3

:: إشكاليات مفهوم الثقافة الوطنيّة ::

   
 

التاريخ : 04/11/2014

الكاتب : عطيّة مسّوح   عدد القراءات : 3034

 


 

 

 

       اسمحوا لي أن أبدأ هذه المحاضرة بقصيدة غزليّة عنوانها: (اختزال) للشاعر الحمصيّ الراحل وصفي قرنفلي، كتبها ونشرها عام 1953:

غَمَزتْ.. وزافُ البنطلــون يلفّهــــا، ســـاقاً وخصـرا

وتأوّدت فــي الضفّتيـــن  تــــأوّد النـَّغمــــات نُضــــرا

ماذا تَرى؟ وترامت اليمنى، وسال الغنج يُسرى

مــاذا أرى؟  سبحــان ما.. وأبيــكِ ما أضمرتُ كفرا

وسجدتُ بالهدبيــن، أمـْسح جسمَهــا،  وأخطّ شعــرا

في السفح قـــافية، أدغدغهــا،  ودون الركن عشــرا

وعلى الشّفـــاه  تقطّر الكرزُ اللذيــذ،  ورفّ عطـــرا

وعلى ظلال الهُدب أغفتْ قبلةٌ، كالخمر، سكرى

أنا شاعر القبلات، بيضاً، ما لهنّ صدى، وحمرا

*

وتكسّـرت  فأخذتهــا، كالكأس،  مُحتَضَناً وصَـــدرا

ونضوت عنهــا،  لو رأيتَ، صــدارها، ينحـلّ فجــرا

ومضيتُ فانتحب السرير ضراعةً، هل قلتُ غيرى؟

ومضيتُ أختزل الهوى سطراً، ودربَ الشعر سطــرا

فتنٌ تقــول: هنــــــا...  وتـــومىء فتنة،  وتهـمُّ أخــرى

*

أيقظـتُ برعمَ نهدهــا،  فجرى على شَفَتـيْ، وَفــــرّا

وأرحــتُ رأســي  فاستطــــــاب مِخدّتيــــه،  واستقـــــرّا

فكأنّ حوض النـــور، بين النّـاهدين،  يموج خـمــرا

وكأنّنـــي حلمٌ، عليــه،  على لُهاث الــورد، أســــرى

ماذا أرى؟ سبحان ما... وأبيكِ ما أضمرتُ كُفْــرا

يا جـــارتا، لو أستطيع، نظمتُ هذا الجسم شِعْرا

*

وتقــــول: سـِـــرٌّ بيننــا. والشِّعر؟ كيف يكــون سرّا؟

 

       سبّبت هذه القصيدة للشاعر الملتزم وصفي قرنفلي بعض المتاعب، وأثارت عليه حملة نقديّة قاسية من بعض رفاق دربه، من النقاد المنتمين إلى الواقعيّة الاشتراكيّة، أو السياسيين الذين تحجّرت عقولهم، فكتبوا مقالات تتّهم الشاعر بالخيانة، والتخلّي عن "القضيّة"، فاضّطُرّ للدفاع عن نفسه، بقصيدة (عتاب) وهذه بعض أبياتها:

ما على الدرب أن نُراح قليلا نمسح الجرح أو نبلّ الغليلا؟

ما على الدرب إن تلمّس قلبي ساعةً تُطفىء اللّظى سلسبيلا؟

مرّ بالثغر – متعباً – فتملّى وأتى النهد فاستطاب المقيلا

يحملُ الزادَ ذكرياتٍ ويمضي إنّ درب النضال كان طويلا

 

وقدّم الشاعر قصيدته بقوله: " قلتُها ردّاً على النقد القائل – وقد كُتِبَ ونُشر – إنّ الغزل لون من الخيانة، وإنّ قصيدتي (اختزال) من النوع المخدّر الخطر."

حكاية هاتين القصيدتين، على بساطتها، تدلّ على ما رافق مصطلحي: الالتزام والثقافة الوطنيّة من إشكالات مفهوميّة وتطبيقيّة، وما نتج عنهما من سذاجة في النقد وقصور في فهم طبيعة الإبداع ووظيفته.

