3

:: "غدي" بطل صامت لم يلعب دوره ::

   
 

التاريخ : 11/01/2014

الكاتب : ميشلين حبيب   عدد القراءات : 2097

 


 

 

 

يطرح فيلم "غدي"، الذي هو من كتابة جورج خبّاز وبطولته ومن إخراج أمين درّة، قضية الاختلاف بشكل عام؛ الإنسان المختلف عن الآخر بلونه ودينه ومركزه وماله وشكله. وتدور أحداث الفيلم حول قصة وجود الطفل غدي المختلف في حيّ لبناني نموذجي يدعى حي المْشَكَّلْ ورفض هذا الحي له، إذ يعاني غدي من متلازمة داون (أو ما يُعرف بالمفهوم الخاطئ بالطفل المنغولي). ويطرح الفيلم أيضاً فكرة تفضيل الصبي على البنت إذ هو الأهم لاستمرارية العائلة، وكذلك موضوع النفاق والأفكار المجحفة والتحيّز والأحكام المسبقة. فبينما تكتظ النفوس بالاختلاف الغير ظاهر للعين مما يؤمّن لهم غطاء جيداً، يظهر اختلاف غدي للعين وتختبئ نفسه النقية. ويدعو الفيلم بطريقة غير مباشرة ومسلّية الى تنقية النفوس والمحبة وعدم الكذب على الرب المتمثل في الفيلم بمار الياس شفيع الحي الذي يحمل نصف أبنائه اسم الياس. وفي الفيلم أيضاً احتفاء بالموسيقى وتصويرها على أنها شفاء للنفس.

 

على أثر توقيع أهل الحي عريضة تُجبر والد غدي، لابا (جورج خبّاز)، على وضعه في مؤسسة خاصة كي يستريح الحي من أصواته العالية الغريبة والمزعجة، وطبعاً دون ذكر نيتهم الخفية بالتخلص منه لعدم تحملهم رؤية شكله المختلف الذي تعبّر عنه نساء الحيّ بالقول "ألله ينجّينا" وكأنه مرض أو عقاب أو وحش مخيف، يلجأ الأب إلى خطة بريئة لحماية ابنه الذي لا يطيق فراقه لمنع أهل الحي من التخلص منه، فيقنعهم بأنه ملاك وأنه قادر على تحقيق دعواتهم وطلباتهم، يعني جعل منه قديساً مثل مار الياس. ولإنجاح هذه الخطة، استعان لابا بالأشخاص المغبونين في الحي والأقل شأناً في نظر أهله، وذلك بلفتة من الكاتب لتسليط الضوء على هؤلاء المظلومين بسبب أفكار مجحفة وأحكام مسبقة تتعلق بلونهم أو مشاكلهم أو فقرهم أمثال ابراهيم الأسود والشاب المخنث وكركر الرجل المشرّد المُحّب. وبيّن أنهم الوحيدون الجديرون بالثقة والصادقون الذين يعرفون المحبة على عكس أهل الحي الباقين الذين خلال تلك الخطة بيّن لابا عيوبهم ونواياهم السيئة وكشف أسرارهم وعلّمهم المحبة. وقد حوّله خبّاز الى ملاك لأنه هكذا يجب أن يُنظر الى الطفل المختلف كما ينظر إلى الأطفال الآخرين فهو عطية من عند الرب. ومن اللفتات الأخرى خروج خبّاز عن المألوف بحصول الرجل المسكين اللطيف، لابا، الذي كان مختلفاً في طفولته إذ كان يعاني من التأتأة، على الحب والزواج من الفتاة الجميلة التي يتمناها الجميع لكنها اختارته هو.

ولاحقاً في الفيلم عندما يكتشف أهل الحي خطة الوالد، تكون المحبة قد استولت على عقولهم وضمائرهم وقلوبهم وفتحت أعينهم فلا يعودوا إلى خطتهم السابقة بالتخلص من غدي وإنما ينظرون إلى التغيير الذي حصل في داخلهم ويعتنقونه. وهكذا يكون مار الياس شفيع الحي قد استجاب لهم من خلال هذا الطفل مع أن والده قد جعله قديساً في مصافه؟!

دون شك يحتوي الفيلم على لمسة إنسانية تمس القلب وقصة الملاك الذي حقق طلبات أهل الحي لا يمكن اعتبارها كذبة لأنها تحققت بفعل إنسان. فرسالة الفيلم تقول بأن إمكانية تحقيقها تحتاج إلى محبة وإيمان ونية صافية وضمير حي لأن ذلك يكمن في داخلنا وداخل إيماننا.

