3

:: سالم بن سهيل وطارق الشحي.. معنى الوطن والانتماء ::

   
 

التاريخ : 08/02/2015

الكاتب : فاطمة المزروعي   عدد القراءات : 2594

 


 

 

كثيرون هم الأبطال في تاريخنا، وكثيرة هي القصص التي تُروَى عن الوطنية، وعن أناس أدركوا معنى الوطن وترابه الغالي. وعلى امتداد تاريخنا، ومن وسط تراثنا العميق المحمّل بعبق الوطنية وعشق الرمال والجبال والسهول والسماء والبحر، نستشفّ ملامح الوطنية ومعنى الوطن من هذه القصص، التي تحولت مضرباً للأمثال في التضحية وبذل الدم والروح من أجل حماية أرضه، وصون ترابه، والذّود عن مكتسباته. ولقد تراءت أمامي فصول عديدة كانت البطولة عنوانها، والتضحية متنها، وأنا أقرأ إعلان الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية، لاستشهاد ضابط إماراتي هو الملازم أول طارق محمد أحمد الشحي، واثنين من رفاقه ضمن قوات حفظ النظام، في أثناء تصدّيهم لمجموعة إرهابية في منطقة الدية في العاصمة البحرينية المنامة، في إطار مهمة دعم الأمن والاستقرار في مملكة البحرين الشقيقة، ضمن اتفاقية التعاون الأمني الخليجي المشترك.

هذا البطل، الذي نحتسبه شهيداً عند الله، أيقظ في قلوبنا معنى الوفاء، ومعنى العطاء، ومعنى العمل الصادق المخلص، وإن كان هذا النهج غير مستغرَب من أبناء دولة الإمارات العربية المتحدة، الذين عُرف عنهم الوفاء والنجدة لكلّ محتاج، فضلاً عن حبهم المتجرّد العميق لأرضهم ووطنهم.

 

استشهاد طارق الشحي جعلنا نفتح نافذة على الماضي نحو بدايات هذا الاتحاد العظيم، ونستلهم قصة أخرى فيها معانٍ كثيرة من الإيثار والتضحية والفداء لأجل تراب الوطن ورايته، تحتوي في دلالاتها على معنى الوطنية عندما تُولَد مع الإنسان وتنمو وتترسّخ في الذهن والعقل؛ ففي عام 1971م صعدت روح الشهيد سالم بن سهيل بن خميس إلى بارئها، ليسجّل اسمه في التاريخ كأول شهيد إماراتي، وقد لقي مصرعه على يد القوات الإيرانية الغازية عندما هاجمت جزيرة طنب الكبرى في محاولة لاحتلالها، وقد كان الشهيد، في ذلك الوقت، جندياَ يؤدي واجب الحراسة في مركز شرطة جزيرة طنب الكبرى، التي تتبع إمارة رأس الخيمة. وقد حاول الدكتور عبدالله الطابور تخليد ذكرى هذا الشهيد عندما نشر في عام 2007 رواية بعوان "سهيل"، أخَذَنا خلالها في رحلة تاريخية تبدأ من خمسينيات القرن الماضي حتى قيام اتحاد الإمارات في بداية السبعينات، وفي نحو 12 فصلاً تناول المؤلف حياة هذا الشهيد منذ ميلاده حتى استشهاده، وقد خصّص الفصل الأخير من الرواية لسرد العدوان الإيراني على جزيرة طنب الكبرى بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1971. وقال عليُّ، شقيق الشهيد سالم بن سهيل، في تقرير صحفي جميل عنه، نشرته جريدة الإمارات اليوم: "سقط سالم شهيداً حين تحولت جزيرة طنب الكبرى إلى ساحة معركة، بعد أن تسلل إليها جنود الاحتلال الإيراني خلسةً في الليل جواً وبحراً، واستعدّ الجنود الستة في الجزيرة للمقاومة، بعد أن طلب سالم من زميله حنتوش الاتصال من غرفة اللاسلكي بمدير شرطة رأس الخيمة، لإبلاغه بالخبر، ومزّق المنشورات التي ألقاها الجنود، الداعية إلى الاستسلام وعدم المقاومة، ودعا رفاقه إلى المقاومة والدفاع، ورفَض التحاور مع أحد جنود الاحتلال، الذي اقترب من المركز، واشتبك الطرفان، وانهزم جنود الاحتلال في الهجوم الأول، إلا أن إمكاناتهم كانت أكبر، وعددهم كان أكثر". وتابع علي بن سهيل: "واشتدّ الاشتباك بين الطرفين، ونجح سالم في توجيه رصاصات قاتلة إلى قائد المجموعة، ونجح زملاؤه في إسقاط عدد من الجنود قتلى. وحين حاول جنود الاحتلال إسقاط العَلَم بالرصاص، زحف سالم إلى عمود السارية ليحميه بجسده؛ لتنهال عليه الطلقات، ويسقط شهيداً تحتها، ليستمر القتال بعدها نصف ساعة، قبل أن يسقط المركز بعد أن نفذت ذخيرة الجنود". ولتخليد هذا الشهيد وتضحيته وبطولته، أطلِق اسمه على مدرسة للتعليم الأساسي في منطقة المنيعي الجبليّة لتصبح "مدرسة سالم سهيل"، وبالمثل فقد أطلقت مؤسسة "وطني الإمارات" لقب شهيد العَلَم عليه، ليس هذا فحسب، بل لعبت شخصيته دور البطولة في فعاليات يوم العَلَم، و كانت قصة شهيد العَلم كانت مستوحاة من رواية الدكتور سالم حميد، التي روت قصة أول شهيد إماراتي، ورَسَم أحداثها الرسام الإماراتي علي كشواني.