ومصطلح الثقافة الوطنيّة، أحد ثلاثة مصطلحات مترابطة، دخلت عالم النقد الأدبيّ والفنّيّ العربيّ في أربعينيّات القرن العشرين، وهي: الواقعيّة الاشتراكيّة (ويسميها بعض الباحثين الواقعيّةَ الجديدة)، والثقافة الوطنيّة، والالتزام. وكثر استخدام مصطلح الثقافة الوطنيّة في خمسينيّات القرن الماضي، حتّى إنّ مجلّة حملت هذا الاسم ظهرت في بيروت عام 1953 ترأس تحريرها الناقد والمفكّر حسين مروّة وعمل في تحريرها الأديب الناقد محمّد دكروب، وكان حينذاك شابّاً لم يتجاوز الثالثة والعشرين. احتضنت تلك المجلّة أقلاماً شابّة من لبنان وسورية ومصر وغيرها، ومثّلت خطّاً مُحدّداً من الخطوط الثقافيّة العربيّة في أواسط القرن العشرين، هو الخطّ الماركسيّ، الذي يُعبّر عنه فنّيّاً مذهبُ الواقعيّة الاشتراكيّة.

ومذهب الواقعيّة الاشتراكيّة، مصطلحاً ومضموناً، وفد إلى ثقافتنا الحديثة، كما وفدت المذاهب الأدبيّة والفنّيّة الأخرى، نتيجة الثأثّر بالثقافة الغربيّة من جهة، وتلبية لحاجة ثقافيّة موضوعيّة من جهة أخرى. وإذا كانت المذاهب الأدبيّة والفنّيّة المختلفة قد انتقلت إلينا من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، فإنّ الواقعيّة الاشتراكيّة قد جاءتنا من الاتحاد السوفييتي، حيث وُلِدَت، فقد ورد هذا المصطلح أوّل مرّة في التقرير الذي قدّمه مكسيم غوركي في مؤتمر الأدباء السوفييت عام 1934 ومنه انتشر عالميّاً. هذا هو المسرب الرئيس الذي سُرِّبت منه إلينا الواقعيّة الاشتراكيّة، ولا ينفي ذلك حقيقة أنّ ثمّة أدباء اطّلعوا عليها، وأخذوا بعض عناصرها ومضامينها، من خلال صلتهم بالغرب، كسلامة موسى، الذي أمضى سنوات في إنكلترا، وتأثّر بالفكر الاشتراكيّ الفابيّ، وهو أحد تفرّعات الماركسيّة في أوربّا في أوائل القرن العشرين.

 وإذا دقّقنا النظر في هذه المصطلحات الثلاثة، فسنجد أنّ (الواقعيّة الاشتراكيّة) مصطلح فكريّ نظريّ، وأنّ (الثقافة الوطنيّة) مصطلح سياسيّ، وأنّ (الالتزام) موقف شخصيّ.

 فالواقعيّة الاشتراكيّة هي المعادل الفنيّ للماركسيّة، وهي، لدى الماركسيين والاشتراكيين، نظريّة أدبيّة فنّيّة نقديّة متكاملة، تربط الأدب بالواقع وحركته، وتنظر إليه وتقوّمه من خلال محتواه الطبقيّ، وموقفِه من قضايا المجتمع والفئات الكادحة بخاصّة، أي من خلال إسهام الأديب أو الفنان في تغيير الواقع تغييراً ثوريّاً.

 وترى الواقعيّة الاشتراكيّة أنّ الفنّ والأدب شكل ومضمون، وإذا كان الشكل هو الذي يجعل الفنّ فنّاً، ويمنحه القيمة الجماليّة، فإن المضمون هو الذي يمنحه القيمة الإنسانيّة ويُحدّد دوره في النضال الإنسانيّ من أجل التقدّم. ومن وجهة نظر هذا المذهب، فإنّ الأدب يسقط إذا لم يعبّر مضمونه الطبقيّ عن مصالح الكادحين ويسهم في النهوض بوعيهم.

 وقد تبنّى عدد من النقّاد هذا المذهب الأدبيّ، الذي هو في الحقيقة مذهب نقديّ، بل إنّ كلّ المذاهب الفنّيّة والأدبيّة هي مذاهب نقديّة، لأنّ الفنّان أو الأديب قد يفكّر بها وقد لا يفكّر، وقد يدرس أصولها وقوانينها وقد لا يدرس، أمّا النّقّاد فهم من يقومون بدراسة نتاج الأديب وتقويمه انطلاقاً من مذهب ما.