 

لكن من جهة أخرى لم يعالج الفيلم أمراً اساسياً: دور الطفل المختلف.

نرى لابا في البدء عندما أخبره الطبيب بنمو الجنين البطيء محتاراً وخائفا من الاحتفاظ به بعكس زوجته، فيلجأ إلى أستاذ الموسيقى (أنطوان ملتقى) ملهمه ومحطّ ثقته الذي يلفت نظره إلى أن ولادة الشخص المختلف في هذا العالم هو قرار من الله وأن الله يجعل للشخص المختلف دوراً ليلعبه فيقول له: "خلّي ابنك يلعب دوره ... ولو كان في echo، أي التصوير الما فوق صوتي، كنا خسرنا موزارت". لكن ما لم نره في الفيلم هذا الابن يلعب دوره، فقد لعب الأب الدور كله عنه. وأجد أن ذلك لم يخدم تغيير النظرة إلى الأطفال المصابين بمتلازمة داون والقادرين على لعب دور في الحياة. فالفيلم يُظهر غدي سلبياً وصامتاً لا دور له ولا يستطيع فعل شيء سوى إطلاق أصوات مزعجة ركّز عليها الفيلم أكثر من أية أمور أخرى. وكأن غدي كان حجة فقط للقيام بخطة الملاك.

في رأيي، لم يتمكن الفيلم من ترك بصمة. فهو لا شك أثار مسألة تقبّل الطفل المختلف، لكنه لم يتمكن من ترك بصمة عميقة إذ أن الفيلم لم يعالج المسألة الأساسية ألا وهي مقدرة الأطفال المصابين بمتلازمة داون على لعب دور مهم في المجتمع مثل الآخرين.

أما من الناحية السينمائية فقد تميّز الفيلم بتقنية تصوير عالية وتوافق الإخراج مع سلاسة القصة وإنسانيتها. لكنه انحصر في منزل واحد تقريباً ومحل الحلاق ومحل اللحام وشارع واحد، الذي يبدو أنه سوق البترون العتيق، مما جعلني أظن أن الفيلم ذات ميزانية منخفضة لأكتشف بعدها أنه قد كلف مليون دولار ونصف المليون. أجد أن فيلم غدي هو أقرب إلى (telefilm) فيلم تلفزيوني أكثر منه إلى فيلم سينمائي.

من الناحية التمثيلية يجمع فيلم غدي عدداً بارزاً من الممثلين المحترفين: انطوان ملتقى، كميل سلامة، منى طايع، كريستين شويري، رودريغ سليمان، لارا مطر، جوزيف اصاف، كارولين لبكي، انطوان الحجل، اسعد حداد، جيزيل بويز وسيرفارت فازيليان الى جانب ايمانويل خيرالله بدور غدي. وهنا يجدر التنويه بأداء كميل سلامة الذي لعب دور الحلاق المنافق المحب للمال باحترافية عالية ظهرت بحركات ولفتات بسيطة أدتها الشخصية، وأداء أنطوان حجل المقنع والطبيعي، وكريستين شويري التي لعبت دور المومس برقة ولطف يتوافقان مع جو الفيلم العائلي.

أما جورج خباز فلم يخرج من دور الرجل المظلوم اللطيف الذكي الذي عوّدنا عليه في مسرحياته، وقد ظلل على الآخرين. عائلته كلها صامتة زوجته (لم تتفوه بأكثر من أربع أو خمس جمل) وابنتيه (تكلمتا مرة واحدة) وابنه (لم يتكلم أبداً).

وخلال مشاهدة الفيلم يتولّد لدينا الانطباع بأن جورج خباز هو مقابل مجموعة الممثلين بأكملها ويعود ذلك إلى إثقال الفيلم بالشخصيات الثانوية ربما لوجهة نظر معينة لكني لا أجد أن ذلك قد خدم الفيلم أبداً.

إن الموضوع المطروح في الفيلم مهم والدعوة فيه الى المحبة أهم، لكن من الناحية الفنية والمعالجة كنت أنتظر شيئاً أهم وأقوى. واسم جورج خباز هو الذي جذبني لمشاهدة فيلم غدي وفضّلت مشاهدته قبل حبة لولو وعصفوري وبيبي، لكني لم أخرج من الصالة مع عبارة فيلم رائع وجيد كما توقّعت وإنما مع عبارة فيلم لا بأس به.

 

 

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.