3

:: رئيس مصر القادم ::

   
 

التاريخ : 21/10/2013

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1326

 


 

في طفولتنا كنا نذهب كل يوم خميس إلى سينما "الشرق" القريبة من منزلنا بشارع خيرت. نبدأ الأمسية بكوب سوبيا بقرش صاغ ثم نشترى تذكرة دخول بثلاثة قروش إلى "الترسو". معظم الأفلام التي شاهدتها هناك كانت عن رعاة البقر في الغرب وبطلها اللامع هو جاري كوبر المنهمك في مطاردة الأشرار من أول لقطة إلى آخر لقطة من دون أن ينزل من على حصانه لحظة واحدة. في أحيان كثيرة كان الحصان وليس الممثل يثير دهشتي بطاقته على الجري متحمّلا ثقل النجم العملاق فأهمس للحصان في سري: "والله أنت اللي شايل الفيلم "! بطل تلك الأفلام كان بالنسبة إلينا "الشجيع". نتعجب بسرور ونحن نراه يمضي تحت وابل من الرصاص والبارود يتفجّر حوله والسهام تنهمر عليه لكنه يخرج من كل هذا سالماً بياقة قميصه مفرودة كما كانت وأحسن! وإذا بدا الذهول على أحدنا صاح فيه الثاني بحرارة: "ده الشجيع ياجَدَع"! أي أنه البطل لا يمسه أذى ولا يطاله جرح!. حين كبرنا وعركتنا الحياة أدركنا أن أبطال الأفلام لا يتعرضون للأذى، أما أبطال الواقع فغالبا ما تطالهم المعارك بجراحها، وأحيانا يموتون أو يُقتلون فيها.

معظم زعماء الثورات في العالم تعرّضوا للنفي والموت. أحمد عرابي كان قاب قوسين من الإعدام ثم نُفي إلى سيلان لعشرين عاما عقاباً له على اعتقاده بأننا "لسنا عبيداً ولن نورِّث بعد اليوم". عمر المختار تم إعدامه في 16 سبتمبر 1931 وظلّت حيةً من بعده صيحتُه العظيمة "لا تحني رأسك فقد لا تُتاح لك الفرصة لرفعها مرة أخرى"! لينين تعرض لمحاولة اغتيال في روسيا عام 1918 على يد اليهودية "فانيا كابلان". سعد زغلول تمّ نفيُه إلى مالطا في مارس 1919. غاندي تعرّض لستِّ محاولات اغتيال وسقط صريعاً في 1948 بثلاث رصاصات أطلقتها عليه امرأة هندية. عبدالناصر تعرّض لمحاولةٍ لاغتياله من الإخوان في أكتوبر 1954. نلسون مانديلا قضى نحو ثلاثين عاماً في زنزانة. جيفارا اغتالوه في أكتوبر 1967. مارتن لوثر كنج اغتالوه في أبريل 1968. ياسر عرفات توفي بالسمّ في نوفمبر 2004. وسنجد قائمةً طويلة أخرى للكتاب والمفكرين "الشجعان" الذين تعرّضوا للاضطهاد والملاحقة عبر التاريخ. أما جاري كوبر، وجريجوري بك، وشون كونري، وغيرهم من أبطال الشاشة في الستينات فكانت لديهم حَصانةٌ ضد الخطر، تجتمع على الواحد منهم جيوش الأمم كلها فينتصر عليها بمفرده في الجو والبر والبحر من دون أن تبتلّ علبة سجائره أو تنطفىء لمعةُ حذائه البراق. حين كبرنا أدركنا أن "الشجيع" في أفلام الطفولة شيء، و"الشجيع" في معترك الحياة الاجتماعية الواقعية شيءٌ آخر. ولسبب مجهول، يبدو زعماء المعارضة عندنا مثل "شجيع السيما" محصّنين ضد المخاطر يخرجون من كل ورطة مبتسمين وياقات قمصانهم مفرودة ونظيفة، بينما يموت جيكا عصفور الثورة، وغيره من الشباب الذين يقتحمون النيران. في السينما قد تهوى ذلك البطل الخارق الذي لا يتأذّى، لكن في الواقع ستعشق جيكا وسالي والحسيني أبوضيف وغيرهم من الشهداء الذين تطالهم الطعنات وينفذ الرصاص إليهم. في السينما تكون الصورة هي الأساس، وفي الواقع يكون الفعل هو الأساس. ولسبب مجهول فإن معظم وجود زعماء المعارضة عندنا يتجسّد على شاشات التلفزيون وفي صور الجرائد، أما الفعل فيقع على عاتق "عمر"، بائع البطاطا الصغير. البرادعي على سبيل المثال لم يتعرّض لأي تهديد أو خطر حقيقي ماعدا مرّة كان يُدلي فيها بصوته في مارس 2011 بشأن التعديلات الدستورية في مدرسةٍ خلف قسم شرطة المقطّم ورشق الأهالي سيارتَه بالحجارة وأجبروه على الهرولة والهروب، واحتفظ بعدها بوجوده السياسي في الصور بعيدا عن بطولات الواقع. أما السيد البدوي رئيس حزب الوفد فتلقّى صفعة على قفاه في ميدان التحرير في نوفمبر 2012 وحافظ بعدها على وجوده في "الصور". أيمن نور كان الوحيد الذي سجن في ديسمبر 2005 لكن لسبب يتعلّق بتزوير التوكيلات لحزبه. بينما سقط نحو ألف شهيد في 25 يناير غير الذين استشهدوا بعد ذلك. زعماء المعارضة عندنا من النوع الذي يقال عنه "ده الشجيع ياجَدَع" أي أنه لا يصاب بضرر ولا يموت، لأن المعاناة والموت في الثورات من نصيب البسطاء الذين لا يطمحون إلى زعامة أو منصب أو قطعة من كعكة السلطة. وقريبا ستبدأ في مصر الانتخابات الرئاسية، وستجد أن كل أولئك قد اندفعوا إليها، على أساس أن "الشجيع" يظلّ حياً حتى نهاية الفيلم، بل وعادة ما يفوز في النهاية بالكنز المخبّأ أو بالأميرة الجميلة فيأخذها على حصانه ويرمح بها ليقضي ليالي الهناء والسرور. أما نحن المتفرجين فسنرجع إلى بيوتنا مبهورين هاتفين "ده الشجيع ياجَدَع"!.

لا نريد أبطالاً في انتخابات الرئاسة القادمة. البطل الوحيد الذي سأعطي له صوتي هو "برنامجٌ" اقتصاديٌّ وسياسيٌّ مُحدّدٌ ومُعلن. لقد أصبحنا في أمس الحاجة إلى انتخاب "برنامج" يحكم مصر!.

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.