 لهذا، نجد النقاد أشدّ من الأدباء صرامة في النظر إلى الأعمال الأدبيّة والفنّيّة. وسأذكر مثالين، الأوّل هو موقف النقّاد الذين تبنّوا الإبداعيّة أو الرومانسيّة مذهباً، وأخصّ بالذكر عباس محمود العقّاد وإبراهيم عبد القادر المازني وميخائيل نعيمة، فقد كان هؤلاء الأدباء النقّاد الكبار قساة في نقد أحمد شوقي، إلى درجة التحامل وفقدان الموضوعيّة، بينما كان شعراء الإبداعيّة أكثر مرونة وموضوعيّة، فقد دعوا أحمد شوقي، وهو زعيم الكلاسيكيّة الجديدة على مستوى الشعر، إلى الاجتماع التأسيسيّ لجماعة أبولو التي تضمّ شعراء الإبداعيّة، وانتخبوه رئيساً لها (كرّم شوقي مجلّة أبولّو التي التفّ حولها أعضاء الجمعيّة بقصيدة مطلعها " أبولو مرحباً بكِ يا أبولو كأنّك من عكاظ الشعر ظلّ " وهذه آخر شعر كتبه)، لكنّ القدر كان أشدّ قسوة منهم، فتوفّي شوقي بعد أربعة أيّام من انتخابه، وحلّ مكانه خليل مطران.

 أمّا المثال الثاني، فهو من حقل الواقعيّة الاشتراكيّة، فقد عُرِفَ عن رموزها، منظّرين ونقّاداً، التشدّد في نقد النتاج الأدبيّ الذي لا يأتي موافقاً لمنطلقات هذا المذهب، ولعلّ من يقرأ الكتب النقديّة والتنظيريّة التي وضعها سلامة موسى ومحمود أمين العالم وشحادة الخوري وحسين مروّة وجلال فاروق الشريف وغيرهم، سيلمس هذا التشدّد، وسيجد أن المبادىء والمنطلقات الإيديولوجيّة تحوّلت حدوداً وقيوداً، بينما يلمس نزعة إنسانيّة أعمق وأنقى، ورؤى فنّيّة أرحب، لدى مبدعين وجدوا في تلك المبادىء فضاء حلّقوا فيه أحراراً. ويكفينا تأكيداً أن نتذكّر الكثير من أعمال يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وحنّا مينة ومحمّد عيتاني وسعيد حورانيّة ووصفي قرنفلي.. وإضافة إلى المثال الذي ذكرناه عن موقف النقّاد الاشتراكيين من قصيدة قرنفلي (اختزال) نذكر إجابة محمّد مهدي الجواهري عن سؤال وجّهه إليه أحد الإعلاميّين السوريين في مقابلة تلفزيونيّة، قال الإعلاميّ إن بعض النقّاد يعدّونك من شعراء الكلاسيكيّة، ويعدّك بعضهم الآخر من شعراء الواقعيّة الاشتراكيّة فكيف تصنّف نفسك؟ فقال الجواهري ما معناه: لا أعلم، ولا علاقة لي بهذا الموضوع، أنا أكتب القصيدة دون أن أهتمّ بذلك، ثمّ يقول النقّاد ما يقولون.

 المذاهب الأدبيّة إذاً هي رؤى فلسفيّة للأدب، وهي حقل يتجوّل فيه النقّاد، فيزرعون ويحصدون ويصنّفون، ويحدّدون قيمة الأعمال الإبداعيّة، بينما يصبّ الأدباء على أوراقهم فيض أحاسيسهم، معبّرين عن رؤاهم وثقافتهم وتجاربهم، دون أن يحملوا مساطر يقيسون بها أبعاد ما يكتبون ليأتي ملائماً لمقاييس مذهب أدبيّ محدّد.

 ويدفعنا هذا إلى الاستنتاج التالي: إنّ إشكاليات مفهوم الواقعيّة الاشتراكيّة، وبالتالي مفهوم الثقافة الوطنيّة، هي إشكاليات النقّاد لا إشكاليّات المبدعين، هي إشكاليّات نقديّة لا إشكاليات أدبيّة، وهي، في الأغلب، نابعة من علاقة النقّاد بالإيديولوجيا والسياسة، لا من علاقة الأدب بذات الأديب، أو بالمجتمع وقضاياه.

 قلنا إنّ (الثقافة الوطنيّة) مصطلح سياسيّ، وقد عَنى به مستخدموه في أواسط القرن العشرين الثقافةَ المناهضة للاستعمار ومشاريعه في وطننا، وحسب تعبير محمد عابد الجابري فهو مصطلح مقابل للثقافة الاستعماريّة . ولأنّه كذلك فقد اكتسب، شيئاً فشيئاً، دلالات إضافيّة، فمنظّرو الواقعيّة الاشتراكيّة شحنوه بشحنة طبقيّة، فلم يعد المحتوى الوطني المضاد للاستعمار والإمبريالية كافياً لتكتسب الثقافة صفة الوطنيّة، ولا بدّ للنتاج الأدبيّ من مسحة اشتراكيّة على الأقل، لإدخاله مملكة الوطنيّة، وأعطى القوميّون هذا المصطلح مضموناً قوميّاً.. هذه الدلالات الإضافيّة قلّصت طيف الثقافة الوطنيّة، وضيّقت فضاءها، إذ جعلتها مقصورة على ثقافة اليسار أو الثقافة المرتبطة بالقوى اليسارية القوميّة والاشتراكيّة . لكنّ ثمّة تضييقاً آخر أشدّ خطراً لحق بهذا المفهوم، وهو ناتج عن سعي السلطات العربيّة والمثقّفين المرتيطين بها إلى ربطه بتوجّهات هذه السلطات ومصالحها، لدرجة إطلاق صفة "الوطنيّة" على الثقافة المؤيّدة، وحجبها عن الثقافة غير المؤيّدة.

