرسل الله عليهم الرُّعاف.  فحزن الحارث بن مضاض على قومه لمَّا هلكوا، وسار على وجهه يسيح في الأرض ثلاث مئة سنة حتى أَلَـمَّ به الكِبَر والهرم والعمَى.  واستخلف على بقيَّة قومه النبي إسماعيل بن الهميسع.  وقال له أن يُخرِج التابوت من المزبلة ويحفظه عنده، ففعل ذلك.»(8) 

فأين ما يسوِّغ به (الصليبي) ما أسقطه من رواية (وهب بن مُنَبِّه) ممّا هو مختلف بينها ورواية صاحب «الإكليل»؟ بل لقد أسقطَ ما هو متَّفِق بين الروايتَين، كنَهْيِ (الهميسع) و(الحارث) قوميهما عن إهانة التابوت، والإشارة إلى أن (بني إسرائيل) جاؤوا غزاة من (بلاد الشام)، لا من جنوب الجزيرة.  وها هو ذا صاحب «الإكليل» يؤكِّد كذلك ما ذكره (وهب بن مُنَبِّه) من شاميَّة هؤلاء الغزاة، بقوله: «فاجتمعت جُرْهُم، وعدنان، وطسم، وجديس، والعمالقة، وجميع العرب والتقوا ببني إسرائيل لقتالهم فهزموهم إلى بيت المقدس».

هكذا، إذن، كان يتعامل الصليبي مع النصوص، باجتزاءٍ وانتقاءٍ وتقوُّل.

 

[للنقاش بقية].

 

(1) (1991)، حروب داود، (عمّان: دار الشروق)، 29.   

(2) م.ن، 29- 30.  

(3) (1347هـ)، التيجان، (حيدر آباد الدكن- الهند: دائرة المعارف العثمانيَّة)، ، 179- 180.

(4) إذا صحَّ هذا الخبر، فإنه يُناقض ما وردَ في (سِفر الخروج، الإصحاح 25) من أن التابوت كان ذا فخامة خاصَّة، وأنه مَطْلِـيٌّ بالذهب النقي من الداخل والخارج، وله إكليل من ذهب، وعلى طرفَي غطائه كَرُوبانِ من ذهبٍ، باسطَين أجنحتهما إلى فوق، مظلِّلَين الغطاء، ووجهاهما كُلُّ واحدٍ إلى الآخَر.  ولو كان التابوت كذلك، لما ألقاه (الجُرْهُمِيُّون) في مزبلة!

(5) يسوق (ابن مُنَبِّه، 184- 186) على لسان (الحارث بن مضاض) تفسيرات تاريخيَّة مهمَّة لتسمية بعض الأماكن بأحداث دارت فيها، ومنها بعض الأماكن التي سُمِّيَت بأسماء ذات علاقةٍ بحملة (بني إسرائيل) على (الحجاز)، كـ(فاران)، و(قعيقعان)، و(فاضحة)، و(أجياد).  ففاران، مثلًا، سُمِّي بهذا الاسم لأن (عمرو بن مضاض)- أخا الحارث- قتل (فاران بن يعقوب، من سبط ابن يامين) على ذلك التلّ؛ فسُمِّي: تلّ فاران.  وأمثال هذه التسميات هي ممَّا درج (الصليبي)، وغيره، على تحميله ما لا يحتمل من التأويلات التوراتيَّة.  ويمكن لباحث أن ينهض بمشروعٍ في تقصِّي ذلك وغيره لتأصيل التسميات الجغرافيَّة تاريخيًّا، بعيدًا عن النهج الحُروفي المجرَّد الذي اتَّبعه هؤلاء التوراتيُّون للربط بين تلك التسميات وما جاء في التوراة.

(6) الصليبي، حروب داوود، 30.    

(7) (د.ت)، بعناية: نبيه أمين فارس (صنعاء: دار الكلمة- بيروت: دار العودة)، 163.

(8) م.ن، 167. ويلفت صاحب «الإكليل» النظر إلى أنها ما زالت في عصره أبياتٌ شِعريَّةٌ (للحارث بن مضاض) حول تلك الأحداث مكتوبةً على (مقام إبراهيم).

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.