 

اليوم، ونحن ننظر إلى استشهاد طارق الشحي، ونشاهد كل هذا الأثر المدوّي في المجتمع الإماراتي، وتوافُد الشيوخ من أعلى الهرم السياسي في بلادنا حتى الأطفال، في هذا المجتمع المترابط المتحابّ، على سرادق العزاء لمواساة أسرته، وكأن المصاب قد مسّ الجميع من دون استثناء، نستشفّ فضيلة الإنسان الإماراتي، الذي يواجه الهموم والأحزان بقلب واحد، وإرادة واحدة، وبالمثل في مناسبات الفرح والسعادة الجميع يشاركون ويعبّرون عن البهجة والسرور. إننا روح وقلب في السراء والضراء، ودلالات هذا الاتحاد هي النية الصادقة، هي الوفاء للوطن وقادته، هي شعور المواطن الإماراتي بحجم الإنجازات وعِظم القفزات الحضارية التي تخطوها بلادنا الحبيبة في المجالات الحياتية الآنيّة والمستقبليّة كافة، هي نجاح هذه القيادة في إسعاد الشعب، هي في تناغم الناس واستجابتهم لتطلّعات القيادة والتفاعل معها بحب ورغبة واندفاع صادق محمّل بالإخلاص والوفاء.

ومن دلالات هذا التلاحم والتمازج بين ما هو وطني وقيادة وشعب وأرض، والرغبة في ترجمة هذه المعاني لتكون واقعاً حقيقياً، شواهد عديدة، لعلّ آخرها عندما صدر عن مجلس الوزراء الموافقة على مشروع قانون اتحاديّ بشأن الخدمة الوطنية الإلزامية للشباب من سن الثامنة عشرة حتى الثلاثين، وجعلها اختيارية للمرأة؛ فالذي حدث أن الاتصالات انهالت من الشباب وذويهم يسألون متى يلحِقون أبناءهم بالقطاعات العسكرية، برغم أن القرار يحتاج إلى بعض الوقت لترجمته على أرض الواقع، وذلك بتهيئة المرافق والمواقع لاستقبال الملتحقين، كما هو متعارف عليه من إنشاء معسكرات لإستقبال الشباب، وتكوين وحدات لتدريبهم وغيرها من التجهيزات، ولكنّ الذي يدهش أكثر كان اندفاع الفتيات وحماستهن لأداء الخدمة العسكرية، برغم أنها، بالنسبة إليهنّ، جاءت اختيارية وغير ملزِمة. الذي أريد الوصول إليه أن الحماسة الوطنية لدى شبابنا وفتياتنا نابعة من ثقافة أصيلة وعميقة في جذور الآباء والأجداد حول معنى تراب الوطن، وليست وليدة الحاضر، أو نتاجاً لغرس مؤسسات تربوية ونحوها، بل هي أعمق في ذهن الإنسان الإماراتي وحياته منذ القدم؛ فقبل نحو أربعين عاماً لم يكن سالم بن سهيل -رحمة الله- في كلية عسكرية أو مدارس نظامية يتعلّم من خلالها الوطنية والفنون العسكرية في الدفاع عن حياض الوطن، بل هو لم يكن في سنّ تسمح له بأن تكون له خبرات حياتية طويلة أيضاً، لكنه برغم هذا كله، فقد حمل السلاح هو وثلّة قليلة جداً من رفاقه، وتصدّوا للمعتدي المحتل.. فمن عَلّم سالم بن سهيل -رحمة الله- معنى الراية – العَلَم - والدفاع عنه؟ وفي أي مدرسة أو كلية عسكرية نهل هذه القيم؟! لقد جاءت هذه القيم عفوية وببساطة متناهية؛ لأنه إنسان يعظّم الوطن وترابه، وبالمثل يقف اليوم طارق الشحي – نعم يقف – برمزية وشموخ كواحد ممّن بذلوا حياتهم، وقدّموها لواجبهم الوطني في مساعدة الشقيق والعمل معه ومكافحة الإرهاب. رمزية الشهادة، التي وضعها بين أيدينا سالم بن سهيل، وطارق الشحي -رحمهما الله- تتمثل في حب الوطن والبذل من أجل ترابه، وقبل هذا في إقبالهما على الموت من دون خوف، بل بشجاعة، وكأن فيه حياة، ألم يَقُل الله سبحنه وتعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ" (سورة "آل عمران" - الآيات 169- 171)؟

ستبقى بلادنا قوية؛ لأنها تتمسك بقيم الإسلام الحقيقية التي تحث على التسامح والحوار وحرية المعتقد من دون تعصّب وضيق بالآخر، بل باحترام للإنسان وإنسانيته.

 ستبقى هذه البلاد قوية بفكر شيوخها المحبّين لشعبهم، وبوعي هذا الشعب بمواطن الشبهات والابتعاد عنها. ستبقى ذكرى أبطالنا خالدة في الذاكرة على المستوى الفردي، وكذلك على المستوى المجتمعي، ستروَى قصصهم من دون كلل أو ملل، سنرويها كل يوم لأطفالنا بعفوية وحب، وسنبني منهم أبطالاً خالدين في حاضرنا ومستقبلنا. لن تكون تضحياتهم سدىً. ولطارق الشحي -رحمة الله- نقول: سنتغلّب على الإرهاب، وسنقف دوماً مع الأخ والصديق، بل مع أي إنسان ما دام صاحب حق، ويحتاج إلى العون والمساعدة، كما فعلتَ أنتَ. ولسالم بن سهيل –رحمه الله- نقول: سنحرّر الجزر، وستعود إلى حياض الوطن، وسنرفع فيها الراية التي بذلت دمك من أجلها، سنفعل هذا كلّه؛ لأنه من ضمن قيمنا؛ ولأنه من صميم وجداننا وتفكيرنا اليوم وغداً. لن ننسى تضحياتكما، ودماءكما، التي أريقت من دون ذنب أو سبب، وستبقى قصتكما أهزوجة وقيماً ومثلاً ومعاني عظيمة تحمل الخصوصية. ستبقى قصتكما أغنية تنشدها وتنمو عليها أجيال وأجيال.

حمى الله بلادنا وقيادتها وناسها.

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.