 وواضح أنّ التضييق بكلّ اتجاهاته المذكورة جاء نتيجةً لارتباط الثقافة بالسياسة، ولتغليب النزعة الإيديولوجيّة على الروح الثقافيّة والفكريّة.

 انطلاقاً من هذه الفكرة نقول إنّ نقطة البدء في مناقشة إشكاليّات الثقافة الوطنيّة، مفهوماً وممارسة، هي إنعام النظر في علاقة الثقافة بالسياسة.

 لقد كُتِبَ الكثير عن هذا الموضوع في عقدي الثمانينيّات والتسعينيّات من القرن العشرن، لكنّ قسماً كبيراً ممّا كُتِبَ جاء حاملاً الإشكاليّة ذاتها، إذ طغى فيه الموقف الإيديولوجي على الموقف الفكريّ أو الأدبيّ.

 إنّ الثقافة والسياسة كلّ ثقافة وكلّ سياسة، تعيشان معاً، تربط بينهما علاقة الوحدة والتناقض، فكونهما تعيشان معاً يعني أنّ الصراع بينهما دائم، وأنّه –ككلّ صراع بين متناقضين متّحدين أو متعايشين– يشتدّ ويخبو، حسب طبيعة كلّ منهما، وحسب المرحلة ومقتضياتها.

 لكنّ لتناقض الثقافة والسياسة خصيصة قلّما نجدها بين متناقضين، وهي وجود كلّ منهما في الآخر. وهذا يعني أنّ التناقض موجود بينهما، وداخل كلّ منهما. ففي السياسة ذاتها صراع بين عناصرها الثقافيّة وعناصرها المضادّة للثقافة. وفي الثقافة صراع بين روحها الثقافيّ الصرف ونزعاتها الاجتماعيّة التي تجد في السياسة ترجمتها الواقعيّة. أي إنّ في كلّ منهما ما يدفع باتّجاه الاقتراب من الآخر وما يدفع باتّجاه الابتعاد عنه. وواضح أنّ هذا الصراع الداخليّ يؤثّر تأثيراً حاسماً على الصراع بين الطرفين. فإذا تغلّبت في السياسة العناصر المضادّة للثقافة، غدت السياسة هشّة متخبّطة الخطو، فالسياسة بلا ثقافة عمياء. وإذا تغلّب في الثقافة روحها الثقافيّ الصرف، غدت خيالاً، وانفصلت عن الواقع وفقدت فاعليّتها.

 وإذا كان تناقض الثقافة والسياسة أمراً موضوعيّاً وواقعيّاّ، فإنّ الوصول إلى صيغ ملائمة لدفع التناقض في المسارات الطبيعيّة البنّاءة، يقتضي معرفة وجوهه المختلفة. وسأذكر بإيجاز ثلاثة وجوه لهذا التناقض كنت قد طرحتها في ندوة تحمل عنوان (الثقافة والسياسة) عقدت عام 1999 في المركز الثقافي (ابو رمانة – دمشق) هي:

 1 – التناقض الأساسيّ: وهو المتعلّق بطبيعة كلّ منهما. ففي السياسة نزوع إلى ضبط الحركة في المجتمع، وقنونتها وتوجيهها، وفيها ميلٌ إلى الاستقرار. ومقابل ذلك، تنزع الثقافة إلى التمرّد والحرّيّة، إلى الخروج على القواعد وتجاوز الأطر.

 والسياسة، بطبعها، مشدودة إلى الأحاديّة، أو شيء من الأحاديّة، ويتجلّى ذلك في سعي كلّ جهة سياسيّة للتغلّب على خصومها ومعارضيها، وصبّ القوى في تيّار واحد يخدم أهدافاً محدّدة. أمّا الثقافة فتقوم على التنوّع والتعدّد.

