3

:: التدفّق الحرّ للمعاني والأفكار! ::

   
 

التاريخ : 19/10/2014

الكاتب : فاطمة المزروعي   عدد القراءات : 1367

 


 

 

 

عندما تتحول جلسة النقاش إلى مجرد أفواه تتحدّث وأذهان مغلقة، ويريد كل طرف أن يثبت أنه على حقّ، فقد تنتهي هذه الجلسة بألفاظ وإهانات شخصية، وفي أبسط الأحوال قد تنتهي دون فائدة تذكر، وهذا ما يسمّى بـ"الحديث الإقصائي"، فالشخص المجادل مؤمن تماماً بصحة ما يقوله، وأنه يفهم كل شئ، والطرف الآخر على خطأ، لذلك سيؤدّي دور المعلم، وسيحاول إقناعه بأنه لا يفهم شيئاً! يُقال إن أعضاء البرلمان في الدولة البيزنطية قديماً كانوا كثيري الجدل وقليلي الفعالية، وعندما أرادت إحدى الدول غزو الأراضي البيزنطية كان أعضاء البرلمان يجادلون في موضوع "أيُّهم أسبق بالوجود، البيضةُ أم الدجاجة؟!" وطال الحديث حول هذا الموضوع حتى استطاع الأعداء دخول البرلمان، وتمّ إسقاط الدولة البيزنطية! ومن هنا ظهر مصطلح "الجدل البيزنطي"، أي الجدال العقيم الذي لا فائدة ترجى منه، وعندما يصل الجدال إلى نقطة النهاية تجد أنها نقطة البداية. بهذا الصدد، قال رئيس المحكمة الأمريكية العليا لويس برانديس "إن وراء كل جدال إنساناً جاهلاً". فالإنسان المتعلّم الواثق بنفسه وبصحّةِ ما يقول لا يخوض مراءً أو جدالاً عقيماً، بل يتذكّر أسس الحوار والنقاش، فعندما يريد خوض مناقشة علمية تثير العقول والتساؤلات، يفصل بين الشخص وبين فكرته، ولا يقاطع المتحدّث مهما قال، ويلتزم بالأخلاق والاحترام، حيث يكون صوته مسموعاً، وليس منخفضاً بشكل يستفزّ الذي أمامه، أو عالياً فيقلّل من احترامه. غنيٌّ عن القول عدم التلفّظ بعبارات خارجة عن نطاق الموضوع وغير لائقة. الحوار نقيض الجدال، فبينما يولِّد الأخيرُ الضغائنَ والأحقاد ويصيب الإنسان بالتوتر والغضب بلا فائدة، نجد أن التحاور يمثل الهدوء والتجانس والتفاوض المنطقي، من أجل الوصول إلى الصواب والحق، دون الشعور بالغضب أو أخذ الموضوع بشكل شخصي.

 "الحوار" كما يعرّفه كتّاب الحوارات الحاسمة: "هو التدفُّق الحر للمعاني والأفكار بين شخصين أو أكثر"، عندما تقال الأفكار والآراء في جلسات النقاش، فإنه لا يمكن أن تتحول معارك طاحنة، بل تتطور وتتُّم تنميتها حتى يولد من الفكرة عشرات الأفكار. كذلك عندما يكون الذهن مفتوحاً مستعداً لتقبُّل الحقيقة مهما كانت، فإنه يسهم في تصحيح المفاهيم والمعلومات الخاطئة، وتظهر خبرة ومدى ثقافة المتحاورين في جوٍّ علميٍّ يتمتّع بالهدوء والاتّزان.

 من أهم الخطوات لكي يكون الحوار ناجحاً أن يحترم المتحدّثون بعضهم وينصتوا لما يقال لهم، كما يقول الأديب والصحافي كريستوفر مورلي: "هناك طريقة واحدة فقط لكي تصبح متحدثاً جيداً، وهي أن تتعلّم الإنصات". فالإصغاء للطرف الآخر والاستفادة من طرحه وكبت جماح النفس عند الرغبة في الجدال، ينمّي الحوار ويجعل الفائدة منه تتضاعف. إن الإنصات يعطي الطرف الآخر المجال لطرح فكرته وشرحها والردّ على أفكار وآراء الطرف الآخر بكل شفافية وحرية. وقد عُرف أن العرب قديماً كانوا يقولون للطلاب: "رأس الأدب كلّه الفَهم والتفهُّم والإصغاء إلى المتكلّم"، ومن هنا يظهر أن الحوار لا يفيد في إثراء العلوم والأفكار فقط، بل في تنمية وصقل شخصية الإنسان وتحسينها، فهو يجعل منه صبوراً وهادئاً، ويعلّمه كيفية التفكير بمنطق، والقدرة على التعبير والتحدّث بحيث يختار الألفاظ المناسبة في الوقت المناسب.

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.