 وقد يقول قائل، ردّاً على ذلك: إنّ ثمّة سياسة ترمي إلى التغيير ولا تميل إلى الاستقرار، وتعترف بالتعدّد والتنوّع. لكنّ التدقيق في هذا الأمر يبيّن أنّ المؤسسة السياسية الهادفة إلى التغيير، تظلّ حريصة على الاستقرار الداخليّ في صفوفها، ولا ترغب بتعدّد الاتجاهات داخلها، وإذا تحوّلت إلى حاكمة، فإنّها ترغب في ألاّ يظهر لها مخالفون وخصوم، وألاّ تشتدّ حركتهم في حال ظهورهم، أي تريد أن ينقاد المجتمع لها وحدها. وهذا نزوع أحاديّ كامن وخفي.

 2 – التناقض العمليّ: ويتعلّق بأساليب كلّ من السياسة والثقافة. فالسياسة ذات نزوع تكتيكي، والثقافة ذات نزوع استراتيجيّ. في السياسة يكون التكتيكيّ المرحليّ محور الاهتمام ومَجْمَعَ القوى، بينما قد لا يكون ذلك مهمّاً للفكر والثقافة. وبالتالي فإنّ السياسة ترى في نزوع الفكر والثقافة الاستراتيجيّ ضرباً من اللاواقعيّة، بينما ترى الثقافة في نزوع السياسة التكتيكيّ ذرائعيّة وزئبقيّة ضروريّة عمليّاً ولكنّها غير مقبولة !

 ولكن، كيف تكون ضروريّة وغير مقبولة؟ هنا نصل إلى فكرة أخرى نوجز الحديث فيها بما يلي: السياسة في أحد تعريفاتها هي فنّ الممكن. إنها تنظر إلى الواقع، وتحدّد المشكلة أو المشكلات، وتحسب القوى، وتصل إلى الحلول الممكن تحقيقها، وتطرحها، وهذا هو فنّ الممكن. لكنّ الممكن هو أقلّ من المطلوب، والقناعة بالحلول الممكنة هي مَقْتَلُ الحركة ومَلْجَمُ التطوّر في المجتمع. وهنا يأتي دور الثقافة التي تشدّ الناس إلى الأعلى، وتدفعهم إلى عدم القناعة بالحلول الممكنة، كي يستمرّوا بالنضال من أجل الأفضل، أي كي تستمرّ الحركة ويتواصل التقدّم. وهكذا، فإذا كانت السياسة فنّ الممكن فإنّ الثقافة هي نقد الممكن.

 3 – التناقض الإضافيّ: وأسمّيه كذلك لأنّه لا يتّصل بطبيعة السياسة والثقافة، وإنّما يتّصل بطبيعة النُخب السياسيّة والثقافيّة، بتربيتها وتكوينها النفسي والسلوكيّ، فكلّما كانت هذه النخب، وبخاصّة السياسية، أقربَ إلى التكوين الديمقراطيّ كان التناقض بين الثقافة والسياسة أقلّ احتداماً، والعلاقة بينهما أكثر إيجابيّة.

حين يدرك السياسيّون والمثقّفون وجوه التناقض هذه، يصبحون قادرين على دفع العلاقة بين الثقافة والسياسة في مسارها السليم، فمعرفة التناقض شرط لازم للتأثير في السيرورة. لكّن الأمر لم يكن كذلك في علاقة الثقافة العربيّة بالسياسة والسلطات في النصف الثاني من القرن العشرين.

 كانت المؤسسات السياسيّة، حكوماتٍ وأحزاباً، تسعى إلى الهيمنة على الثقافة، ودفعها باتجاه التطابق مع أهدافها ومصالحها، وكانت تنشر في صفوف أعضائها ومؤيّديها نزعةً النظر إلى الأدب والفنّ بمنظار الإيديولوجيا والسياسة، وكثيراً ما كانت الأحزاب والحكومات تسلّط الضوء على أدباء ليس إبداعهم في مستوى فنّيّ جيّد، وتسوّقهم إعلاميّاً وشعبيّاً، فيسهم ذلك في إفساد ذوق الناس الفنّيّ. لقد حدث هذا تحت مظلّة (الثقافة الوطنيّة) وشعارات من نوع (الأدب الهادف) أو (الأدب في المعركة) وغير ذلك.

 يقول الكاتب والباحث سيف الدين القنطار في كتابه المهم (الأدب السوري بعد الاستقلال) في معرض حديثه عن رابطة الكتّاب السوريّين: "لاشكّ في أنّ موقفهم من الواقعيّة الاشتراكيّة وصل بهم إلى درجة التزمّت المفرط وقادهم إلى كثير من التساهل الفنّيّ. فالحماسة الشديدة للأفكار والانحياز الجارف لها جعلهم يروّجون أعمالاً لا قيمة أدبيّة ولا فنّيّة تُذكر لها."

 وإذا كان دعم وترويج أعمال أدبيّة ضعيفة هو الوجه الأوّل لهذا الفهم للواقعيّة الاشتراكيّة والثقافة الوطنيّة، فإنّ وجهه الآخر هو استبعاد الكثير من الأعمال الأدبيّة العظيمة، وإلقاؤها خارج دائرة الاهتمام، لأنّها لا تحمل مضموناً طبقيّاً.

 ألقيت مرّة –في أحد المراكز الثقافيّة– محاضرة عنوانها (ضمير المثقّف) تطرّقت في بعض فقراتها إلى علاقة المثقّف والثقافة بالطبقات، وناقشتُ المقاييس الطبقيّة التي يعتمدها بعض الدارسين في مقاربة الأعمال الإبداعيّة، وجاءت استنتاجاتي وخلاصاتي مناقضة لما تواضع عليه تقليديّو الواقعيّة الاشتراكيّة، وفي أثناء المناقشة وقف أحدهم، وردّ على ما طرحتُه، وأكّد أن المقاييس الطبقيّة هي وحدها الصالحة في الحكم على الأعمال الثقافيّة والمثقّفين، وأنّنا لسنا في حاجة إلى الثقافة التي لا تخدم الكادحين.. واستخدم كما هي العادة مصطلحات الثقافة الوطنيّة، الثقافة المعادية للإمبرياليّة والعولمة والاستغلال. وظننتُ أنّي أفحمتُه حين قلت: كيف لنا أن نقيس كبار المبدعين بالمقاييس الطبقيّة، كيف نحكم على أحمد شوقي وبدوي الجبل ونزار قبّاني وأم كلثوم والسنباطي وعبد الوهّاب وعبد الحليم حافظ وغيرهم؟ هل نخرجهم من ثقافتنا؟ لكنّني –ككلّ الحاضرين – فوجئتُ بجوابه، إذ قال بالعامّيّة: بالناقص منهم!

 إنّها بنية فكريّة وثقافيّة ضارّة وقاصرة، ثقّفت الأحزاب والحكومات اليسارية والقومية أعضاءها بها.

 قد لا يُصدّق كثير من القرّاء هذه الحادثة إذا نشرتُها في مجلّة أو كتاب، ولولا معايشتي لأمثال هذا الشخص من خلال عملي السياسيّ لما كنتُ أصدّق أنّ ثمّة من يفكّر هكذا.

 كم كان هذا الفهم للثقافة الوطنيّة ساذجاً! وكم خلّف من أذىً للثقافة والمثقّفين! ألا نتذكّر كلّنا مهزلة فصل أدونيس من اتّحاد الكتّاب؟ ألا نتذكّر قبل ذلك فصل الأديب والمفكّر رئيف خوري من الحزب الشيوعي؟ ألا نتذكّر كثيراً من المثقّفين والمبدعين الذين لم يستطيعوا التعايش مع أحزابهم بسبب مواقفها السلبيّة من المثقّفين؟

 بمثل هذه النظرة يُخرِج بعض النقّاد أعمالاً إبداعيّة كثيرة وكبيرة من دائرة الثقافة الوطنيّة، لأنّها نظرة نقديّة تنحصر في المضامين، ولا يلتفت الناقد أو المقوّم إلى المستوى الفنّيّ والجماليّ.

 تدفع بنا هذه الأمثلة إلى مناقشة مفهوم (الالتزام). فهل من الضروريّ أن يلتزم الآديب أهدافاً وشعارات وتحليلات ومواقف حزبيّة كي يكون أديباً ملتزماً؟

 قلنا في البداية إنّ الالتزام موقف شخصيّ، وهذا يعني أنّ الأديب هو من يحدّد لنفسه ما يلتزم به من أهداف وطنيّة وسياسيّة، وفق رؤاه وقناعاته، وقد يلتقي في ذلك مع هذا الحزب أو ذاك، وقد يختلف في التفاصيل حتّى مع الحزب الذي ينتمي إليه إذا كان منتمياً، قد لا يتعدّى التزامه الخطوط العريضة العامّة، وقد يقتصر على القيم الوطنيّة والإنسانيّة الكبرى، دون التطابق مع الشعارات والممارسات التكتيكيّة لأيّ حزب من الأحزاب، فلا يُخرجه ذلك من إطار الثقافة الوطنيّة، بل إنّ هذا الفهم الواسع للالتزام هو ما يخدم الثقافة الوطنيّة الحقيقيّة. ولعلّ الأديب والمفكّر رئيف خوري كان قد أكّد هذه الفكرة تأكيداً غير مباشر، حين صدّر كتابة الشهير: (الفكر العربيّ الحديث وأثر الثورة الفرنسيّة في توجيهه) الصادر عام 1943، بمجموعة من أقوال المفكّرين، بينها العبارة التالية لغوته:

 "ما معنى أن يكون الإنسان وطنيّاً؟ إذا كان الشاعر منصرفاً مدى حياته إلى محاربة التعصّب، وإزالة النظرات الضيّقة، وإنارة ذهن قومه، وتصفية ذوقهم، وترقية آرائهم وأفكارهم، فقولوا: كيف يمكن أن يكون وطنيّاً على وجه أفضل من هذا الوجه؟"

 إنّ التزام الأديب القضايا الوطنيّة والإنسانيّة الكبرى ليس موقفاً أخلاقيّاً وإنسانيّاً فقط، وإنّما هو موقف سياسيّ، وبهذا المعنى يكون ارتباط الثقافة بالسياسة والحركة السياسيّة أمراً طبيعيّاً... لكنّه ارتباط حرّ، لا يرضى الأديب الملتزم أن يتحوّل إلى قيد لفكره وقلمه حسب تعبير المفكّر خالد محمّد خالد.

 وإذا كانت (الثقافة الوطنيّة) تعني الثقافة المواجهة للاستعمار كما ذكرتُ فى البداية، وإذا كان طرحها قد ترافق بإحياء التراث وتمجيده والتفاخر به من أجل تأكيد الذات ثقافيّاً، فإنّ مواجهة ثقافة العولمة، وإقامة بنى مجتمعيّة عربيّة حديثة وقويّة تحتاج إلى رؤية جديدة للثقافة الوطنيّة، رؤية حداثيّة، تجعل الإنسان العربيّ قادراً على الإسهام في بناء مجتمع ديمقراطيّ متحرّر تحرّراً سياسيّاً واجتماعيّاً وعقليّاً، لا تتحكّم به التقاليد، ولا تثقله أعباء التراث، ولا يبحث في الماضي عن حلول لمشكلات الحاضر.

 لقد لخّص المفكّر الدكتور يوسف سلامة إشكاليّة موقف الثقافة من التراث والحداثة بعبارات موجزة، قال: "الثقافة الحقيقيّة هي الاقتران باللحظة، ومع الأسف، الثقافة العربيّة اليوم في معظمها هروب إلى الماضي متمثّلاً بالأصوليّات، أو هروب إلى المستقبل متمثّلاً باليوتوبيات."

 ولا أظنّ الدكتور سلامة يرمي من كلامه هذا إلى قطع صلة ثقافتنا الحديثة بالتراث، كما لا أظنّه يستصغر أهمّيّة اليوتوبيا في تكريس القيم النبيلة ودفع الإنسان إلى النضال من أجل الأفضل والأرقى، ولكنّه يرمي إلى مزج الثقافة بحياة الناس، وانغماسها بقضاياهم الوطنيّة والاجتماعيّة، وتحويل المعرفة إلى سلوك، والإسهام في تربية المواطن على الاهتمام بالشؤون العامّة، ودفع الناس، ولا سيّما السياسيّين، إلى البحث عن حلول واقعيّة لمشكلات الواقع، حلول نستنبطها من طبيعة كلّ مشكلة، ومن التجارب السياسيّة والاجتماعيّة الحديثة، لا من بطون الكتب مهما تكن جليلة.

 أمّا إشكاليّة مفهوم الثقافة الوطنيّة الكبيرة في أيّامنا فهي "النكوص"، والمتأمّل في حال ثقافتنا يجد أن التشدّد الأصولي الماركسيّ والقوميّ في التعامل مع هذا المصطلح قد تراجع، ولكن، لا ليحلّ محلّه تعامل ديمقراطيّ حداثيّ، بل تعاملٌ أصوليّ أشدّ قسوة على العقل والإبداع، وفتكاّ بالثقافة، وهو التشدّد الأصوليّ الدينيّ والتراثيّ. نعم، إنّه النكوص، فبدلاً من النظر إلى الأمام صرنا نجد مثقّفين ينظرون إلى الخلف، ويستلهمون الماضي، بل قُل يعيشون في الماضي ويرغبون بجرّ المجتمع إليه.

 كلّ ذلك يدفع إلى الاستنتاج بأنّ المهمة الكبرى في المجال الثقافيّ هي السعي لإعادة بناء الثقافة الوطنيّة، بعد أن تهافت مفهومها السابق، وبعد أنّ شكّل تهافته فراغاً ملأته –وإن مؤقّتاً – أصوليّة ثقافيّة.

 ويبدو لي أنّ معظم المثقّفين في التيّارات القوميّة واليساريّة والليبراليّة أصبحوا مقتنعين بضرورة تجاوز المفاهيم والتصوّرات السابقة، التي ألحقت الأذى –عمليّاً – بالثقافة الوطنيّة. ويطرح بعضهم ضرورة إعادة بناء هذه الثقافة، فالدكتور حسن حنفي، وهو يرى المأزق ويستشعر ضرورة التغيير، يؤكّد أنّ: "الحلّ هو إعادة بناء الثقافة الوطنيّة من الأساس، وإعادة تأسيسها ليس على ثقافة الإكراه بل على ثقافة الاختلاف."

 إنّ وضع اتّجاهات عامّة لإعادة بناء ثقافتنا الوطنيّة، ليس مهمّة باحث أو جماعة أو حزب، بل هي مهمّة مشتركة، بين المثقّفين والسياسيّبن على اختلاف انتماءاتهم وتياراتهم، وهي مؤهّلة لأن تُعقد من أجلها مؤتمرات وندوات، وتُدار حوارات. وأذكر أنّ المفكّر محمود أمين العالم طرح في أواسط تسعينيّات القرن العشرين فكرة عقد مؤتمر للمثقّفين والمفكّرين العرب يبحث في كيفيّة استعادة سلطة الثقافة، وتعزيز دور المثقّفين العرب في مجتمعهم. وقد أيّد كثير من المتقّفين في مصر وبلاد الشام هذه الفكرة، لكنّ المؤتمر لم ينعقد، وربّما لأسباب سياسيّة تتّصل بالصراعات الظاهرة والخفيّة بين السلطات العربيّة. غير أنّ هذه الفكرة يجب أن تظلّ قائمة، كي ترتسم، عن طريق الحوار، مرتكزات الثقافة الوطنيّة الجديدة وملامحها. وأظنّ أنّ من المفيد أنْ يلحظ الحوار الجادّ النقاط التالية:

1 – الانتقال من الأحاديّة إلى التعدّديّة، ونشر ثقافة الاختلاف والتنوّع وقبول الآخر.

2 – توسيع طيف مفهوم الثقافة الوطنيّة، ليشمل كلّ ما يعزّز لدى الناس الذوق الجماليّ والمتعة النظيفة. إنّ كلّ ثقافة تُناهض التخلّف، وتُقوّي النزوع الحداثيّ، هي ثقافة وطنيّة، سواء توافقت أم اختلفت مع توجّهات هذا الحزب أو ذاك، وهذه الحكومة أم تلك.

 3 – نشر الثقافة العصريّة الحداثيّة، والربط بين الوطنيّة ومحاربة التخلف، وفتح النوافذ أمام الثقافة العالميّة بكلّ ألوانها وهويّاتها، والخلاص من وهم "النقاء الثقافيّ" الذي، تحت، عنوانه تُغلق النوافذ ويُحارب التجديد وتُرفض الحداثة. قد يقال: نحن في حاجة إلى مصفاة، إلى مقاييس لتمييز الصالح من الطالح في الثقافات الوافدة. هذا الكلام، على ما فيه من حسن النيّة، أدّى وسيؤدّي إلى شيء من الانغلاق الثقافيّ. أمّا المصفاة والمقاييس فهي الحياة ذاتها، ومصالحُ المواطنين، والثقافة الجادّة الحرّة، وانتشارُ العلم، وارتفاعُ مستوى الناس الثقافيّ واستيعابِهم الجماليّ.. وبهذا المعنى تكون الثقافة الوطنيّة هي كلّ المعارف والإبداعات التاريخيّة والمعاصرة، المحلّيّة، والوافدة التي استوعبتها ثقافتنا وأصبحت مؤثّرة في عقول شبابنا. أمّا حصر الثقافة الوطنيّة بمضامين سياسيّة فهو عودةُ إلى المنطق الذي أدان قصيدة وصفي قرنفلي، وفصَلَ أدونيس ورئيف خوري.

 4 – تعزيز نزعة الشكّ لدى المثقّف، وبالتالي لدى الناس، فالثقافة الحقيقيّة هي التي تبثّ في العقول والنفوس قلق الشكّ الذي يولّد التفكير البنّاء، بدلاً من طمأنينة اليقين التي تدفع إلى السكون والتسليم. هذه الفكرة تذكّرنا بقول المعرّي:

أمّا اليقينُ، فلا يقينَ وإنّما أقصى اجتهادي أنْ أظنّ وأحدسا

حُيّيتَ يا أبا العلاء.. ودُمت خالداً، فكم سترتقي أفكارُنا وتجمُل حياتنا إذا ابتعدنا، مثقّفين وسياسيّين، عن اليقينيّة.

*محاضرة قُدِّمت بدعوة من اتحاد الكتاب العرب - فرع حمص في 27/10/2014

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.